الرجال لا يبكون - د.أنور طاهر رضا*

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاسفي يوم من أيام الشتاء الباردة حيث الغيوم الكثيفة والأمطار الغزيرة جاءه عماه معا وأخذاه من القسم الداخلي . وقد قيل له بعبارة مقتضبة أن عليهم أن يذهبوا إلى القرية بسرعة . وما كان صاحبنا يجرأ أن يسأل عن السبب لما يعهد عليه عمه الكبير من جدية بالغة  وصرامة قاسية ، إلا أنه توقع أن هناك ولا شك أمرا جللا قد حصل ، وإلا فما كان هناك من تبرير لأخذه إلى القرية في هذا الوقت المتأخر من الليل ، والمدارس مستمرة على الدوام ، ولا اجازة أو عطلة أو ما يتطلب التعطيل في هذه الأيام ولا التي تليها . لقد مضى أكثر الطريق - الذي لا يتعدى الخمسة عشر كيلومترا - بسكوت قاتل ، فلم ينبس أحد خلال ذلك ببنت شفة قط . وكان هذا السكوت القاتل يشجع على التسريح في الخيال ، وتوقع ما يمكن قد حصل من أمر مهم . وبعقله اليانع الذي لم يتعد ثلاث عشرة سنة أخذ يتفرس في الاحتمالات المختلفة . وكان مركز التفكير في كل مرة ينصب على والدته المريضة بالتدرن الرئوي منذ فترة ليست بالقصيرة .
- أواه ماذا حصل ؟ هل ماتت والدته ؟ انها لفكرة ثقيلة جدا كصخرة كبيرة جاثمة على الصدر لا يمكن أن تزاح أو ككابوس طويل على القلب لا ينتهي أبدا . إنه لا يريد التفكير في ذلك قط . لا ، لم يحصل شيء من ذلك مطلقا . إنها الأوهام والظنون ، الشكوك والوساوس ، ولا شيء غير الوساوس ، والوساوس من الشيطان الرجيم . فعوذ وحولق ، وقرأ سورة الناس والفلق ، ثم رجع يحلق مرة أخرى في عالم الخيال الواسع الشاسع :

- ولكن ماذا يمكن أن يكون غير ذلك ؟ أحادثا غير متوقع ؟ أأمرا لا يخطر على بال أحد ؟ من تكون الضحية إذن ؟ أأبوه هو الضحية أم أحد اخوته أو قريبا من أقاربه ؟ كل ذلك يمكن أن يحصل ، فالحياة لا تخلو من المفاجئات والمفارقات . ولكن لماذا يفكر في البلايا والمصائب فقط ؟ أهذا أمر طبيعي ؟ لماذا لا يفكر الإنسان إلا في المصائب والبلايا في كل امر غامض ومبهم يواجهه ؟ الغموض والابهام امر قاتل للانسان لا يكتنفه إلا القلق والرعب ألا يمكن أن يكون أمرا مفرحا قد حصل ؟ نعم يمكن ، ولكن لو حصل ذلك لما أخذ إلى القرية بهذه الطريقة السريعة والمفاجئة .
وحيث الخيال قد أخذ بصاحبنا مداخل شتى بين ما يبعث على الغم والترح وما يتطلب الفرح والمرح ، ولكن الغم والترح كان يغطي على الفرح والمرح في كل مرة . قطع عمه الكبير السكوت وهو يوجه كلامه إليه واضعا يده على كتفه :
- الرجال لا يبكون يا صابر . وبين ملامح الدهشة والاستغراب لم يستطع صاحبنا أن يتفوه بشيء ، وبقي محملقا بعمه الكبير فترة ليست بالقصيرة ، إلا أن عمه لم يزد شيئا وأدار وجهه في اتجاه آخر . نعم الرجال لا يبكون ، ولا شيء غير ذلك . إنها إشارة الأمر الجلل ، ويبدو أن هذا الأمر الجلل متعلق به بشكل مباشر ، وإلا لماذا يخاطبه عمه في هذا الشأن . ولكن ما هو هذا الأمر الجلل؟ ولمن يكون قد حصل ؟ فلا زال في الأمر غموض وابهام كبيرين . واذا كان الأمر يخصه بشكل مباشر ماذا لو تجرأ وسأل :
- ماذا حصل يا عماه ؟ لا ، لا أبدا ، الأفضل أن يسكت وينتظر ، إنه وإن سأل فلربما يسمعه عمه كلاما خشنا أو يؤنبه ، وهذا ما لا يهواه ويرضاه ، فعمه رجل صعب للغاية ، لا يتوانى في اسماعه ما لا يحبه ويهواه ، وقد فعل ذلك في السابق عددا من المرات ، ولكن الموقف اليوم مختلف جدا عن السابق ، فحاول أن يجمع رابطة جأشه ، إلا أنه لم يستطع ، فالمسألة متعلقة بعمه الكبير . فقرر الانتظار لتكون الظروف مؤاتية أو تاتي تلك الفرصة التي يتم فيها الاعلان عما حصل .
- نعم ، الرجال لا يبكون قط ، ومن يكون هؤلاء الرجال ؟ إنه لا يشك في أن عميه رجلان فعلا ، ولا ثالث غير صاحبنا . وهل هو رجل فعلا ولم يبلغ من العمر غير ثلاثة عشر سنة ؟ نعم إن عمه إنما قصده ، لأنه وضع يده على كتفه ، وخاطبه بهذا القول . فهو إذن رجل أو آن الأوان الذي يكون فيه رجلا ، ويثبت ذلك على الآخرين ، وإلا فلماذا يخاطبه بذلك عمه الكبير الذي تعلوه علامات الرجولة الجادة فعلا .
راح الخيال بصاحبنا مأخذا آخر ، الرجال لا يبكون . ولماذا لا يبكي الرجال ؟ لأنهم لا يملكون الدموع ، لأن دموعهم قد جفت في مآقيهم ، لأنهم يظهرون في موقف الضعفاء ، لأنهم أقوياء ولاشك ، ولا بكاء للقوي . ومن يبكي اذن ؟ فلا خيار إلا النساء ، فالرجال ذكور والنساء إناث . فالبكاء للنساء ولا غير النساء . ولماذا تبكي النساء ؟ لأن دموعهن كثيرة ، لأن دموعهن تسيل بسرعة ، لأنهن لا يصمدن أمام المشاكل ، لأنهن ضعيفات ولا شك . والدموع رأسمال الضعيف دائما وأبدا . وقد انحرم هو من هذا الرأسمال لأنه رجل وقوي . فتساءل في نفسه :
-         هل هذا صحيح ؟ هل أنا رجل فعلا ؟ فأجاب نفسه رغما على أنفه :
-    نعم ، فقد خاطبه عمه بذلك . فعمه رجل ، ويعرف الرجال ، ولو لم يكن رجلا لما خاطبه عمه بذلك . وما دام عمه قد خاطبه بذلك فهو إذن رجل . لقد وضع يده على كتفه . وهذا يعني أنه خاطبه ، ولم يخاطب عمه الصغير . ولماذا يخاطب عمه الصغير؟ فلا أحد يشك في رجولته .
لم يطل الأمر كثيرا وقد أشرفوا على مداخل القرية حتى إذا ما جاؤوها ترجل عماه من السيارة التي كانت تقلهم وتبعهما صاحبنا . كان صراخ النساء وعويلهن في كل مكان ، وكان والده في انتظارهم أمام الباب . وبعد أن سلم الوالد على عميه وضع يده على كتف صاحبنا وهو يقول :
- لقد فقدنا والدتك يا صابر ، كن صامدا يا صابر صمود الرجال . لقد وقع المحذور فعلا ، ها هو عويل النساء في كل مكان ، وهذا هو والده يخبره بالأمر الجلل المتعلق به فعلا . لقد ماتت فلذة كبده ، لقد ماتت والدته فعلا . لقد ماتت حبيبته ، نعم ، لقد ماتت الوالدة الحنونة . كان المطلوب منه مرة أخرى أن يصمد صمود الرجال ، والمطلوب على ما يفهم هو ألا يبكي قطعا . فالبكاء ممنوع على الرجال منعا باتا . وباعتباره رجلا فلا مجال له في البكاء قطعا . أي ظلم هذا ؟ لقد فقد صاحبنا والدته ، وهو لا يستطيع أن يبكي بكاء يذرف فيه الدموع مدرارا ، يملأ بها الأرض والسماء . اذا كان لا يستطيع أن يبكي لفقدان والدته ، فعلى من يبكي اذن ؟ جفت الدموع في المآقي ، وانحبست الآهات والونات ، فلا مجال لإطلاقها أبدا . ومادام صاحبنا رجلا فقد سيطر على نفسه سيطرة تامة ،  فلا بكاء ، ولا عويل ، ولا آهات ولا ونات ، ولا دموع بالمرة .
وعندما آوى صاحبنا إلى فراشه لا يدري أبدا كيف مرت البقية الباقية من تلك الليلة الفجيعة ، وهل ذاقت عيناه النوم أم لا ؟ وكل ما كان يدريه أن عليه أن يكون رجلا ، ومن أجل اثبات ذلك فإن عليه ألا يبكي ، ولا يصرخ ، ولا يذرف الدموع ، ولا يبدي أي شيء يدل على ضعف النساء ، وإلا فقد فقد رجولته ، وصار في مصاف النساء الضعيفات ، وهذا ما لا يرضاه لنفسه . ولهذا فلم يذهب إلى نعش أمه خوفا من أن تضعف نفسه ، ولم يضع رأسه في حضنها الدافئ ، ولم يقل لها :
- رحمك الله يا والدتي فقد تركتنا نحن الاخوة الاربعة ، ورحت عنا دون أي انذار ، ولم تعيشي لتأكلي شيئا من عرق جبيني أنا ، وكان عليك أن تنتظري لكي اتخرج من المدرسة , اعمل واشتري لك ما تشائين ، وهذا ما كنت تتمنينه يا أماه . ولكن الأجل لم يفسح لك بضع سنوات لكي تحققي ما تمنيته . كيف اجازيك يا أماه بعدما تركتنا قبل أن ينضج المحصول ويحين موعد القطاف ؟ ومن سيراعينا بعدك يا أماه وأنا الأكبر فيهم ؟ هل تركت هذه المهمة لي ؟ إنها لمهمة شاقة جدا ولاشك .
وفي اليوم التالي جرت الاستعدادات الكاملة لمراسيم الدفن ، وفي نهاية المطاف رفع التابوت على الأكتف ، وتوجه الجميع نحو مقبرة القرية الموجودة في الجانب الغربي منها حتى إذا ما أتوها وضع التابوت بجانب قبر جاهز . ولم يطل الدعاء والصلاة وقتا طويلا ، وحان موعد وضع الجنازة في القبر . وكان هذا أصعب وقت بالنسبة لصاحبنا لأنه شعر بانقطاع فعلي لكل اتصال مع والدته ، انهم يوارونها الثرى ، لقد بقيت والدته تحت التراب ، ذهبت دون رجعة ، انه الموت الحقيقي فعلا بكل ما له من معاني . إنه الانفصال من الأم التي حملته تسعة أشهر وهنا على وهن ، ثم ولدته وارضعته وسهرت عليه وفعلت كل ما تستطيع من اجل اراحته واسعاده . لم يتمالك صاحبنا نفسه في هذه اللحظة بالذات ، وأخذت الدموع تتساقط من عينيه مدرارا ، وردد دون أن يدري بنفسه :
-         رحمك الله يا أماه لقد كنت أما ونعم الأم . فلفته شخص واقف بجانبه :
-         كن رجلا يا صابر . وقال آخر :
-         كن صابرا يا صابر . وقال آخر :
-         كن صامدا صمود الرجال يا صابر . وقال آخر :
-         البكاء للنساء . وعقبه آخر :
-    الحق أنك رجل يا صابر . وأمام هذه الضغوط المتكررة لم يستطع صابر أن يصبر ويصمد في هذه المرة ، وانفجر فيهم جميعا وهو يصيح بأعلى صوته :
-    أنا لست رجلا ، أنا مجرد طفل في الثالثة عشر من عمري ، دعوني أبكي لأمي ، دعوني أذرف الدموع لأقرب الناس لي ، رحمك الله يا أماه . لماذا يمنعني الجميع من البكاء عليك ؟
وما كانت نتيجة هذا الصراخ إلا وأن أفاق صاحبنا من كابوسه هذا ، ووجد نفسه في أحضان أمه الدافئة ، وهي تصيح به :
-    ماذا دهاك يا صابر ؟ لماذا تصيح بمثل هذا الصياح ، قل لي ما الذي حصل ؟ هل حلمت حلما مزعجا ؟ هل رأيت كابوسا ثقيلا ؟ قال صاحبنا وهو يحمد الله على ما يراه :
-         نعم ، يا أماه ، لقد كان فعلا كابوسا ثقيلا جدا ، ولكن كيف حالك أنت يا أماه ؟
-         ها أنا كما ترى بخير يا ولدي .

 

* أ. د. أنور طاهر رضا
جامعة ايجة - كلية التربية - ازمير - تركيا

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة