ليس للبطيخ ذاكرة – قصة : د. عبد الله الطوالبه

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسدفعت الباب بقوة ، ووقفت عند المدخل ، ‏تتفحص الجالس وراء المكتب ، بعينين تقدحان ‏شرراً. خُيّل إليه، أنها جاءت للقبض عليه، غير ‏مصدق أنها ستقابله يوماً بهذا الأسلوب.فقد اعتادها، ‏تحمرّ خجلاً عندما تكلمه، أو يكلمها، ونادراً ما كانت ‏ترفع عينيها به .‏
احتبست أنفاسه ، وسيطر بصعوبة على ‏عاصفة غضب ، تفجرت  بداخله دفعة واحدة . ‏
رفعت يدها عن مقبض الباب ، دخلت ولم تلق ‏عليه السلام،  وجلست على الكنبة  الأقرب إلى ‏الباب، ينتفض جسدها غضباً .‏
‏ أدرك أنها في ورطة ،  ولا شك ورطة كبيرة، ‏دفعتها عنوة إلى زيارة مكتبه للمرة الأولى، ومقابلته  ‏بهذا الأسلوب  الفج.‏ ‏
‏ تبادلا نظرات حائرة  ، استفاق قليلاً  من هول ‏المفاجأة  وسألها : ‏
‏- هل تشربين شاياً ؟ .‏
‏- من قال لك أنني جئت  لشرب الشاي  ..‏
‏- قهوة ، بارد  ، عصير ، زهورات ...‏
‏- وهل تظن أن المصيبة التي أنا فيها ، تسمح ‏لي بشرب شيء مما ذكرت ؟.
‏ أشعلت سيجارة  ، وراحت تنفث دخانها ‏بطريقة لا تترك مجالاً للشك ، بأنها طارئة في عالم ‏التدخين ، ولم تلبث  أن أشعلت  سيجارة ثانية من  ‏الأولى  قبل أن تطفئها . لم تُتح له فرصة السؤال  ‏عن أحوالها  ، وعما حلّ بها . حدّقت  في وجهه ، ‏وعاجلته بسؤال جلب كل شياطين  الشك والحيرة إلى ‏رأسه ...‏
‏- ألستَ من كان له الدور الأكبر في جمع ‏رأسينا  على مخدة واحدة ؟.‏
رد مذهولاً  يكاد يفقد السيطرة على لسانه ..‏
‏- بلى ،  ...‏
‏    واصلت حديثها ، ولمعان الغضب  يتراقص  ‏في عينيها...‏
‏- إما أنك خدعتني  ، أو انك كنت مخدوعاً ‏بصاحبك  ولم تزل...‏ ‏
‏ لم تترك له فرصة للاستفسار ، أو على الأقل ‏الصحو من هول ما يسمع .حدقت فيه بنظرة ثابتة ‏قائلة:‏
‏- صاحبك مصاب بمرض قد يؤدي إلى كارثة ‏، ولا خيار  أمامي إلا مغادرة  المركب قبل أن ‏يغرق.‏
‏  صمتت فجأة  ، وكأنها  تريد تهيئته  لسماع ‏ما يقف الذهول  أمامه حائراً  ، ثم أكملت  ....‏
‏- هل خطر ببالك ذات يوم  ،أن ينسى رجل ‏اسم زوجته؟!.ولكن هذا حصل معي .  قبل أسبوع ‏ذهب إلى دائرة الأحوال المدنية ، لإخراج دفتر ‏العائلة خاصتنا  ، وعندما سأله  الموظف  المختص  ‏عن اسمي  ، غاب عن ذهنه  غيبة أهل الكهف .‏
‏ انتشر الخبر بين الموظفين  ، ومنهم إلى المحافظات ‏والألوية والأقضية ،  وأصبح نكتة تتناقلها الألسن .‏
‏     واصلت بصوت يفيض غيظاً، من الواضح ‏انه يتأبى  على الكتمان ...‏
‏- تقبلتُ الأمر في البداية، وظننته موقفاً عابراً ‏من الممكن أن يتعرض له أي إنسان، لكن ظني خاب ‏أسرع مما توقعت. فقبل ثلاثة أيام جاء من عمله ‏المسائي متأخراً، وبدل أن يدخل شقتنا، دخل شقة ‏الجيران. تخيّل لو أن صاحب الشقة كان موجوداً، أو ‏لو أن الجارة امرأة ثرثارة، تهوى الصيد في المياه ‏العكرة ، كيف ستكون العاقبة  ؟ .‏
تجاهلت نظرات الامتعاض والندم في عينيه ، ‏وواصلت حديثها بصوت مرتجف ،وكأنها تبتلع غصة ‏في حلقها :‏
‏ - أما الطامة الكبرى ، فقد حصلت اليوم ، ‏أخذ إجازة  ، وذهبنا  مثل أي زوجين في هذه الدنيا ‏الواسعة للتسوق . كنت أسير  خلفه  ، وبيده كيسان  ‏من الأغراض  ، وفجأة  أوقف  سيارة تكسي  ، ‏صعد فيها  ، وتركني  نهباً للحيرة  والسخرية...‏
‏ أشعلت  سيجارة  ، وعادت تطفئها  بأصابع  ‏متوترة ، ضاغطة إياها  بقوة في قعر  المنفضة . ‏اعتدلت  في جلستها بحركة عصبية ،وتأملته بعينين ‏ملتهبتين،  مترقبة ما سيقول  . ‏
لم يفه بكلمة، استغرق في التفكير، ورسم في ‏ذهنه صورة لصديق طفولته. أخفى ابتسامة  بدت ‏ناشزة في موقف كهذا . ‏
قال في نفسه : ما الذي أجبرني على مخالفة ‏قناعاتي بعدم التدخل في قضايا الزواج تحديداً ، وها ‏هو القدر يعاقبني  دائماً ، عندما اعزف لحناً ليس ‏لي. ‏
نظر إليها مليا وبادرها  بالسؤال  :‏
‏- أين هو الآن . ..‏
‏ ردت بسرعة متحفزة :‏

‏- كيف  لي أن اعرف أين هو. ربما انتابته ‏نوبة فقدان ذاكرة ، ودخل  بيتاً غير بيتنا ، وحدثت  ‏مصيبة  ، وربما يكون هائماً في الشوارع  ، وقد ‏يكون في حالة صحو  ، وينتظر عودتي إلى البيت  ، ‏ولا استبعد  وجوده في المقهى  ، فقد  اعتاد ارتياده  ‏في الأيام الأخيرة .‏


‏ لم يجد  بداً من الخروج  معها في رحلة بحث، ‏غير واثق من أن النجاح  سيكون حليفها  . اتفقا  ‏على التوجه  إلى المقهى  كونه الأقرب . سارا ‏بصمت، وسط صخب المدينة، وضجيج أسواقها. ‏وجد نفسه فاقداً القدرة  على التدبير والحسم، ربما ‏للمرة الأولى في حياته ، ولكن لا بأس من قول شئ ‏للتخفيف عن امرأة  ، تعيش  صدمة أول أيام الزواج  ‏، جاءت  إليه لتفرغ  شحنات غضبها  . بادر  إلى ‏قطع الصمت  والتفت  إليها قائلاً :‏

‏- سمعت صديقاً لي، من المختصين في مشاكل ‏الذاكرة يقول إن إعادة ترتيب الأشياء  ، بعد تكرارها  ‏بسرعة ، ولأكثر من مرة ، من أهم منشطات المخ ‏الأيمن في الإنسان، وتشغيل طاقته لاسترجاع ‏المعلومات المخزنة  فيه  ... ‏

تأففت المرأة  ، وصرخت به قائلة :‏

‏- إنني أقصدك ، لتنقذني من مصيبة  ، وأنت ‏تزيد  همي غماً  ، وتبيعني هراءً ،سيؤدي حتماً  إلى ‏خراب بيتي ، ولا استبعد أن تقترح بعد قليل شيئاً  ‏من هذا الذي تسمونه في أحاديثكم ،  ورشة عمل ، ‏أو خلوة  ، أو حلقة نقاشية ...‏
أمسك عن الكلام  ، وتجلّد  بالصبر . تصنّع  ‏الهدوء  في لهجته ، وراح يجهد نفسه لإفهامها  ، ‏وتبسيط  ما يقصده  ، وفي نيته البحث عن  مخرج  ‏من مصيبة  ألقت بظلالها الكئيبة على نهاره ...‏

‏- مساء اليوم  أو مساء الغد  على ابعد تقدير ، ‏أقوم  وزوجتي  بزيارتكما ، نترك الأمور تسير في ‏مجراها الطبيعي  ، وخلال الزيارة  نخترع  مسابقة  ‏لتمضية الوقت ، كأن نقترح ، أن يتناول كلّ منا قلماً ‏وورقة  ، ويكتب  : بغل ، غراب ، ثور ، بومة ، ‏ثعلب، ذئب ، غوريلا  ، قرد  ... ويفوز بالمسابقة ، ‏الأسرع في تكرار  أسماء هذه الكائنات ، وإعادة ‏ترتيبها على أساس أيّ منها يسير على أربع  ، وأيها ‏يطير بجناحين  ، وأيها يمكنه الانتصاب على قدمين، ‏لمدة أطول من غيره  .‏

‏ تجاهل نظراتها المتشككة ، وواصل قائلاً : إذا ‏لمسنا نأمة نفور من هذه الكلمات ، نستبدلها بأخرى ‏مثل : خيار ، فقوس ، بطيخ ، شمام ، بصل ، ‏قرنبيط... ويبقى  شرط المسابقة نفسه ، سرعة ‏التكرار وإعادة التصنيف، ولكن على أساس ، أيها ‏فواكه وأيها خضروات . ربما يساعدنا ذلك في ‏الإمساك  بطرف خيط  ، لمتابعة حالة زوجك ، وقد ‏نهتدي  إلى القرار الصائب  ....‏
لاذت بصمت  ، لم يدرِ هل هو دليل موافقة ‏واستحسان، أم رفض يخفي شعوراً باليأس والخذلان.‏

اقتربا من المقهى  وسط المدينة  ، وقبل أن ‏يدخلاه جالا ببصريهما في المحيط . كانت المفاجأة ‏أكبر من قدراتهما على الاستيعاب . وجدا نفسيهما في ‏غابة من البطيخ ، تعج بحركة دائبة. صرفا النظر ‏عن دخول المقهى ،ووقفا مسطولين يرقبان غابة ‏البطيخ .  أياد تؤشر، وترتفع في الهواء ، أصوات ‏تضرب ، وتجمع ، وتقسم، وتطرح  ، هناك من يكلم ‏نفسه ، أصداء تصفيق تتردد هنا وهناك.  ‏

‏        غامت عينا المرأة .أخذتها الهواجس في ‏كل الاتجاهات .  لم تستبعد أن رأس زوجها تحول ‏إلى بطيخة ، بعد أن نسيها في السوق . بدأ هذا ‏الإحساس يكبر ، حتى صار إلى اليقين أقرب.  ‏أخذت تسأل نفسها بصمت ، أي نوع من البطيخ ‏رأس زوجها ؟ تمنت لو انه أمامها الآن ، لتمسد ‏رأسه البطيخة  ، ما لونها يا ترى ؟ وما مذاقها  ؟كم ‏بذرة  سوداء بداخلها ، وكم بذرة  بيضاء ؟. ‏
التفتت  إليه ، وقالت بصوت هادئ لأول مرة  ‏منذ التقيا هذا اليوم  : ألا تتذكر شيئاً مما قاله ‏أصدقاؤك  عن البطيخ؟. ‏

تلبث دقائق عدة قبل أن يستفيق من سرحانه ، ‏ورد من دون أن يلتفت إليها قائلا : لست خبيراً في ‏أسرار البطيخ  ودقائقه ، لكنني سمعت  أكثر من ‏مرة،  أن البطيخ  يرطب الجلد ، وينعش الجسم ...‏

صمت للحظات ، وكأنه  يستحضر  شيئاً من ‏الذاكرة ، وأكمل بفتور : هناك من يذهب  إلى أن ‏البطيخ يوسع الأوعية الدموية ، وينشط  الشهوات ، ‏لكن أحداً لم يقل لي بعد، أن للبطيخ ذاكرة  .‏
لم يعد  لدى أي منهما حافز لمزيد من الكلام . ‏وقبل أن يفترقا تحسس كل منهما رأسه ، وذابا في ‏غابة البطيخ   .

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة