بداية التعاسة - قصة: عبد الصمد الإدريسي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاس_الله يخليك رقم الحافلة التي توصل إلى الجامعة؟؟
_خذ رقم ستة
  صعد الحافلة مع جموع   الطلبة التي كانت مصطفة تنتظر قدومها، ورجع إلى الوراء ينزع نفسه وسط الزحام واضعا يده في جيبه حتى لا يكون فريسة سهلة  لنشال يصطاد في الماء العكر، أما اليد الأخرى فكان يمسك فيها بعصبية على الملف الذي يحمل الشهادة التي طالما حلم بها، والتي أمضى في سبيلها اثنتا عشرة سنة من الدراسة دون رسوب حتى استطاع أن يحصل عليها عن جدارة واستحقاق ، لم ينتظرها لوحده وإنما كانت كل الأسرة تترقبها وتبني أمالها وأحلامها على شهادة الباكلوريا التي سيحصل عليها "عبد السلام "   هي الآن بين يديه ، وليس بينه وبين دخول الجامعة إلا وصول الحافلة...
كان يطل برأسه من النافذة مشدوها إلى هذه المدينة الجديدة التي لم يزرها من قبل وإن كان سمع عنها كثيرا "الله يعطي لأصحاب فاس الجنة ويعطينا احنا فاس" كانت هذه العبارة وحدها كافية ليرسم في ذهنه صورة خيالية لهذه المدينة الجميلة، التي خلدت حولها هذه العبارة. وأحس بنشوة غريبة تعتريه وهو يتخيل نفسه طالبا في جامعة فاس العاصمة العلمية التي يتمناها الناس كما يتمنى المرء الجنة!!
كان الزحام الشديد في الشارع يجعل الحافلة تتوقف كثيرا مما يثير حنق "عبد السلام " ويود لو كان راجلا يطلق ساقيه للريح،لا يتحكم فيه شرطي المرور ولا يأبه للضوء الأحمر الذي يتربص بالسيارات وبهذه الحافلة بالذات..  نسي كل هذا عندما تراءت له تلك الحدائق الجميلة والمنتزهات الفاتنة بنافوراتها وأزهارها المصفوفة بعناية فائقة، وتطلع إلى العمارات الشاهقة في وسط المدينة تخترق بقاماتها السماء تذكر مدينته الصغيرة المتواضعة لا ترفع فيها المباني وجهها للسماء ولا تزدحم في شوارعها حركة المرور ولا سيارات الأجرة المارة في سرعة البرق، وقفز إلى ذهنه والده وهو منهمك في ورشته وقطرات العرق تتراقص على جبهته.. لقد كان آخر من ودعه عند خروجه في الصباح بعد أن دس في يده ما يكفيه في سفره من مال  " ليتني أستطيع مسابقة الزمن..عما قليل سيزول البؤس يا أبي، ولن تعود بحاجة إلى الذهاب إلى الورشة في ذلك الوقت الباكر من كل صباح ... أعرف أنك تحب عملك لكن لا داعي له بعد أن أصبح موظفا محترما...سأقسم لك عندها ألا تمس شيئا   "
بهذه الكلمات نطق "عبد السلام" وهو ينزل من درج الحافلة التي شرعت أبوابها الثلاثة بعد أن توقفت أمام مبنى الجامعة.
 وخطا بخطى واثقة مدخل الكلية تسبقه أشواقه وهو يتحسس في يده الملف الذي يضم تلك الثمرة التي لا تنضج إلا بعد اثنتي عشرة سنة...هو يعلم أنها لا تسلم منها إلا نسخة واحدة .. لذلك  تراه يتحسس من حين لاخرهذه الشهادة التي تعترف له -وحدها- بسنواته  التي امضاها في التعلم !! والتقطت أذناه صراخا وهتافات حادة تنبعث من داخل الكلية، ودهش للوهلة الأولى وهو يرى ساحة الكلية تمور بالطلبة في كل اتجاه.. والعشرات منهم متحلقون في حلقات مبعثرة هنا وهناك، وخيل إليه أنه أخطأ ودخل سوقا أسبوعيا في وقت الذروة!! لم يفهم لماذا يضيع الطلبة أوقاتهم في تجمعات كهذه في مؤسسات العلم والمعرفة  وتوسط ساحة الكلية...وغدت أذناه تائهة في ركام الكلمات المتناثرة من كل جانب: الإتحاد الوطني...النضال والصمود...دماء الشهداء...مجانية التعليم...مطالبنا العادلة...المنح الدراسية...لم يفهم معناها بالضبط على الرغم من أنه أشفق على ذلك الطالب الذي يقف خطيبا تنتفخ أوداجه ويحمر وجهه وكأنه زعيم حرب ينذر ويتوعد.
وعجب لهذا العالم المتخفي وراء أسواره السميكة العالية :  أي عالم غريب هذا الذي خطت نحوه قدماه !؟وأي مستقبل غامض هذا الذي يحاول عبد السلام اكتشافه!؟  وما الذي يخبؤه القدر؟؟؟؟
   كان آخر من يقف في ذلك الطابور الطويل ينتظر دوره ليضع ملفه و يتسلم وصل الإيداع الذي يثبت أنه طالب بالجامعة..وحده اختاره القدر من دون أبناء العائلة ليكمل دراسته الجامعية.. كان هذا حلمه يكسر به روتين الأشغال الطويلة في الحقل أو في الحرف اليدوية التي كتبت على كل ذكر ينضاف للعائلة، لعله يكون الورقة الرابحة هذه المرة..من قال إن الكد والشقاء هو قدره المحتوم ؟؟ وبدأ يتخيل نفسه في زحمة من الكتب والمؤلفات ينهش منها بشراهة.. قدرته على الصبر والتحمل والتفاني  لا تنتهي..لن تكون مطالعة كتاب أو حتى حفظه بأصعب مما مر به من  كد وشقاء.. لن يقبل إلا بالمراتب الأولى، بل بالمرتبة الأولى فقط ..وحدها الأيام قادرة على إثبات صحة ما يقول.
ولم يفق من شروده إلا وهو يقف وجها لوجه أمام  شباك الإيداع .. وافتر ثغره عن ابتسامة بريئة حيا بها الموظف، الذي حملق فيه بعينيه الواسعتين وملامحه القاسية. وضع الملف أمامه برزانة  ووقار، وقبل أن يلتقط  أنفاسه كان الموظف يدفع الملف نحوه :
_" والوثائق الأخرى ؟؟"
_"نعم؟؟"
_"ملفك ناقص"    ثم استطرد:   
_سر  حتى تكمل الملف وأجي تسجل.
_لكن أنا بعيد ..واليوم آخر أجل للتسجيل..الله يسهل أمرك.. 
ودارت به الأرض وهو يرى الشباك يغلق في وجهه، وأحس بالدماء تثور في عروقه.. وتذوق غصة المرارة في حلقه تخنقه..وهو الذي قطع مئات الكيلومترات، وأمضى سحابة يومه في الطريق إلى الجامعة ليغلق في وجهه الشباك !! في أخر لحظة، وفي آخر أجل لقبوله بالكلية !! لماذا يقف القدر دائما  أمامه ؟؟ ولماذا تأبى التعاسة إلا أن تكون حليفته؟؟ ولماذا هو بالضبط؟؟ وهل سيقفل راجعا يجر أذيال الخيبة؟؟ وماذا سيقول لوالده؟؟ واثنتا عشرة سنة من الدراسة..هل ستضيع؟؟  وانهالت الأسئلة على رأسه قاسية لا ترحم !!؟؟
ولم يدر كيف وجد نفسه فجأة في المقدمة أمام مئات الطلبة المتظاهرين تجري الهتافات على لسانه وهو الذي لم يسمعها من قبل، وغدا متحمسا للمزيد.. ولو لم تخرج إلا مع دمائه أو حتى روحه :
                                 صامد صامد ياطالب لو دمي سال    
                                  دمي من أجل حقوقي جعلتو شلال
    
                                              حقوقي حقوقي دم في عروقي               
                                                لن أنساها ولو أعدموني
كان العرق يسيل على وجهه غير آبه به، فقد نسي نفسه في جو المظاهرة وحماسها.. وبدا كصوفي في حضرته ذابت نفسه تائهة في مقاماتها..ولم ينتبه لقوات التدخل السريع التي كانت تزحف متقدمة  بهراواتها الغليظة لإيقاف المظاهرة التي قطعت مراحل متقدمة  في الشارع العام، وفجأة شعر بصدمة عنيفة في رأسه..أحس بعدها بدوار شديد ..وبدأت المشاهد تتراقص أمام عينيه... 

 °°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°
 °°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°

فتح عينيه المتعبتين فلم ير أمامه غير فتاة بلباسها الأبيض الأنيق، سأل في دهشة:
_أين أنا؟؟
_أنت في مستشفى الغساني.
_لكنني كنت في الجامعة!!!!؟؟؟؟

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة