المدينة الشاحبة -قصة: الحسين لحفاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ليالي الشتاء جافة وقاسية، وهذه المدينة البائسة القابعة تحت جناح الضباب الكثيف تحولت فجأة إلى مدينة للأشباح. ما إن يحل الليل وتتدحرج الشمس وراء الجبال حتى تصبح صحراء ممتدة من السكون والفراغ. يهجم الظلام بعنف على الشوارع والأنهج والأزقة. تُوصد الأبواب وتُسدل الستائر على النوافذ بعد إحكام غلقها. تختفي كل مظاهر الحياة إلا من بعض الأضواء التي تنوس من الفتحات الصغيرة عبر ثقوب الأبواب والنوافذ أو من بقايا الفوانيس التي لم تقتنصها حجارة الصبية العابثين أثناء النهار.
ليل هذه المدينة موحش لا يخترقه سوى صوت ناقوس الكنيسة العتيقة التي تتوسط الشارع الرئيسي الطويل الممتد في استقامة كطريق يعبر الصحراء بلا تعرجات أو التواءات. لا أحد من السكان ينبئك متى أُنشئت تلك الكنيسة أو من أنشأها. ألفها الناس وألفتهم. ألفوا دقات ناقوسها الرتيبة المكرورة. ألفوا ألوانها البسيطة الجذابة. ألفوا أنوارها الساطعة. ألفوا أناشيد الآحاد يرددها المصلون في خشوع وانسجام. يشعرون بالفقد كلما صمت الناقوس أو أُطفِئت الأضواء.
يحاذي الكنيسة من الجهة الشرقية مسجد قديم بصومعته السامقة. يرتفع من أعلاه صوت المؤذّن عند كل صلاة، فترى الناس يهرعون إليه يلجون عبر أبوابه الكثيرة وقد غُلّفت أرواحهم بهالات قدسية سرعان ما ينزعونها بعد الفراغ من الصلاة، يُعلّقونها على المشاجب ثم يخرجون لاستقبال الحياة بما فيها من خبث وعنف وقسوة.

مع تقدم الليل تبدأ الأضواء في الانطفاء، كأن أصابع خفية تضغط كل مرة على زر، تبدأ بأنوار الأزقة ثم الأنهج ثم الشارع الرئيسي. وتقاوم بعض الأضواء المنبعثة من نوافذ العمارات والبيوت لكنها سرعان ما تنهار، فتدخل المدينة في عتمة موحشة وصمت مطبق. ضوءان يظلان متقدين طوال الليل، ضوء الكنيسة وضوء المسجد. وعندما تخمد أصوات البشر تضج المدينة بأهازيج الصراصير ومواء القطط ونباح الكلاب وعوائها. وتصبح الشوارع مقفرة. تدرب الناس على هذه الحياة وألفوها.
جابر المسعاوي الوحيد الذي ترصده عيون الحيوانات وهو يذرع الشوارع جيئة وذهابا. نفرت منه في البداية، لكنها سرعان ما ألفته. روّضها فأنِست به. صارت بينهما لغة خاصة. ما إن تسمع صفيره حتى تهرع إليه، تتشمم رائحته، تبصبص بأذنابها وتحوم حوله، ترحب به. من جيب معطفه يُخرج لها ما جمعه من خبز وبقايا طعام ثم يقسمها بينها بالتساوي. يُطعم كل فم بيده، لا مجال للمشاحنات بينها. الكل راضٍ بما يُقدَّم له.
جابر المسعاوي قديم في هذه المدينة قِدم كنيستها ومسجدها، نبت فجأة في شوارعها. تبحث عنه نهارا فلا تجده كأن الأرض تبتلعه، وفي الليل يتسربل بظلامها وتحتويه شوارعها المظلمة الموحشة. غادر قريته النائية بعد أن خاض صراعا مريرا مع أهلها بعد وفاة والده، وهُزم واغتُصبت أرضه. جرّدوه من كل ما ملك أبوه. قالوا له "الأرض لمن أحياها، ونحن أحيينا أرضك فامتلكناها". كان صغيرا ووحيدا وعاجزا. هجم ليلة على المحاصيل في البيادر وفي الحقول وأضرم فيها النار بعد أن سكب فيها كل الغضب الذي اعتصر قلبه وفتّت فؤاده، وبعود ثقاب واحد انتقم منهم. ثم وقف يصغي إلى طقطقة السنابل الحبلى بالحبوب الذهبية الناضجة. مكث يتأمل ألسنة اللهب المتصاعدة مثل نيرون عندما أحرق روما. أحال كل شيء إلى رماد. ترك البيادر أكواما من الرماد والحقول مساحات ممتدة من الانتقام والسواد وجثث الفئران والصراصير التي باغتها الموت من كل جانب.
أمضى جابر سنتين في سجن حربوب ثم غادره. يذكر يوم خروجه من تلك الغياهب المظلمة أنه رأى الدنيا أضيق من خرم إبرة. رأى جراح روحه فاتحة ثغورها نكاية فيه. قرر رتقها. رأى الكفر والعناد والخوف والظلم والجبروت، رأى الجبن الخوف والتردد يعصف بالنفوس فيحيلها جمادا. رأى الناس يتربص بعضهم ببعض مثل الذئاب الضارية، سرعان ما تنشب بينها المعارك الطاحنة، فتُسفك الدماء وتُهتك الأعراض وتداس الحرمات وتدنس. يضيق المكان فلا مجال لبقاء قائدين أو قويين، الساحة ضيّقة لا تسع اثنين. إما منتصر باسط نفوذه رافعا أعلام النصر، وإما مهزوم راحل ذليل منكس الرايات. مبدأ الثالث المرفوع في أبهى تجلياته.
وصل إلى هذه المدينة الملوثة هروبا من لوثة أشد. جراحه النازفة لم تلتئم، ظلّت فاتحة فاها متقيحة، ويده فارغة لا شيء فيها.
وحده يذرع هذه الشوارع الموحشة ليلا، لا يهاب الظلمة ولا يرهب الوحدة. رذاذ خفيف بدا يتساقط، فبلل أسماله البالية وشعر رأسه المجعد. ها هو يحث الخطى، يعبر أمام الواجهات المغلقة، يمر أمام المقاهي والحانات الخرساء الصماء. هدّه الجوع والإعياء. يُمضي الليل كله يلفظه زقاق إلى زقاق ويسلمه حي إلى حي. أشعل سيجارة وانتحى زاوية وتكوم فيها ونام. رأى في منامه خيالا يدنو منه، لم يجفل جابر ولم يتحرك. دنا الخيال أكثر. جلس الخيال حذوه، أسند ظهره إلى الجدار وجلس وبدأ يدمدم محدثا صوتا كهزيم الرعد. وشيئا فشيئا تحول الصوت في الحلم إلى حقيقة فإذا هي دمدمة الرعد. فتح جابر عينيه، فإذا سواد الليل قد اشتد، وأصوات رعود مخيفة تهز صمت المدينة، والبرق يخترق الظلام بلمعانه المتواصل.
انهمر الماء كما لم ينهمر من قبل، كأن السماء قد تحولت إلى دلاء وانفلتت. علا الماء فوق الأرصفة واقتحم البيوت دون استئذان، وغاصت البالوعات وفاحت منها الروائح الكريهة، روائح الجيَف والفضلات البشرية. تعالت الأصوات المستغيثة من كل مكان. ضجّت المنازل بساكنيها الذين هرعوا إلى السطوح. وفي لحظة تصدعت الجدران. واختل نظام دق ناقوس الكنيسة، وارتفع صوت المؤذن مرددا الأدعية في خوف وخشوع بعيدا عن مواعيد رفع آذان الصلاة.
نهض جابر المسعاوي ومشى متشبثا بالحواجز الحديدية والجدران والأعمدة الكهربائية والأشجار السامقة حتى بلغ وسط الشارع الرئيسي، فإذا هو يقف على يمينه المسجد وعلى شماله الكنيسة. أراد أن يحتمي بأحدهما. وتساءل في سرّه: تُرى أين يُعبَد الله؟ مشى خطوة يمينا ثم تراجع فخطا خطوة إلى الشمال، ثم التفت. تذكر ما حصل لحمار برودون حين جوّعوه وعطّشوه ووضعوا التبن على يمينه والماء على يساره. تسمّر في مكانه وهمس لنفسه: "علّ الله في الحد الفاصل بين هذين المكانين المقدّسين". استقبل القبلة ورفع يديه ونادى بأعلى صوته، لكن نداءه تلاشى بين دوي الرعد ولمعة البرق، وإذا ضوء مبهر يصيب جسده فيحيله كومة لحم متفحمة. وتاهت دعواته في الأرجاء. وفي لحظة تفتتت كومة اللحم المتفحمة وجرفتها المياه المتدفقة.

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة