أمـر لا يـعـقـل – قصة : د . إبراهيم ياسين

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسهـل يـعـقـل أن يفكر المرء في نفسه متناسيا الآخرين ممن يعيشون معه في الوطن والبلدة وربما في البيت .
كان قـد جلس في المقهى على أحد الكراسي الأمامية . طلب من النادل زجاجة كوكا كولا ، سأله إن كان يبيع السجائر بالتقسيط أجابه النادل بالإيجاب ، طلب سيجارتين ، التفت إلي يسألني عن الثقاب ، وحين أكدت له أنني لا أدخن بدأ يحدثني عن تاريخ علاقته بالتدخين وبدا كأنه استأنس لحديثي رغم أنني استغربت منه هذه الجرأة الزائدة ، وتساءلت كيف أمكن لشخص ليس بينك وبينه سابق معرفة أن يسترسل معك في حوار من أي نوع كان ، حتى من دون أي مبرر معقول . قلت في نفسي لعله لم يفهم الأمور بالصيغة التي أفهمها بها أو لعلي أنا الذي كنت دائما أبحث عن التفسير المنطقي لأي حالة أو ظاهرة تصادفني ، هل من الضروري أن نخضع كل أمورنا للمنطق ؟ هل نحتاج إلى طلب الإذن لنحدث شخصا ما عما يختلج في صدورنا ؟ أم أن الأمر بسيط لا يستدعي كل هذه القيود . بدأ يحكي قصته ـ كما سماها هو شخـصيا ـ مع السيجارة ، قال لي بأن رفقة السوء هي سبب هذه البلية التي أصابته منذ أزيد من أربعين سنة  .أيامها كان يجمع أعقاب السجائر أمام المقاهي ويحاول الاقتداء بالكبار على خلفية ملصقات كان يراها هنا وهناك تحمل صور رجال يضعون بين أصابعهم سيجارة من نوع ونستون أو مارلبورو وعلى وجوههم علامات الرجولة والقوة .
كان يتخيل أنه ما إن يحمل بين أصبعيه سيجارة حتى يصبح رجلا كامل الرجولة . إلا أن ما أزعجه كثيرا هو أنه لم يكن يحصل إلا على أعقاب السجائر أو ربما معها جزء من التبغ غير المحترق .كانت مشكلتـه في أن يجد سيجارة كاملة غير منقوصة حتى لا ينقص شخصيته شيء ، آنئذ سيتأكد بأنها ستكتمل ويصير مثل الآخرين ممن ينظر الآخرون إليهم نظرة التقدير والاحترام ، لكن أنى له هذه السيجارة المكتملة وهو لا يكاد يمتلك قطعة نقدية . توقف عن الحديث وأشعل إحدى سيجارتيه ، التفت يمينا ويسارا وقال بصوت متهدج ، أين ذهب هذا النادل الكسول ، هل تعلم أن هؤلاء الحمقى من النادلين لا يهمهم سوى البقـشـيـش أما خدمة الزبناء فـأمر لا يدور بخلـدهم على الإطلاق ، وفجـأة صرخ بصوت يملأه الحنق : يا هذا أنا أنتظر المشروب منذ ربع ساعة ، أنا طلبت مشروبا معبئا في زجاجة منذ مولدك وربما قبل مولدك ، ولم أطلب قهوة حتى يحتاج الأمر إلى وقت لتهيئها ، وبالتالي فلا مبرر لتأخرك عن خدمتي ، أم أن الأمر يتعلق بالميز بين الزبناء ، بين من يدفع لك البقـشيش وبين من لا يدفع؟ قل لي : هل قدمت لي قط خدمة ترضيني حتى أدفع لك البقـشـيش ؟ زيادة على ذلك لماذا أدفع لك ؟ ألا تـتقاضى أجـرتك من صاحب المقهى ؟ يجب أن تعلم أن هؤلاء الذين يدفعون لك ولأمثالك هم الحمقى ، أتعتقد أن ثمن ما ندفعه مقابل هذا المشروب رخيص حتى تزاد عليه ضريبة أخرى ندفعها لنادل كسول مثلك ؟ والتفت إلي مخاطبا : أتعلم أن ثمن هذا المشروب التافه الذي طلبته من هذا المقهى يعادل ضعف ثمنه لدى البقال ، لم كل هذا ؟ أمن أجل أن أجلس على الكرسي ؟ ومتى أصبح الجلوس على الكرسي خدمة ندفع مقابلها مبلغا باهظا ؟ أترى هؤلاء الناس يريدون أن يبيعونا الهواء والماء والجلوس قرب البحر وعلى قارعة الطريق ؟ ماذا أصاب هؤلاء الحمقى ؟ قلت لك يا أخي : وقد تنحنح واقترب أكثر لكأنه يريد أن يفشي لي سرا من أسراره ، إن أصدقاء السوء هم من علموني هذه العادة السيئة ـ وقاك الله منها ـ كنا صغارا ، أولاد الحرام استغـلوا سذاجـتـنا وأوهمونا أننا إن استنشقنا من هذا الدخان العجيب نفـثـة تغير كل شيء ، كانت أمنيتنا ونحن في ذلك العمر البعيد أن نتخلص من نظرات الكبار التي يملؤها الاحتقار والاستهجان ، من حين إلى حين كان السؤال يلح علي بشكل مستفز ، متى سأتخلص من استفزاز الكبار ، كيف يمكن لي أن أنال اعتراف الآخرين ؟ لم نجد من يرشدنا ، إذ كان آباؤنا وأمهاتنا تغلب عليهم الأمية بشكل جعلهم لا يلتفتون إلا لمطالب المعدة دون ما عداها من الأمور النفسية والتربوية والعقلية . هنا دخل أولاد الحرام ليملئوا الفراغ الذي تركه أولئك . كانت نصائحهم تسير في اتجاه إثبات الرجولة والتقدير الذاتي اللـذين كـنا محرومين منهما ، ماذا تنتظر من أولاد السوء ـ وقاك الله منهم ـ غير السوء والهم والنكـد ، آه كم يتمنى المرء لو تعود تلك الأيام لعله يستطيع أن يصحح بعض ما ارتكبه من حماقات . أجبته مستفسرا : هل تظن أنك ستمتلك عقلك الواعي هذا في حال تحققت أمنيتك وعدت صغيرا ؟ أجاب على الفور كأنه كان يتهيأ للإجابة ، يا أخي إنها مجرد أمنية لا أكثر ولا أقل ، على أي حال ماذا تنفع الأماني وقد شاخ الجسد ؟ اسمع جيدا : إن أغلب ما أصابنا من الهم والغم كان سببه الجهل والأمية ثم استغلال المفسدين للأمور كما شاءت لهم رغباتهم الدنيئة . مجيئي إلى هذا المقهى مصيبة أخرى لا تقل عن الثانية تأثيرا ، في الوقت الذي نظل فيه قابعين على هذه الكراسي المنحوسة نوزع نظراتنا على هذه وتلك ، من عباد الله ، فإن غيرنا يستغلون أوقاتهم في التجارة والربح ومحاولة تحسين دخلهم المادي بكل وسيلة ممكنة . بالله عليك ماذا نصنع الآن في هذا المكان الموبوء ؟ أترانا أحسنا صنعا حين جئنا إلى هذا المكان الملوث ، أنت والله لا تكاد ترى من بجانبك بسبب الدخان الكثيف ، أحيانا أعتقد أنني مغفل حين أسعى إلى شراء سيجارة أو حتى إلى ارتياد مقهى من المقاهي . منذ مدة سمعت من أحد الأصدقاء أن كثرة المقاهي من علامات إفلاس الدولة في التشغيل والتنمية وأمور أخرى . ساعتها كنت أرد عليه بكل قوة مؤكدا أن المواطن حينما يعمل ويكد في المصنع والمدرسة وفي محل من المحلات التجارية ... يبقى من حقه أن يستريح وأن يلتقي بالناس ليبادلهم الأفكار والمشاعر وربما الهموم . لم أكن أفهم ما كان صاحبي يقصد ، لما بدأت أقرأ أكثر وأعي الأمور بشكل أفضل بدا لي الأمر مهولا والصورة أشد سوادا ، كم من الساعات والدقائق بل وربما الأيام والشهور تضيع في هذه المقاهي ؟ إن الذين أبدعوا هذه العادات السيئة التي نسميها الجلوس في المقهى إن كانت نيتهم صالحة ، فهم إنما فعلوا ذلك ليجد العامل مكانا للراحة في أيام العطل والراحة ، أنظر على سبيل المثال ، في الغرب ، رواد المقاهي جلهم من الأدباء والمفكرين والفلاسفة يأتون ... يجلسون ويتبادلون الحوارات الأدبية والفلسفية والسياسية وغيرها ، أما نحن فمقاهينا يملأها العاطلون ، ومتى ؟ في كل الأيام في الاثنين وفي الخميس بالليل وبالنهار صباحا ومساءا. والله لقد صدق الذي قال بأن المقاهي هي المشروع الوحيد الذي ليس من الممكن أن يفشل في البلاد العربية ، ببساطة لأن رواده لا ينقطعون وما أكثرهم .    
                                    
 د . إبراهيم ياسين .


تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة