مونودراما الخوف – قصة : مرداس بدلة

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاس- 1 -
لم يكن هذا الشعورُ جديداً علي، لكن شعوراً بالنذالة تملكني بقوة في هذه المرة. هل ثمة مَنْ يفرح لموت والده؟ أنا فعلت ذلك. حينما قالوا لي إنه مات شعرتُ بالفرح للحظة، ولم أستطع وقتها أن أخفي ابتسامتي، فأول ما خطر ببالي أن الأشياء التي أخاف منها في حياتي قد نقصت واحداً. أعرف أن احترام الأب واجب، ولكن ليس إلى حد الخوف منه، نعم خوف، ليس رهبة أو احتراماً بل هو خوف حقيقي.
كانت مساحة كف المرحوم تعادل مجموع مساحتي كفي الانسان العادي، وراحة يده لم تكن مكسوة بالجلد، بل بما يشبه الحراشف. لا أعتقد أنه فكر، ولو لمرة واحدة، أن الشيء الذي يضربه بهذه اليد كان وجه ابنه الوحيد، أغلب الظن أنه كان يتراءى له أنه يضرب جداراً أو شيئاً له صلابة البيتون المسلح.
أمي قالت لي إنه كان يخشى أن أصبحَ ولداً مائعاً كأغلب الأولاد الوحيدين، الذين يتحول حب آبائهم لهم إلى إفراط في الدلال، فيعتاده، ويدرك أن طلباته كلها مجابة، فيبدأ بالتمرد على والديه بعد أن يَبطر ويفسد، ووقتها إذا أراد الأهل إصلاحه أو إعادة تربيته، يكون الأوان قد فات. كان يختلق ذريعة ويضربني كلما تخيل هذا المشهد أمامه.

- 2 -
أذكر يوم حصلت على الشهادة الإعدادية. وقتها ذهب أبي ليشتري لي ساعة، هدية النجاح، كانت تلك أول مرة يفكر فيها أن يشتري هدية لابنه، لكنه سمع همساً بين أصدقائه وأقاربه بأن مسألة إفسادي قد حان أوانها. قالوا له:
- وما حاجة الولد للساعات؟ إذا اشتريت له ساعة على النجاح في الإعدادية، فماذا ستشتري له إذا حصل على الشهادة الجامعية؟ وهل يرضى حينئذ بأقل من باخرة؟!
يومها لم أحصل على ساعة ولا على أية هدية أخرى، بل إنه جاء إلى البيت، ودون أن يتكلف عناء اختراع الأسباب ضربني. قال لي:
- تكون مخطئاً إذا كنتَ تظن أنني سأنتظر أن يأتي يوم وتملأ لي الجدران بشهاداتك، وأن الدنيا ستضيق علي من شدة فرحي بابني الذي يحمل من الشهادات ما يفوق وزنه ولا يستطيع أن يفعل شيء سوى الدراسة والفلاحة على الكتب..
فجأة التمعت في رأسه فكرة فتوقف عن الضرب لحظة، ثم استأنف الضرب وهو يقول:
- غداً صباحاً تنزل إلى الشغل، هل تفهم يا قرّة عين أبيك؟  لسنا بحاجة إلى علمك ومدارسك بعد اليوم.
لا أقول أنني حزنت لتَركي المدرسة، مع أنني كنت متفوقاً فيها، إلا أن تفوقي لم يكن حباً بالعلم، بل كنت أدرس وأجتهد خوفاً من عقاب المدرسين. 
وهكذا انتهت إحدى قصص الخوف اليومي من المدرسة.. لتبدأ قصة جديدة.
- 3 -
كنت مخطئاً حينما اعتقدتُ أن أبي كان يضربني، فإذا قارنته مع معلمي في الشغل، سيبدو وكأنه كان يلاعبني، أو يمازحني. معلمي كان يضرب وكأنه يقوم بواجبه، إلى حد أنه أحياناً كان ينهك لكثرة ما يضربنا نحن صُنّاعَه. وكان ذلك بعلم أبي وموافقته، لابد أنه قال في نفسه:
- رأيان أفضل من رأي واحد، وإثنان يضربان أفضل من واحد.
كان زملائي في الشغل وشركائي في ملحمة الضرب شبه اليومية، وهم أكبر مني بقليل، يتحدثون فيما بينهم عن بلوغهم، وكيف أنهم أصبحوا رجالاً. قلت لهم:
- لكنني لم أصبح رجلاً بعد، هل ينبغي على الشاب أن يفعل شيئاً معيناً ليصبح رجلاً؟ وبماذا يحسُّ حينها؟
ضحكوا كثيراً وانهالوا علي بالسخرية، قبل أن يشرحوا لي الموضوع بتفاصيله. ومن يومها بدأت أنتظر أن يحدث معي شيء مما وصفوه لي، متوجساً من ألا أصبح رجلاً. هل أسألهم فيما إن كان يتحتم على جميع الأولاد أن يصبحوا رجالاً؟ لا، لن أفعل، لانهم سيضحكون علي مرة ثانية.
صحيح أنني لم أرَ في حياتي الكثير من النساء لكنها كانت أجمل مَن رأيت، ولم أفكر يوماً يوماً أنني سأرى أجمل منها، حتى إنني كنت أنظر إليها بطريقة مختلفة، ربما بالطريقة التي ينظر فيها الرجل الكامل، سألت الرفاق عن هذا الشعور فضحكوا.
يعاودني هذا الشعور كلما مرّت بقربي، لا بد أنه شعور الرجال، أو سأسميه "الشعور بالنساء"، الرفاق ضحكوا لكن ليس كثيراً هذه المرة، قالوا لي:
- إنه الحب ياذكي.
- وهل هو شعورٌ خاص بالرجال؟
- نعم.
- وماذا علي أن أفعل؟
- اذهب وكلمها.
- هكذا ومن دون مقدمات؟
- لا طبعاً، عليك أولاً أن تمهّد بالنظرات.
منذ ذلك اليوم رحت أتقصد أن أقف عند باب المحل لأنظرَ إليها حين تمر، بعد فترة قال لي الرفاق إنني اجتزت مرحلة النظرات بنجاح، ودليلهم إلى ذلك أنها قد ابتسمت لي في آخر مرة. والآن ما علي إلا أن أذهب وأتكلم إليها.
بقيت ساعة واحدة على موعد خروجها من المدرسة قلبي يخفق، هذا طبيعي، وهل يتوقف قلب الإنسان عن العمل؟ كل ما هنالك أنني أشعر به لأنني متوتر قليلاً، بقي على الموعد نصف ساعة بدأت بالتعرق، ربع ساعة معدتي تؤلمني، الزمن يسير وأنا ازداد توتراً وارتباكاً، بل إنني أزداد خوفاً، بدأ طلاب المدرسة بالانصراف جلست على الكرسي، ها هي ذي تخرج من المدرسة. مرّت من أمامي وأنا جالس في مكاني، جهازي العصبي لا يعطي الأمر لقدمي بالنهوض، أبطأت مشيتها لكن كل أعضاء جسمي كانت قد توقفت عن العمل إلا غددي العَرقية وقلبي الذي كان يخفق حتى دون أن يضخ الدم، توقفَتْ قليلاً ثم تابعت مسيرها بسرعة مبتعدة.
تابعتُ حياتي بعدها دون أن أحاول أن أدنو من هذا الشعور الذي وصفه رفاقي بالحب، أما أنا فرحت أدعوه منذ ذلك اليوم "الخوف من النساء".
- 4 -
بعد أن كبرتُ وأصبح عندي عملي الخاص، وصُناعي الذين لم أكن أضربهم، التمعت برأس أبي فكرة جديدة وهي أنه صار لزاماً علي أن أتزوج، وعلى أمي أن تبحث لي عن عروس مناسبة، أمي نفذت رغبته، ووجدت عروساً، وخطبتها لي، ولم يبقى عليّ سوى أن أتزوجها ففعلت.
في ليلة الزفاف، وعندما أصبحنا أنا وزوجتي وحيدين، جلسنا ننظر إلى بعضنا، أبي كان ينتظر أن أخرج إليه رافعاً راية الرجولة، وأهلها أيضاً ينتظرون أن يروا الدليل الذي يثبت أن ابنتهم (شريفة)، والكل خائف، أبي يخشى من ألا أكون كفؤاً لهذا الحمل، وأهلها الذين يخافون من أن تكون ابنتهم قد وقعت في الخطأ، وعروسي الخائفة من كل شيء، لكن مجموع خوفهم مجتمعين لم يكن يعادل جزءاً من خوفي، كانت نظرة الخوف في عيون عروسي تزيدني خوفاً، توقفت أعضاء جسمي عن العمل، قلبي يخفق، وكلي أرتجف، مضى وقتٌ لم أشعر به، لكنه كان طويلاً، قبل أن أخرج حاملاً خيبتي تاركاً العروس بعينين خائفتين تمتلئان بالدموع، كانت الدموع تملأ عيني أمي أيضاً، أما أبي فقد تمنيت لو أنه يضربني بدلاً من نظرته تلك.
في اليوم الثاني، قال لي أحد الأصدقاء:
- السُكر هو الحل الوحيد لمشكلتك، فالسكران لا يشعر إلا بالنشوة.
- ألا يشعر بالخوف؟
- لا يشعر به، ما هو إلا كأس واحد حتى تنسى الدنيا ومن عليها.
- لكن هذا حرام، وأنا أخاف الله.
- يعني تخاف الله ولا تخاف الفضيحة؟
كان كلامه معقولاً، ثم إنها مرة واحدة حتى أعتادَ الأمر..
- 5 -
في ذلك اليوم زغردت أمي وأهل العروس، ورأيت علائم الرضا ظاهرة على وجه أبي. لكن المشكلة أن الأمر لم يكن لأول مرة كما اعتقدتُ، لأنني لم أستطع بعد ذلك أن أقوم بواجبي تجاه زوجتي إلا بعد أن أشرب كأساً أو اثنتين، حتى إن الأمر بالنسبة إليها أصبح مرتبطاً بأن تراني ثمـلاً.
مرضت أمي مرضتها الأخيرة ونقلناها إلى المستشفى حيث قال لنا الأطباء إنه ما علينا سوى انتظار رحمة الله تعالى، بقيتُ عندها في المستشفى، كان الموت يحوم في غرفتها، يتلاعب بجهاز القلب وتسارع نقاط السيروم المعلق، لقد شعرتُ به لكنني لم أخف، جهاز القلب يصدر صفيراً عالياً ومتسارعاً، لستُ خائفاً، نقاط السيروم تنقطع، الصفير تحول إلى صفرة واحدة مستمرة، جاء الطبيب وغطى وجهها:
- لقد ماتت.
- أعرف.
- البقية بحياتك.
- شكراً.
- أحسدك على هدوء أعصابك.
ضحكت.
"مشاعر السكران تتلخص في شعوره بالنشوة"
هكذا قال صديقي، شربت الكأس الرابعة لكن الحزن لا يتحول إلى نشوة، كان خوفي مهما كان بالغاً يزول مع الكأس الثانية أو الثالثة، فلأشرب كأساً آخر، لا فائدة، ربما لأن الحزن يأتي من القلب، ولا فائدة من تعطيل الدماغ.
كل شيء في حياتي يتغير، حتى أمي رحلت، إلا شعور الخوف هذا ملتصقٌ بي أينما ذهبتُ، في الشارع في البيت في العمل في كل مكان، ولا حل له إلا السُكْر، أشرب كلما خفت من شيءٍ ما حتى لا أعود أذكر شيئاً، ثم رحت أشرب قبل أن أخاف تحسباً، فلا بدّ أنه سيحدث معي شيء يخيفني لذلك أشرب. ولأنني كنتُ ثملاً لم أستطع أن أخفي ابتسامتي حين قالوا أن أبي مات.
سألت:
- وهل خافَ عندما أتاه الموت؟
- ومن لا يخاف الموت؟
أنا لا أخافه، لقد مرّ بجانبي عندما جاء ليأخذ أمي، لكنني لم أخف، حتى إنني لا أكون مضطراً للشرب حين أذهب لزيارة قبر أمي، فهناك في المقبرة أشعر بأمان لا مثيلَ له فالكل راقدون ولا يستطيعون أن يخيفونني.
مرت ثلاثة أيام دون أن أشرب وأنا بكامل قواي، رأسي يؤلمني بشدة ولكن لا مشكلة، الخوف يجدني أينما ذهبت، هربت إلى قبر أمي رقدت بجانبها، إنها تقتل فيّ الخوف، تماماً كما كان يحدث عندما كنتُ صغيراً.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة