هشاشة – قصة : الطاهر الشرويطي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسألفى زملاءه لدى بهو المصلحة يتناوبون على التوقيع في ورقة الحضور اليومي . تولى إلى ركن ليشرب فيه سيجارته الصباحية الأولى حتى ينفض زحام الموقعين. نظر إليه أحدهم وسأله عما به . أجاب: "لاشيء". توجه تلقاء مكتبه دون أن يتفطن للنظرات التي كانت تحدجه . وما ان أخذ مقعده حتى أشار إليه الجالس قبالته : " وجهك ، اليوم ، غير طبيعي ؛ فماذا حدث ؟ ".  بحركة آلية مسح وجهه بكفه، ثم بسطها أمامه باحثا فيه عن أثر ما. أحس العيون تحيط به من كل الجوانب . " لون وجهك أصفر..صفرة غريبة .. هو أصفر وأحمر معا". " قد تكون حساسية ناتجة عن طعام أكلته " . انطلقت الألسنة من عقالها ولا من يوقفها. استعراض للأمراض والحالات والأعراض والتجارب . بصوت خافت ممطوط  قال : " ولكني لا أحس بأي ألم " . لم يسمع كلامه أحد . كان القوم قد غفلوا عن حالته وجرفهم الحديث إلى ضفاف بعيدة . فجأة ، استيقظ شيء ما بداخله ؛ فاعتكر صفوه . راح ينقل عينيه بين الوجوه كأنما يرغب في قول شيء ما. سأل : "كم الساعة الآن ؟ ". لم ينتظر الجواب ، وقام وانصرف .
     في الشارع بدا في خطوه نحو بيته مجهدا، مطوقا بالصمت والغبار. ذعر غريزي حاصره . تحسس ذقنه ووجنتيه بأصابعه . "هل بدأ وجهي يتغضن ؟ من أي جهة جاءني العطب ؟ قالوا : حمرة، صفرة ، حمرة مع صفرة ؛ أعراض أي مرض هذه ؟ هذا زمن الأعطاب والأدواء . وكل يوم تسمع فيه عن مرض جديد ".
    تذكر ركضه الصباحي ، ومواظبته على اللعب مع فريق الحي ، وإعجاب أقرانه بقوته ونفسه الطويل ، ووجد نفسه يسأل ثانية : " من أين جاءني العطب ؟ " .
    " أنا ملوث ، دمي ملوث ، لوثتني السجائر والعاهرات . السجائر نعم ، أما العاهرات فذاك زمن مضى؛ بل أنت عنيد ، تسمع النصيحة ولا تنتصح . كم حذرتك من إسرافك في السكر والملح، كم دعتك إلى الإكثار من أكل الخضر والفواكه ، كم دعتك إلى شرب الماء ، يمر عليك يومان لا تشرب فيهما قطرة واحدة . وعندما تيأس منك كانت تنهض عنك غاضبة وهي تردد لازمتها : " ذنبك على راسك ". هي الآن في البيت . قل لها : نبوءتك صدقت " .
     أغشاه إرهاق مباغت ، وسرى في جسده خدر بدأ لطيفا رقيقا ، ثم سرعان ما أحس به يجثم بثقله على كل أطرافه . استفاقت الهواجس والوساوس والكوابيس .
     " هذا نذير من القلب . أزفت الآزفة . منذ مدة وأنت تتلقى وخزات تطعنك في الخاصرة والجنب الأيسر . هو القلب خذلك . لابد لك من إجراء فحوص ، تحاليل وأشعة على القلب . لم لا تكون أعراضا لمرض آخر ؟ هذا الخمول والعياء والضعف .. وشحوب الوجه الذي قالوا..زد تنمل اليدين الذي يعتريك كلما استيقظت من النوم..ألا يكون كل ذلك من الدم ؟ " .
   الدم . كأن وحشا كان رابضا له . تمثل أمامه في آلة الدياليز . قد يتحمل كل شيء ؛ إلا الغسل الكلوي . تجمع غثيان في جوفه ، وانتابه هلع شديد، فمضى يدعو ربه متضرعا . كيف له أن يتحمل النظر إلى دمه ينقل إلى آلة تصفيه وتنقيه لمدة ثلاث ساعات ثم يعود إلى شرايينه ؟
    جاءه صوت زوجته بمجرد أن دفع الباب : " من ؟ " . بادر إلى إخبارها بأنه مريض ومرهق ، وبأنه سيعرض نفسه على طبيب ، وكل زملائه في المصلحة لاحظوا اصفرار وجهه واحمراره ، وتغير حاله . نادته بصوت ممدود : " ياك ما مسحت وجهك ف الصباح بالفوطة اللي ف وسط الدار؟ راها كتطلق " .


قاص من المغرب

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة