مملكتان في قبو ! – قصة : لمياء الآلوسي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسزخات المطر تغرقها برفيفها المنحاز لإنعاشها ،  وملابسها الخفيفة التي أصبحت بلا لون تلتصق بجسدها  ، لسعة البرد اللذيذة هذه والرشقات المتتالية لمطر المساء ، تبعثرها مصابيح الشارع  ،وتلك المصابيح التي  ينفرد بها المطر  ، حُرَّاً متلاعباً بين انعطافات الأشجار والأبنية الصامتة ..
 بكل ما فيها من حياة فرحت بهذه الحرية المبتسرة ، أرادت أن تُبقي ذكراها  لكل سنوات عمرها القادمة ، إستخفها  الفرح  فتقدمت قليلاً عن مرافقيها  ، نهرَها الرجل المفتول العضلات الذي يحاذيها ، فقصرت من وقع خطواتها على إسفلت ذلك الشارع الذي تمنت ألا ينتهي ..
 منذ زمن بعيد ، نسيت أن للحياة دروباً طويلة عليها أن تسلكها ،لكن  ذلك الرجل الغاضب أبداً وقبل أن يُدخلها إلى هذا المكان ، أمرها أن  تنزع فستانها ، امتنعت بشدة ، فمزَّقه  وكومه  بين قدميها  ،  تاركاً جسدها الفتي عارياً تماماً ،  انحنت على جسدها تحميه ، وتحاول التقاط ما تبقى من ملابسها باشمئزاز هائل حزين ، ثم دفعها عبر باب حديد أغلقه دونها بقوة ،    
 ألغيت  فرحتها  المباغتة ، كان الظلام  مطبقاً  ، وكل شيء يبرعم فيها خوفاً  ، تعلمت الإنتصار عليه كثيراً ، لكنها أيقنت هذه المرة أنها  على أعتاب  نزال من نوع آخر  ، وربما لن تقاومه كثيرا ، لكنها رغم ذلك لن تبيح لهم  انتهاك صمتها كثيرا .
 بعد أن فُتح ذلك الباب الحديدي ، لم يكن أمامها إلا خيار واحد هو أن تندفع إلى الداخل  ، فارتطمت بجدار الغرفة  ، وقبل أن تتبين مكانها الجديد ، أُغلق الباب وساد الظلام  ، فتلمست طريقها جيداً  ،  بحثت عن التفاصيل ، مدت يديها في كل الإتجاهات  ، فارتابت أن المكان قد لا يتسع إلا لجسدها  !
أحست أن ذلك يحز رقبتها حزاً تسمعه ، فيملأها إحساس أنها  تتحدى  قوما مجهولين بلا ضمانات .  
 ستعتاد الظلام  ، مدت ذراعيها مرة أخرى باحثة عن خبايا هذه الغرفة فارتطمت بشيء  دائري وحنفية  ، لم يكن في المكان شيء آخر ، لازالت رائحة المطر تزغرد على شعرها الذي تركوه هارباً من بين يديها فتناست أنهم يساومونها على عريها       
ضحكت بمرارة : منذ سنوات وهي تخجل من جسدها النافر في مواضع عدة وأمها تزيد من تزيين فساتينها . كانت تقول
-          يجب أن تخفي هذه الثورات العارمة في جسدك ، فالبيت مليء بالشباب  ، إخوتك نعم ، لكن يبقى جسدك عورة  !  
تنقلت من زاوية إلى أخرى ، يلاحقها  الخجل  ، وعيون مخبأة في مكان ما  ، تراقب عريها  ,
فكرت : في أحيان كثيرة يكون جسد  المرأة  وخاصة في هكذا منزلقٍ عقوبة أخرى تضاف لها !  
ارتجفت لصوت  الباب الحديدي يفتح  من جديد  ، أرادت أن  تبتعد عن مجال الرؤية فقرفصت محتمية بالجدار ، لكن مع توسع فرجة الباب تدفق الضوء  إلى الداخل  
 
خانتها ساقاها وتمنت في تلك اللحظة لو تبقى امتدادات الظلام وكل خباياه في حياتها ، لا تفارقها أبداً ،
تدثرت في شعرها الطويل ، تخبئ به جسدها ، تمنت لو تكون لها ألف يد ،تتسع لتصبح ثوباً فضفاضاً تسدله وقت تشاء على جسدها كله !
 لكنها دفنت وجهها بين ساقيها وتكورت حتى تلاشت في جسدها الأبيض الناحل  
اقتحمت رائحتُهُ المكان  ..  
ارتطم بجسدها الناعم , يتكور مرتجفا ،عند ذلك يسمع نهنهة بكاء  ناعم ...   
أجفل وتراجع إلى الوراء ، ولكن  ليس بعيداً فحدود الغرفة لا تتجاوز حدود جسديهما
في تلك اللحظة عندما تلامسا .. أدرك حدود المحنة التي تورط بها  
 في ذلك المكان  ،  ورغم أن كلاًّ منهما يتحرك محاولاً الإنكفاء والتقلص ، كلاهما بدأ يغرز رأسه في جسده ، فكل حركة تنم عن أحدهما  يجفل الآخر لها  ، إذ أن ضيق المكان يجعلهما يلتصقان ببعضهما كلما حاولا الإبتعاد ،
كان لحضورها القلق معه ،  شفق  من الصدق والإنتماء ، رغم أنه انتابته خشية عابرة من أن تستيقط لديه أجراس ما في أغواره الطينية المجهولة والتي تعلم  بشكلٍ حسنٍ أن يدحرها بعيداً    
 بعد زمن حسبته دهراً ، عندما  فكت التحام جسدها  حول ساقيها  ، تداخلت أمامها الرؤى ،  ولكنها هذه المرة وبعد لمحات من الصحو  والحياة  ،   تلاشت إلى أبعد نقطة في كبريائها
رأته , كان يجلس في البقعة المتبقية من الغرفة أمامها  ملتصقة ساقه بساقها   ، وأنفاسه قريبة من أنفاسها
لكنه كان يجلس , كما فعلت , مقرفصاً متداخلا ًغامداً وجهه بين ساقيه العاريتين . 
 مر الوقت طويلاً  قبل أن يتمكن من أن يسألها :  منذ متى وأنت هنا ؟؟
 تمنى أن يجعلها تركن إليه ولا تخشاه 
كل منهما أراد أن يعرف  لمَ جيءَ به إلى هنا ؟ ولماذا ؟ ما الذي يدعوهم لوضعهما معاً في هذا المكان العجيب ؟  تُسلط عليهما الأضواء  هكذا ، لكن الأسئلة خبئت وما عاد لها معنى ، ليس مهماً الآن مَن هؤلاء ، بل المهم الخروج من الهوة .
تماسك صوته قليلا ،  لم ينتظر إجابتها على سؤاله  ، الذي بدا عائماً بلا قرار ،  أي معنى للزمن !! وكل الأشياء غدت هلامية بلا امتداد .
-        منذ زمن ....   هنا  .....  كنت  قبلك !  
كان الباب المغلق أبداً مزوداً بفتحة ضيقة من الأسفل تسمح لمرور صحن الطعام  لثلاث مرات قي اليوم   ، ثلاث مرات غدت مواقيت أيامهما معاً ،  منها يعرفان أن الوقت يمر والأيام  تترى ... أما  الزمن بدون هذه المواقيت  فلقد  أصبح لهما معا  ،  كان يبقي لها كل وجبات الطعام  المقدمة إليهما .
 لكنه بمرور الوقت عرف أنها هي أيضا ،  كانت تبقي له معظم حصتها من الطعام
فرغم سنواته الفتية  ، إلا انه أحس أن هذه الفتاة هي كل ما يملك ، كل ما يمكنه الحفاظ عليه ، بل أحس للحظات أنها جزء منه  ،  أرادها أن تأمنه  ،  أن يجعلها تتجاوز عريها أمامه .
حاول أن يكلمها , أن يمد نسمةً  من الألفة بينهما
لكنه .. . ورغم هذا الإحساس بالثقة  ،  كان يعي تماماً  ، هذا الخوف الممتد بينهما  , هذا الإحراج  ، منها .. منه ...  صوته مدها بشجاعة مضافة ،  جعلها  ترفع رأسها قليلا ً
فالتقت عيناهما ، لأول مرة منذ حفنة الأيام التي مرت ، رأته بتلك السمرة التي افتقدتها الشمس
ابتسم لها ،  أطرقت خجلى ،  لأول مرة شيءٌ  ما جعلها  ،  تريح جسدها قليلاً  ،  فبين جفنيه  ، وعلى جبينه الأسمر  ، تغلغل عالم من عواصف هائلة ,  إمتدت بها إلى أرض لا تُحزَر بالمسافات .
بدون أن تعي انسابت دموعها  ،  فرغم ذلك الألق الحميمي الذي أحاط به كل واحد منهما صاحبه في تلك الغرفة غير المصدقة والعصية كسؤال ،  فهما  يعرفان أن هناك من ينتظر  لحظة سقوطهما معا ،  وربما راهنا على ما سيفعلانه لاحقا .. لكنهما كانا أيضا يراهنان على كبريائهما
 - ِ  يا ابنة العم ! 
سحقتها تلك العبارة فبكت بعنف كأنها بين ذراعي أمها ،  فامتدت كفه تربت على رأسها , أجفلت ... رفعت وجهها إليه  ، فرأت دموعه تنساب على وجنتيه  كبلور ذائب , دنت منه أكثر ثم ربتت هي الأخرى على كفه بحنوٍّ  يشي بارتباك مع ذلك  , إنها تواسيه ،
وكلاهما  أكبر من كل المواساة ,
هؤلاء القساة   لا يدركون أنَّ الأسى  خيمة بحجم السديم  ، وأن لحظات الحلم خارج هذا السديم هي ما يدفع الكائن للإبقاء على رجاء ،  وإن كان بلا ملامح  ؟
ضحكا  بقوة ربما  ليزيحا هذه الغلالة من البَهَت ...
قليلة هي المرات التي كانت ترفع بها رأسها  ،  لكنه كان يعرف أنها تريد أن تتحرك قليلا  ، فكان يغمد وجهه في الجدار خلفه   ، ويترك لها تلك المساحة الصغيرة  المتبقية  ، تمتلكها لوحدها ، تفعل بها ما تشاء  ، وكأن بينهما جداراً إسمنتياً 
حتى انه ذات مرة سمعها تترنم بأغنية  تراثية قديمة ، بل سمع وقع خطواتها  المحدودة على الأرض ،  وكأنها تتهادى راقصة على أنغام  موسيقى تسمعها هي لوحدها فأحس مع ذلك بأنه سمعها معها !
وبمرور الوقت  وبمجرد أن يرفع  رأسه لبرهةٍ  تدير جسدها هي الأخرى  إلى جهة الجدار  ، عندها يمتد ذلك الجدار الإسمنتي بينهما من جديد ، فتمنحه ذلك الإمتداد الذي يتسع له الكون كله ،
قال لها ذات يوم  : في قريتنا البعيدة والمنسية على إحدى ضفاف  الفرات ، كانت  بيوتنا الطينية  تضاء  بمصابيح خافته ، وكانت الليالي  الشتوية طويلة جداً  ، لكن هناك في الجوار امرأة لها طريقة غريبة في قص الحكايات  ، كانت تحمل فانوسها وقدرتها على  تحريك كل جزء من وجهها  ، لتجعل للحكايات نكهة خاصة  ،  فكنا نتحلق حولها ،  وفي الغالب  كان لحكاياتها طعم السحر  ، فماهي إلا لحظات  ونكون في عالم آخر ،  صنعته هي لنا  ، وكنا نصدقها  بكل ما فينا من طفولة وطيبة  ، ثم نفيق في  ذلك الليل ،  لنحمل لها  فانوسها ،  وما تجود به الوالدة عليها ،  فنتدحرج معها عبر ذلك الزقاق الموحش ، ونعود نتقافز خوفا ورهبة  ، لكن سحر الحكايات يبقى حتى في أحلامنا
ضحك : لم يكن في حينها  تلفزيون في بيتنا ، فكانت تلك المرأة نافذتنا إلى العالم الممتد بعيداً ، كان لنا صديق اسمه حسين النمنم وامرأة متوحشة لكنها عامرة بالحب يسمونها السعلوة ورجل طافح بالفرح اسمه فرج الأقرع يمتطي صهوة خيول القرية ويشرب حليب أبقارها ويسخر من شجعانها
بدت متحيرة تتلفت حولها تبحث عن إرث لأيامها فلا تجد إلا إرث الكتب والتلفزيون .
منذ ذلك الحين صارت أوقاتهما تزجى بالحكايات الممهورة بالدفء والذكريات , نسي كل منهما عالمه الذي شكّل خلاياه وكيانه الروحي والمادي فصارا غارقَين في عالم جديد عاشاه معا .  
 تلك الحكايات التي لن ينتبه لها سارقو الفرح من قلوب وأصابع الناس والأشياء ، أغنياتُ الأمل المبهجة بالنسبة لهم كعملة تقادم عهدها ، هؤلاء المنبسطون كسطح صفيح ، كيف ترجوهم  أو تدعو عليهم وهم السجناء فعلا لا أنت ؟
إلتفتَ الإثنان لبعضهما , خامرهما إدراك خاص وبرّاق بأنهما تجاوزا هذا الإحراج الممض وأنهما عرفا أن كل ما مر بهما  كان تحدياً بهياً , وكمملكتين من الجمال , زادهما التصاقا  .
 
                                                  *********** 
بعد أيام طويلة فتح الباب الحديدي ذات صباح ، لأول مرة منذ أن أوصد ذلك اليوم  ، فالتجأت إليه دون وعيٍ منها ، فجعلها وراء ظهره ، لكنهم هذه المرة القوا عليهما بقطعتي قماش ولم يُغلق الباب ، إنفلتت مبتعدة عنه ، وأحاطت على عجل جسدَها العاري بإحدى قطعتي  القماش ,
 وقفا  متقابلين وقد غدا دثارهما يغطي جسديهما تماماً ، وثمة امتداد من الفرح المباغت رسا عند روحيهما او قُلْ روحِهما !
عندما تلقفها الشارع هذه المرة كان ثمة هلالٌ بدا كابتسامة حبيب , يا للعجب , إنه الهلال ذاته الذي بدا لها بفضائه , بحمرته , بشكلهِ , بسخاء ضيائه وهو يريقه في ليالي التأمل الماضية أشبهَ بجرح يجهل الإلتئام ، إنه الآن يطلُّ عليها من بعيد كابتسامة مطمئنة ، فأغمضت عينيها على حدسٍ شيِّقٍ أن يجتمعا معاً في مساء وشيك , ليتعانقا , لينظرا الى تلك الأقبية وهي تغورَ في أقبيتها !

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة