ممنوع التصدير - قصة : مجدي السماك

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسالحصار محكمة حلقاته ، الفقر ، الفقر ينتشر فتجف العقول . الحصار ، في الحصار يقف وسط السوق أمام صناديق الطماطم الممنوعة ، يجأر بأعلى صوته .. وفي الحصار يزداد الفقر قبحا ، وفي الفقر تفرغ الجيوب فتتصلب الأعصاب .
الرياح شديدة باردة تقرص الوجوه الإنسية في الصباح وتحرقها ، وتتخضب أطراف الأنوف بحمرة قاسية تجبرها على السيلان ، ويشعر المرء أن أذنيه قد تجمدتا ، وهي مناطق حساسة يطيب ويحلو للبرد لسعها أكثر من غيرها .. ليس هذا ما يضايق الشاب مصطفى ، الذي تعود على البرد وتعود البرد عليه منذ نعومة أظافره ، أظافره التي انكمشت و صارت كمخالب النسر مع مرور السنين المليئة بالهموم .. ومع هذا فقد وقف وسط السوق مرتديا سترته الباهتة ذات السحّاب الخربان ، ممسكا دفتيها بكف ، والكف الآخر مدسوس في جيب بنطلونه الفضفاض الذي اشتراه من سنين ، أيام مودة البنطلونات الواسعة .. ويخطر في بالك حين تنظر إلى ملابسه أنها من مخلفات العثمانيين ، وربما تظن أنه سرقها من متحف للآثار ، وقد يدفعك تهورك لأن تحلف أغلظ الأيمان على أنها لم تغسل في يوم ما .. وقبل أن يبدأ بصف وترتيب صناديق الطماطم غطى رأسه بكوفيته الفلسطينية ولفها حول رقبته وترك طرفها يتدلى على قفاه .. فصار رأسه المحمول على جسده الرفيع الطويل يظهر من بعيد مثل الهمزة فوق حرف الألف .
لمّا فرغ مصطفى من صف الصناديق وأصبحت كالبنيان المرصوص أخذ ينادي بأعلى صوته ليبيعها ، وهو يجأر بصوت قبيح لكنه عميق وقوي يلفت انتباه الناس إليه من أول الشارع إلى آخره ، ويحاول أحيانا أن يلحن الكلام وينغمه فيمط حرف الميم متلذذا مرة ويشده في أخرى ..
- طماطم .. دمعة يا طماطم .. أحلا طماطم في الدنيا.
اقترب رجل في مرحلة الكهولة من عمره وحدق إلى الصناديق بنظرات حائرة ثم سأل بصوت جهير وحاد أقرب إلى نقيق الضفادع :
- كم ثمن الصندوق ؟
- أجاب مبتسما :عشرة شواقل .
- يا لطيف !.. غالية جدا ! .. هل هي من جنات الفردوس ؟.. من يمتلك هذا المبلغ في ظل الحصار؟
- هي مجهزة للتصدير .. لكن إسرائيل منعت تصديرها .
رفع الرجل رأسه غير مكترث ، وعوج فمه إلى اليمين فارتفع طرف شاربه الغزير المبروم بإتقان حتى كاد أن يلامس شحمة أذنه ، ثم راح في طريقه إلى حال سبيله ، مسرعا كأنه هارب من عفريت .
أطرق مصطفى يفكر ، يعصر رأسه بين يديه ، فإن لم يبع الطماطم فسيذهب تعبه سدى ، تعبه وهو يزرع الطماطم ، ومشقة قطفها في الصباح الباكر وهو ينشب أصابع قدميه في طين الأرض البارد ، وسيخسر أمولا كثيرة ، أموال الريّ والبذر والنقل وغيرها .. سيخسر .. من المؤكد انه سيخسر .
قطع خلوته مع نفسه صوت مبحوح لامرأة عجوز ، سألته بصوت مخنوق كالفحيح الصادر عن حنجرة مثقوبة :
- كم ثمن الصندوق ؟
- أجاب بهدوء قلق :عشرة شواقل .
- يا سلام ، السعر مولع نار! ألا تعلم أن النقود عزيزة في هذه الأيام ؟
- هي مجهزة للتصدير .. لكن إسرائيل منعت تصديرها .
عدلت العجوز ظهرها ، وأحكمت قبضتها على عكازها وراحت تنقر بطرفه الأرض مبتعدة عنه ، مثلما يبتعد المرء عن قنبلة موقوتة لا يعرف متى ستنفجر ، وأخذ فمها  يحمحم ويتبرم قبل أن تغلقه بشفتين نشفتهما الأيام .
جلس مصطفى على صندوق خشبي واضعا فخذا فوق فخذ ، وركز خدّه في راحته ، لكنه رفع رقبته ومطها عندما اقترب منه صبي في العاشرة من عمره ، وجهه مرصع ببقع القشب البيضاء ، يضع على رأسه طاقية لها زعبوط ، يتلكأ متسكعا ويمضغ آخر لقمة من ساندويتش فلافل ، أخذ يسأل مبتسما :
- كم ثمن الصندوق ؟
- أجاب بتثاقل ووجه عابس : عشرة شواقل .
- لماذا ؟ هل هي طماطم مصنوعة من ذهب ؟
- هي مجهزة للتصدير .. لكن إسرائيل منعت تصديرها .
ضحك الصبي ضحكات حادة متقطعة كالصهيل ، وسالت من فمه ريالة لزجة  كشربة زيت الخروع ، مسحها بكمه ، وأخرج لسانه مستهزئا وفر هاربا مقهقها.
عاد مصطفي يفكر من جديد في كيفية تدبر الأمر ، وقرر أن يخفض الثمن ويبيع الطماطم بخسارة .. نعم . لقد قرر أن يخسر كي ينقذ ما يمكن إنقاذه .. اعتدل من جديد عندما رأى سميحة ابنة صائغ الذهب متجهة نحوه ، بثوب طويل واسع يخفي تحته جسدا جميلا كأنه مجبول بماء الورد ، وهي صبية في ريعان الشباب ، وإن كانت تمشي ببطء بسبب البواسير .. ردد مصطفى بصوت مرتفع للمرة المليون منذ الصباح الباكر : " يا صّباح يا فتّاح يا رزاق يا كريم" ، وأخذ يتمتم الأدعية والأذكار الخاصة بالرزق ، ويبتهل إلى الله باسطا كفيه في الهواء ومسلطا نظراته إلى قبة السماء .. اقتربت منه سميحة وصار بإمكانه تمييز وجهها الحلو الناعم المنتوف منه الشعر بعناية ، حتى بات يبرق كصينية النحاس المجلية بفلقة ليمون ، وأخذت تحدق إلى الصناديق تتفرس بعينين ضُمت جفونهما ، وقد تقاربت حواجبهما الرفيعان كسن قلم الرصاص حتى كادا أن يتلامسا ، وسألت بصوت رفيع ناعم مليء بالدلال :
- كم ثمن الصندوق ؟
- أجاب متبرما على مضض : ثلاثة شواقل .
- يا سلام .. رخيصة جدا !
- هي مجهزة للتصدير .. لكن إسرائيل منعت تصديرها . 
لكن الفأر لعب في عب سميحة ، وأصابها الوسواس ، فعادت تستوضح الأمر :
- يبدو أنها طماطم معفنة!
- قال وهو يضرب بكفه ظهر فخذه : اقسم بالله أنها جيدة ..علىّ الطلاق أنها أحلى طماطم .. وحيات أولادي أنها للتصدير .
عطفت ظهرها وأشارت بسبابتها إلى أحد الصناديق السفلية وطلبت منه إخراجه ، ولمّا أخرج الصندوق بعد عناء من بين الصناديق الكثيرة المتراصة طلبت منه أن يقلب ما به على الأرض كي تتأكد من سلامة الطماطم في قاع الصندوق ، ثم تساءلت بهمّة عالية ..
- أتوافق على بيع الصندوق باثنين من الشواقل ؟
نفرت خدود وجهه العابس باضطراب ، ارتجفت ذراعاه ، وارتخت كل مفاصله فور أن سرت في جسده رعشة اهتزت لها قدماه وتضعضعت ، حتى فقدت قدرتها على حمل جسمه ، وقد آل إلى السقوط لولا أن أسندته عربة عبد الحميد بائع المهلبية ، المجاور له ، ثم اتكأ على ذراع عبد الحميد ، وما انفكت أنفاسه تتدفق لاهثة ، كأن روحه تحاول أن تترك جسده وهو يكافح ويكافح كي يجلس على صندوقه الخشبي ، وما هي سوى دقائق حتى قام يرفس الصناديق بحذائه الممزق شاتما الدنيا ومن عليها بسيول من الشتائم السافلة الرذيلة ، بعض هذه الشتائم طالت الحكام وشجرات عائلاتهم بعروقها وأوراقها ، ثم أمسك بصناديق الطماطم يرميها ويكبها وسط السوق وهو يزمجر ..
- إسرائيل منعت تصديرها .. إسرائيل منعت تصديرها ...
حاول بعض الناس الإمساك به لتهدئته ، لكنه ملص من بين أيديهم وعاد أدراجه إلى بيته ، وهو يضرب قدميه بالأرض ويدقهما بما يشبه المشية العسكرية زاعقا بلا توقف حتى وصل إلى بيته : إسرائيل منعت تصديرها ... ما أن دخل البيت ووجد زوجته مشغولة بكنسه حتى صرخ في وجهها صرخات قوية جعلتها تجفل وتفلت المكنسة من يدها : إسرائيل منعت تصديرها .. إسرائيل منعت تصديرها .


عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Majdy2008.maktoobblog.com مدونة
عضو الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب.
عضو ملتقى الأدباء والمبدعين العرب.


تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة