كريستيانيا – قصة : زكية خيرهم

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسالطقس شتاء والمدينة مغطاة برداء أبيض ناصع، يبرق بريقا جميلا مع أشعة الشمس. وقف (غريب) بأعلى منطقة ب(هولمن كولن). رفع عينيه إلى السماء يبحث عن غيمة أو سحابة أو ربما أمنية تتحدر عبر سماء من الحلم. سرح ببصره المحيّر إلى فضاء المدينة. يرى وجوها متعددة الألوان. بعضها تشع حيوية، أخرى ترتعش بجنون، وجوه هشمتها تجاعيد لزمن طويل من الغربة والأسى، للبعد عن الوطن ووجوه ممسوحة من الملامح ممسوخة لاتعرف هويتها. من تلك التلة كان (غريب) يفترش قلقه المضطرب، على بساط الثلج، يجوب حذرا على أعقاب الزمن الذي أجهض أحلاما، ولوث رغبات.و آمال مزقتها انفجارات الوعود المبتلة بالسراب وأخرى التهمتها أمواج سحبتها تيارات لتنتهي في بطون حيتان "الخلاص". نزلت قطرات شاحبة على وجنتي غريب التي أصابها الجفاف. قطرات تحترق حسرة وترتعش بالجنون لذاكرة الماضي والحاضر الذي يجمعهما حضوره المدثر بالوجع القديم والخوف من الآتي. كان يلملم هدوء سكونه المفتعل في صمت، جاثيا وكأنه يصلي لحلم مخنوق، يبحث فيه عن سكينة تمسح عن روحه دموع المنفى وشرود العزلة القاتلة. تطلع إليها والحزن يرشفه، تصنع ابتسامة تفضح استياءه المتراخي على جسده المثقل بلا شيء . أحس أنها تعيش فيه كل يوم ويعيش فيها. تسجنه بقيودها ، بسحرها الغامض. هي كريستيانيا التي أوقعت الكثيرين بسحر جمالها فتضاربت آراء عشاقها بالمد والجزر، هناك من ذاب في كأس ثمالة عشقها فرمى حقيبة الماضي بكل ما فيها من متاع وآخر أحبها بصدق فأعاد بها أختلاق نفسه.
آخر أحبها بأنانية لم يكن يريد إلا إشباع غرائزه التي كانت مقموعة في زمن ومكان، فانتهت خطواته متسكعة بتثاقل في شارع الفشل. آخر أحبها كبديل ينسيه الحب القديم الفاشل فصار يرثي الحب الأول الذي أغتاله الظلم هناك وأبعدته المسافات، وأصبح يصب جام غضبه على كريستيانيا التي أحتوته دون تفكير ولا ميعاد، لتطوي الأيام سنين حياته معها فيتركها فجأة ويختفي من حيث أتى يوما مقطوعا شريدا، ليرجع مرة أخرى إليها مرغما نادما نافرا من ذلك الماضي الذي لم يتحرك. تذكر غريب كل شيء وهو واقف في تلك التلة، بين الأشجار ينظر إليها ولا يعرف إن كان سيوصل رسالته إليها وهو الذي حاول كغيره الوصول إلى قلبها. يحاول أن يكشف لها عن شيء، أن يصور لها إحساسه بصدق، عن ذلك العصفور الجريح الذي جاء طائرا لها يوما تاركا عشه الذي لم يعد يأويه بعد أن هشمته الصقور. صمت هنيهة دون تفكير وكأنه جسد بلا روح أو روح بلا جسد. أتعبه المشي مرغما عبر مسافات الترحال بلا أمل للوصول إليها رغم أنه معها الآن وفي هذه اللحظة بالذات واقف على التلة بين الكون والوجود وثرثرة الرياح. يمدّ يديه إليها لتفتح له المغلق، ليعرف المجهول. ينجلي طيفها أمامه بوضوح، تقترب من بعثرته فوق الثلوج، تضمه كما العادة بكل رفق وحنان. يشعر بحرارة يديها التي تنبضان بالحب عبر المدى. أما هو فترك رأسه ساكنا على صدرها يبكي الغياب والحضور، واللوم والعتاب يعانقان ظمأ الشوق في جنة الجرح ليضمد ما تبقى من أمل.ما أروعك يا كريستيانيا وما أجملك! كلّ النساء تغار منك عليّ والبعد عنك يكبّل يديّ. دمعت عيناه، قد تظنين أنني أجاملك لكن، هكذا تراك عيني. لم أحبك أول لقائي بك. كنت باردة جدا وبرودك كان يشل جسدي ويجمد روحي. لكن، مع مرور السنين وعشرتك وجدت نفسي أحبك يوما بعد يوم. بقدر ما أفهم لغتك بقدر ما أحس بك وأتقرب إليك. إلى أن تأقلمت معك وصرت لا أستطيع الإستغناء عنك. كريستيانيا، لا أحب في الدنيا سواك. أنت عروسي وملاكي، قمري وشمسي. أحببتك بدون وعود ولا قيود، أشعر معك بالوجود، بالحرية، بالصدق، بالود، لا أبالي ما سيقولون عني وعنك ولا تهزني الظنون. مازال رأسه ساكنا في تجويف صدرها يتكلم كمن يهدي. وجدت فيك حضنا وقلبا كبيرا وجدت نفسي فيك وأورقت روحي التي كانت مكبلة يوما ولساني الذي كان يوما مقطوعا انطلق فصاحة. لم ترد كريستيانيا. ظلت صامتة، هادئة كعادتها. قطب غريبا، لم يعجبه ذلك الصمت المتصدع يتهاوى على نزيف ألمه. اسمعي كريستيانيا كم كنت أظن أن حلمي سيتححق معك بوقوفك بجانبي، بتشجيعك لي وكنت أظن أننا سنبني معا أسرة تنشأ على المحبة والإحترام. احترام عاداتك ولغتك وفكرك ونظرتك للحياة واحترام عاداتي وأقتناعاتي. كنت أعتقد أن روحينا ستنصهران ببعضها وتذوبان في سماء الحب. لكن، أحسك وكأنك تنفرين مني أحيانا. لماذا يا كريستيانيا؟ ألم تسألي نفسك يوما لو لم أحبك وارتاح إليك لما كنت هنا معك؟ ألم يقل لك ضميرك أن سفينتي تعبت من الإبحار و مصارعة الأمواج الكاسرة على كل الجهات.!! دمعت عيني غريب ورغم تلك القطرات التي انهمرت على خديه.. ابتسم وهو ينظر إليها وكأنه يلتمس منها عذرا لأنانيتها، مدركا أهمية الهدوء الذي يشع مشاعرا مجنونة. يتأملها كأنه يصلي بخشوع أو يبحر في دعاء. التزم الصمت هنيهة، محاولا فك العقد التي تتمايل في عقله. ألست أنا الذي من أحببت كريستيانيا ...؟! ألست أنا الذي لجأت إليها لتضمني إلى صدرها؟ لقد أحببت واحدة قبلها سابقا، ومن أحببت كانت العلاقة بيني وبينها مبنية على الإرتباط بالإنتماء. تعلمت أن أحبها منذ طفولتي وتعلمت أن أخلص لها وأن أعشقها وأضحي من أجلها. كلامنا ولغتنا واحدة. إلا أن كلاّ منـّـا يسبح في فضاء خاص به. أما كريستانيا فإنني أرى فيها وداعة شفافة ووفاء أبيض. كريستيانيا احتوتني بينما الأولى طردتني وكريستانيا وهبتني السلام بينما شنـّـت الأولى حربا علىروحي وعلى عقلي. كريستيانيا وهبتني الأمان بينما الأولى وهبتني الغدر وعدم الإطمئنان. آه يا كريستيانيا! لا أطلب منك شيئا إلا أن تفهميني. قهقه عاليا في ذلك الفضاء والدموع تذرف من غير توقف.أما هي فكانت هادئة غامضة يغريها ذلك الصمت المفعم بالتأمل والإنصات الحالم إليه وكأنها تكتشف أعماقه. تحدق إليه، كعادتها شامخة كأنها تأخذ شهيقا طويلا. إسمعي كريستيانيا، سئمت إبحار سفينتي مصارعا أمواج بحرك، أتمايل بين تياراتي وتياراتك، أيجب أن أنسلخ عن ذاتي لكي ترضي عني؟! أقول لك صراحة أنا أنا !! لن أكون مثلك ولن تكوني أنت مثلي، لكن، لم لا نتعايش في وئام؟ هل أنا مخطئ نحوك حين يستعصي علي فهمك؟ أحسك تغضبين مني لأنك لا تريدين فهمي. تعالي كريستيانيا ، ضعي يديك في يدي ولنأخذ من بعضنا الجمال فقط لأن غير الجمال ليس من شيمتك ولا من شيمتي، إلا أن القدر هو الذي يلعب فينا.أحس بحنانك تجاهي. نعم وإلا لما حضنتني بذراعيك وآويتني بحبك. قلبك كبير أعرف ذلك وحبي كبير حاولي أن تلمسيه. هب نسيم بارد بذلك الفضاء. ارتعش غريب و انكمش على نفسه محاولا تدفئته، يمسح رذاذ الثلج من على وجهه.ما أجمل بياضك الناصع وما أجمل برودك! أصبحت أحسه دفئا، أتصدقين؟سمع حفيف الأشجار وصوتا كالصدى،الجمال والحب موجودان لكن، كل يراه بطريقته. نعم، كل منا ينظره بطريقته. لقد تعبت روحي بحثا عليهما يا كريستيانيا. اكتشفت بعضا منهما فيك ومازلت أحاول إكتشافه كله. من ناحيتي أحاول جهدي ولا تظنين أنني لا أفعل. ربما سيأخذ الأمر شيئا من الوقت. إن لم نستطع فأبناؤنا قد يحققون ما لم نستطع نحن تحقيقه، أليس كذلك؟ لكن، أقول لك شيئا واحدا فقط، بداخلي ألم وحزن قديمين، أحاول التخلص منهما باحتضانك بكلتا يديّ، ألم راسخ أبى الزمان أن يمحوه كما أبى عقلي النسيان. أضغط على نفسي، أحاول التغلب عليه، أمثل الفرح وأتصنع الضحك. أضحك، أقهقه يصيبني هيستيريا الضحك إلى درجة الجنون، أستمر ضاحكا، يتحول ضحكي إلى بكاء.هـــل ينفــع الكذب على النفس يا كريستانيا ؟ وإن نفع هل يمكن لنا تصديقه ؟لكن، أرى النور مشتعلا على طول الطريق، رغم الظلام ورغم السحاب. كريستيانيا يبقى هناك الأمل.

قصة من مجموعة " العربان في بلاد القرصان " التي ستصدر قريبا

زكية خيرهم
كاتبة مغربية مقيمة في النرويج


تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة