اِنفلات – قصة : نجيب الخالدي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

 يتهافت على الاستجابة، يتلهف على تلبية الطلب وأصبعه يعانق عنان السماء في إلحاح عنيد، لا يكتفي بتمديد أصبعه، بل يدعمه بالوقوف منتصبا تحت اندفاع الرغبة في الظفر برحلة. المسافة قصيرة، لكنها تعني الكثير له، فهي ليست مجرد خطوات خارج الحدود، لكن الوقوف بجانب السبورة فرصة مواتية للتخلص ولو مؤقتا من زمن القيد.
يغدو الفضاء أمامه رحبا، أو قل مترامي الأطراف مثل سماء زرقاء يوم عطلة، هكذا يستشعر اللحظة، غنيمة ثمينة تساوي سعادة هائجة كموج، لا تضاهيها سعادة غير تلك التي يحلق في رحابها نبضه خارج الأسوار.
- أستاذ، أستاذ... أوزّع الأوراق؟؟
سؤال يحمل على شفتيه الرجاء، وقد ينزاح إلى توسّل أو إلحاح مؤثر من أجل الفوز بهذه العملية، عملية يتوق من خلالها إلى الحركة، وإذا كان الفضاء مغلقا، فهو مفتوح مقارنة بالحيز الذي من المفروض أن يلتصق به لفترة يحس بها دهرا لولا اقتناص مثل هذه اللحظة، تكسرُ ضيق الحجز وتحقق حلم التخلص من قبضته. يعي جيدا أنها مثمرة، لكن تحقيقها متعب مثل تسلق جبل نحو القمة.
- أستاذ، أستاذ، مبيّض...
تنبلج من شفتيه ابتسامة معلنة ولادة حظ جميل. تنقله خطى تتفنن في التباطؤ صوب زميل يتخيّره بإحكام؛ هناك. يتمصّص زمنا لذيذا ظفر به ويطمح إلى الاحتفاظ به طويلا، لذلك يسلك الطريق الطويل، فيتحسس اللحظة باللحظة، ويترشّف الحركة بالحركة، وفي مساره ينثر الكلام، يعقد الصفقات، يبوح بأسرار، يبرر مواقف، يسطر برامج، يمرّر أشياء يصعب تبيّنها... كل هذا في لمح البرق وبمهارة فيها الكثير من السحر الخارق، لا يتقنه إلا وهو في دبيب حركة أو على بساط حلم زهيّ الألوان.

- أستاذ، أرجوك يا أستاذ...
يفتح الباب، "واثق الخطوة يمشي ملكا"، يستنشق الهواء أريجا، يعانق صدر الساحة، شجيرات الساحة، وكل الأشياء في الساحة صغيرة أو كبيرة. بخفة تخدع البصر يداعب بقدميه كومة ورق منكمش، يقذفها بعيدا، يقفز عاليا في ابتهاج المنتصر، يعبر الممرات القصيرة والطويلة، من جنبات النوافذ يبثّ تحايا ويستقبل أحرّ منها... ولما تنتهي حدود جولته، يتقفى خطو الإياب، ويغتنم المسافة في النط من جديد وهو يلقي بحركات مجنونة في كل اتجاه...
سفر قصير في الزمن، لكنه ممتد في النفس، شهي في التناول.
أنا أشوّش "إذن أنا موجود"
إنها فلسفته، موقف من الوجود، رد فعل على حتمية الالتزام بالمكان والرغبة الملتهبة في التحرر من رِبقته الضيقة، لهذا يسافر على صهوة حكي لا ينتهي مع زميل بجواره يقاسمه نفس الإحساس والرغبة، لكن تتوقف وشوشات الحكي توجّسا من عصا التهديد والعقاب، ليعود تدفقها من جديد غامرا عابرا فجاجا وفجوات في تجلّ وتخفّ.
ما معنى أن يكون فارغا من التشويش، من فوضى صغيرة مألوفة معتادة.. يعني أنه سيفقد حتما انتماءه الذي يمنحه الحياة صادحة، فالمكان خارج الحركة موت محقق، مقبرة باردة بصمت الموتى. هو لا يريد أن يموت، لهذا يناضل من أجل الحياة، حياة بمفهوم زمني يشحنه بحب البقاء والقدرة على الاستمرارية ومواصلة الحضور في عوالم انجذب فيها لإغراء لا يقاوم، إغراء ثمار متدليات من باسقات الشجر...
هذه المرة يبرح مكانه في احتفالية معلنة، في خضم الضجيج والصراخ وتعالي اللغط يذوب، يركب فرحة غامرة مثل فرحة عيد تنسيه زمنا، وتحيي آخر جديدا بَشّر به رنين عذب شهيّ تمادى ترقّبه.

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة