كأنَّهُ أنا .. كأنني هُــوَ .. – قصة : رجــب سعد السـيد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاس= رأيتـُـهُ :
     في " على كيفــك ". الموائد شـبه خالية. المكانُ مُحكَـمٌ، والدفءُ يشيعُ في جوانبه. أبرزُ الأصواتِ وقعُ خطوات النادل في تحركاته لخدمة الرواد القليلين، في بداية اليوم. ضوء النهار بالخارج مختنق، يحاول – عبثاً – أن يجد منفذاً بين طبقات السحب السـوداء الكثيفة التي يدفعها الهواء العاصف من اتجاه البحر الثائر. مسَّت إصبعه جدار الكوب. أدرك أن الكاكاو برد. رشـف لآخر مرة منه. تناهت إلى سمعه كلمات تشوبها لكنة أجنبية، ثم ضحكة صغيرة بدت غريبة. كانت سيدة شـــقراء تداعب النادل النوبي.
     تزايدت وطأة المطر بالخارج، وكان لارتطام خيوطه المائلة بواجهة المحل الزجاجية العريضة صوت واضح؛ وكانت الخيوط تجرى في انكساراتها والتواءاتها إلى أسفل. لم يجد بينها خيطا واحداً مستقيما. تنهد ضائقاً. لا يحب من المطر غير رائحته، ولكنها لا تصل إلى فتحتي أنفه في هذا الصندوق الزجاجي الأنيق. تزايدت أبخرة الداخل، وافترشت غلالة منها أسطح الجدار الزجاجي. فقد المكان سحره وميزته كموقع لمراقبة حركة الحياة بميدان " محطة الرمل " في النهار الوليد. أشار للنادل. حاسبه. هــمَّ نصف واقف، وأعـدَّ ساقَـه الاصطناعية للحركة. اســـتقام، وأتخذ طريقه إلى باب الخروج.

= ســمعتُهُ :

     يحكي عن آخر لقاء جمعه وحبيبته، قال :

      حدَّثــتُ الفتاة التي أحبها عن خطتي، بلا تزويق. كانت الكلمات تتدفق منى بنفس الترتيب والإلحاح، كما تصورتها وفكرت فيها قبـلاً. ظننت أن ثمة كلمات ثقيلة قد تجعلها تغوص مني في غياهب الغموض، ولكني لم أستدل على ذلك في ملامح وجهها. كانت تجلس منصتة تنظر في عينيَّ وفي شفتيَّ. أكَّد لي ذلك قولَ صديق مجرِّب إن الفتيات يستقبلن عروض الزواج بشكل مجمل. كانت كلماتها قليلة ومتقطعة وغير ذات معنى؛ وأنا – من ناحيتي – لم أترك لها فرصة للكلام، بل إنني طلبت منها ألا تتكلم الآن، ولكن تفكر، وتحسب حسابها جيداً، ثم تقرر.

     وحين انتهيت من حديثي أحسست بارتياح شديد. وحين جاء الجرسون، كنت أنظر في وادي الأثداء بصدرها. جاءت في أعقاب الجرسون امرأة متسخة الثياب، سوداء الأسنان، تبتسم فتكتشف في وجهها الباهت عينين جميلتين. ألقت أمامنا بعض عقود من فل ذابل، واختطفت النقود من يدي وولت. عاتبتني فتاتي لمبالغتي في تقدير ثمن الزهور الشاحبة، وكنت أبتسم فيما يشبه البلاهة، ولا أتكلم. كنت أدرك أن خطتي مثقَّبـة، وبلا مغريات. رفعت فتاتي كتبها إلى صدرها، واقترحت : هل نغادر المكان ؟. ووقفت تنتظرني أنهض من مقعدي.

= أخبـَـرَنــي :

     صدري يصدر أصواتاً مزعجة ليلاً. نصحني طبيبي بالامتناع عن التدخين، حالاً. وكنت قد اتخذت قرار الامتناع عن التدخين ونفذته بعد تسريحي من الخدمة العسكرية، عقب مباحثات خيمة الكيلو 101 بشهور قليلة. لم يكن صدري- وقتها- متعباً، ولكني نظرتُ لقُـدَّام، ورأيتُ أن دخلي سينقص بمقدار راتبي العسكري كرقيب مؤهـلات عليـا مســـتبقٍ، وكان يوازي ثمن الدخان تقريباً؛ كما أن السجائر كانت توزع علينا، قبل وأثناء عمليات أكتوبر، وكان العساكر يسمونها ( الترفيه )، وكان أفراد فصيلتي يحبونني ويبيعون لي ترفيههم بأقل من نصف ثمنه في السوق. وقبل أيام من مغادرتي وحدتي العسكرية، كنت قد امتنعت عن تدخين السجائر، وإن كنت استجبت لنصيحة المجربين بأن يكون هجر التدخين تدريجياً، فاتخذت البايب بديلاً عن الســجائـر، ثم عرفت تدخين ( المعسِّــل ) في المقاهي. ولازلت أغادر بيتي لأرتمي فوق كرسي في أقرب مقهي بلدي، فأخرج من جيبي علبة المعسِّــل ( نوعي المفضَّـل هو " معسِّـل حسِّــن كيف " ). يأتيني القهوجي، ويرمقني بنظرة قبل أن يأخذ منِّي العلبة ويسمع رجائي أن يتحفني بـ ( بوري ) ســـالك، نظيف الماء، وجمرات احتياطية. غير أن تدخين البوري منفرداً لا يلذُّ لـي؛ كما أن التدخين مع جماعة المقهي في مساءات أيام الجمعة لا يشبعني؛ وكنا نشترك في التدخين من ( بوري ) واحد .. "وديع"، الذي يمارس التدخين بنفس الطريقة التي يمارس بها هواياته : الجنس، وجمع الأحجار والمعادن النفيسة، متأنياً، مستمتعاً، رائق البال؛ و"دردير" و"كامل" اللذان يستأثران بالبوري، ولا يتركانه إلاَّ بعد عديد من التنبيهات والإنذارات المتوارية والعلنية.

     أما من ينغِّـصُ عليَّ – حقاً - متعتي البسيطة هذه، فهو صديقي المثقَّـف السمين "عادل الباشا"، المغرم بتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، وبـردِّ كل الظواهر وأنماط السلوك إلى منابتها الاجتماعية والطبقية، وتفسيرها – كما يقول – داخل حركة المجتمع ككل. وقف في وســط المقهى ينتقدني، في صوت يجمع بين خبرته المسرحية وحكمة المثقفين أمثاله :

" محارب قديم، ورجل بحث علمي، ولاعب دومينو خطير، يجلس مثيرا للصخب في مقهى بلدي، واضعاً في فمه طرف ماســورة عـادم ! ".

= كاشــفني :

     انشـغـلــت زوجةُ صديقي بحل لغز مع أصدقاء طفلها. كانت تجلس بينهم في وضع يتيح لعينيها أن ترصدا مكاننا. أيضاً، ومنذ البداية، كان صديقي يحادث ضيوفه: رئيسه وزملاءه في العمل، وتراقبنا عيناه، وكان يبتسم لنا، ويحيينا بانحناءة رأس كلما التقى بعينيَّ أو بعينيها. لم أكن مستريحاً للفجاجة الغبية التي يدير الأمور بها، وإن كنت لا أستغربها فيه؛ وحاولتُ – طول الوقت – أن أجد في الأمر تسليةً من نوع ما؛ وأحياناً كنت أقترب من حالة الانفجار ضحكاً، كلما فكرت في أسلوب صديقي وزوجته في تقديم ( هذه الخدمة ) لي.

     ملت ووضعت كوب العصير فوق الطاولة المنخفضة. سحبني صوتها : " لم تمسسه ! ".

     أستطيع أن أؤكد أن مساحة البياض في عينيها انكمشت، وفقدت نصوعها المبهر. رفَّـات الرموش السريعة المتوترة تنعي فصاحة لغة قديمة كانت تنطق بها هاتان العينان في بلاغة فادحة مدمرة. هما الآن نائمتان، في غير سحر؛ خابيتان، أنظر فيهما وهما تتكسـران وتختلجان، كأنما تبحثان عن مهرب.

= أســـرَّ  لِــيَ :

     18 يونيه 1967. مقصف الكلية. أجلس وحدي. مائدتي الصغيرة عليها بعض الأوراق ومطفأة مملوءة بنفايات التدخين. الهواء ساخن، والوجوم ينبع من الداخل. كبوة .. طعنة .. جرح نازف. يوم امتحان مؤجَّـل بسبب الحرب. كان موعده الخامس من هذا الشهر.

      بالأوراق كتابات متوهجة ومشروعات عمل ( لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ). تركت كتب الكيمياء وأفرغت قلقي وحزني الثقيل في الأوراق : شــعرٌ وترتيبات .. جئتُ بها فلم أجد غير شـبح امتحان الكيمياء العضوية يسوق الجميعَ أمامه. انتبهت إلى جلجلة ضحكات إلى جانبي؛ وكانت فتاة تتكلم : " لم تكن الحرب شــراً صرفاً .. أتاحت لنا مزيدا من الوقت للاستذكار !".
     التفتُّ إلى المقهقهين، وانطلقت كلماتي قاسيةً. انطفأ مرحهم. رددتهم إلى حقيقة الواقع ومرارته. لملموا خزيهم وصمتوا تماماً.

     فجأةً، وفي ذروة انتشائي بأنني فعلت شيئا إيجابياً، ألقت " علية إسماعيل " برأسها إلى الخلف، وأخذت تستعمل كراستها كمروحة، وتقول في هدوء :

" عبد المعـز متحمس، ويعتقد أنه الوطني الوحيد في مصر .. لماذا كل هذه الأحزان يا عبد المعز ؟ .. بماذا تفيد ؟ ".

     ... فاقتحمتني.
      واكتشفت – بعد زمالة دامت أكثر من ثلاث سنوات – أن علية حلــوة. ملامح الوجه ليست جميلة، بل إنها غير متناسقة، ولكنها تثير في الرائي – أو على الأقل فــيَّ أنا المكتشــف – رغبة طفولية في أن يرى بأصابع يديه، مجتمعةً، حدودَ الملامح .. نعومتَها، وغطاءها الزغبي الأصفر الدقيق، وامتلاءها باللحم. لا يمكن أن تُرى إلاَّ باللمــسِ. ولما كان اللمسُ غير متاح، فإن مجرد التفكير في ذلك يضفي على الإحساس بهذا الجمال الخاص مزيدا من الحـلاوة.
     صارحتهـا برأيي. قهقهـت. أول مرة أراها تطلق العنان لأصوات الضحك العنيف. قالت :
     - " صـدقنـي .. أريدك، فعـلاً، أن تلمس وجهي لترى جمالي، طالما أنك لا تجيد الرؤية إلاَّ بأصابعك .. إنني ســعيدة باكتشـافك هـذا يا عبد المعــز !".

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة