ألفة من نوع ما – قصة : د.إبراهيم ياسين

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسوهو في كوخه البئيس ، اعتاد أن يستلقي على ظهره ... يتأمل السقف ...هذه الأخشاب المهترئة ... يناوشها ، يشكو إليها مرارة الفقر والحاجة ، لكنه ، بعد حين استدرك ليقول : كفى من الشكوى ...أنا والكوخ ... ورفع يده عاليا ...كهذين الأصبعين ، أنا والكوخ جسد واحد ، روحان في جسد واحد ، أو جسدان فيهما روح واحدة ، أو ... لم يدر ما يقول . كان يمقت الفلسفة عن آخرها ، يحتقر هؤلاء وأولئك من الذين يجرون الأسماء والحروف والأفعال ... يمططونها ليستخرجوا منها هرطقة أو سفسطة ... أو هراء كما تعود أن يسميه ... لكنه الآن في حاجة إلى الفلسفة ، على الأقل ليحلل ويفلسف ... لم يعد معه غير المجردات ... بعد أن غادرته الماديات ، طرد من عمله ، وغادرته زوجته ، وتخلى عنه أصدقاؤه ، لم تستثن منهم الخيانة أحدا ... قرر أن يكمل طقوسه ؛ يستلقي على وجه أمه الأرض ، لا يفصله عنها فاصل ... يستمد منها الدفء ، وإن كان سطح الزليج باردا ، تبا للخيال ، ما أوسعه وما أوسع ما يدركه ... فضاء الخيال مجرة قائمة بذاتها ، بكواكبها ونجومها ... بشموسها وأقمارها ... يستبد الخيال بالفضاء بعيدا عنه ... الفضاء الذي هناك لا الذي هنا ، استعطفه ... لا جدوى ، أصر بكل ما يملك من رغبة وإرادة وتصميم ، لكن الخيال ، بقسوته الغريبة ، بفضاضته وشراسته ... أبى أن يذعن ، بقدر ما يزداد هذا إلحاحا يزداد الآخر رفضا وعنادا ... لم يكن أمامه من خيار ... العالم في نظره عالمان : عالم المثاليات ، المجردات ... باختصار عالم الخيال باتساعه ... بموجوداته التي لا تنتهي ... بسخائه الذي لا يعرف حدودا ... في عالم الخيال ، هو سيد الزمان والمكان ، فضاء الخيال ، مساحته ، طوله ، عرضه ... كلها طوع أمره .
 الماديات ، العالم الآخر ، أو هو النصف الآخر للعالم الذي يستمتع فيه بالدقيقة والثانية ... هذا العالم ، فضاء مظلم ، ضيق ...لا يتجاوز كوخه المعتوه ... هذا الفضاء القابع فوق سطح ضيق من الأرض ، وفي بادية من البوادي النائية ، القاسية ، الشرسة ... بمساحة تتجاوز بالكاد قبر الجندي المجهول ... أربعة جدران تحده من الجهات الأربعة ... وسقف أليف ، يخترقه ببصره وبصيرته ، يعانقه ، ولو عن بعد ، وسطح ، يقبع تحته ، يحمل عنه جسده النحيل ، بكيلوغراماته الباهتة ... بجسمه الخيطي الأنيق ... بقلبه النابض نوعا ما . الرفاق : كرسي مهتريء ، وسرير ورقي ... والباقي جسمه النحيل ، جسده الذي لا يملأ من فضاء الغرفة إلا ما يملأه جسد أبي الطيب المتنبي وهو يشكو هزاله ونحافته :
كفى بي نحولا أنني رجل      لولا مخاطبتي إياك لم ترني
    كان يتذكر هذا البيت ، ينشده بصوته الأجش ، كلما نظر في وجه المرآة ، هذه الرفيقة التي عدا عليها الزمن ، فأحدث في جبهتها خدوشا ... وشقوقا ، يظهر من خلالها الوجه الواحد أوجها ، كلما ألقى بصره تذكر أبا الطيب ، ويحزنه أن أبا الطيب وجد من يخاطبه ، من يدرك وجوده ولو من خلال الصوت ... أما هو فلم يكن يجد من يراه أو يسمعه أو حتى يبصق في وجهه ...
     الطقوس طقوس ، لابد أن يمارس عادته ، يستلقي على الأرض ، يغلق عينيه ... ينتظر ... هكذا دأب أن يفعل منذ سنين ... يستلهم ... قطرات هنا ، وقطرات هناك ... يجهد نفسه ، يسلكها حبة حبة ... وبتأن جميل وصبر عليل ، يصوغها قصيدة ، يخطها بيمينه ... يلقي بها في الظرف ، يرسلها إلى ملحق ثقافي بئيس في جريدة أبأس ... ينتظر أن تنشر . وبعد أسبوع ... أو شهرين ، يجد قصيدته وعليها اسمه وصورته ، وعلى صفحة من الصفحات التي لا يقرأها أحد ... وهكذا وبعد أن يتصفحها يفرشها على الأرض ... ومع مرور الوقت تشكلت ... صارت تلا فاتخذه سريرا... أما ما كان ينتظره ؛ من تعويض أو جائزة أو تقدير على الأقل ... فتلك أمور من نصيب أولئك الذين يحسنون أن يستقبلوا ... وينحنوا للسيد الرئيس ...
وبعد أخذ ورد بينه وبين نفسه ـ طبعا ـ أدرك نعمة أن يكون عموده الفقري متخشبا متصلبا ... لا يعرف الانحناء ... فألفة ما ... خير من ذلة ما .

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة