الشيخ والمريد – قصة : ركاطة حميد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسإلى القاص، الأستاذ  أحمد بوزفور
حذرته زوجته كالمعتاد، وهي تقرأ ليلة من ألف ليلة وليلة، بعدم النوم مباشرة، سيما وأنه تناول وجبة عشاء ثقيلة، لأن شخيره يرج الغرفة، يصم الآذان، وأضحى مصدر إزعاج كبير بالنسبة للجيران الذين ما فتئوا يطرقون الحائط المجاور لغرفة نومهم كل ليلة وليلة …
لم ينبش بأي كلمة، بل اكتفى بالاحتماء خلف نظارتيه الطبيتين السميكتين، من نظراتها الحادة، فأحس بتضاؤله وهو يندس بهدوء كبير تحت الفراش، موهما إياها بأنه يتابع على التلفاز  ،برنامجا وثائقيا حول الفراشات الليلية.. تسللت إلى خلده ذكريات الطفولة، وهو في البادية  ،كيف كان في غرفته البئيسة يتلذذ بمشاهدتها وهي تحوم وتبتعد، تقترب، ثم تحترق بضوء الشمعة، كان دوما يتساءل عن سر تلك اللذة في الاحتراق : الشمعة مع نفسها ، ربما غبنا لمفارقتها الشهد إلى الأبد، والفراشة مع اللهيب المترقص ، المليء بالنور ، والنار ،والدخان وكأنه قانون حتمي، فرضته لعنة الحب مثلا، أو الرقص، أو الجذبة، أو الموت … تساءل لماذا يتجمد الرقص في منحوتات الصخور ، والخشب ، والأقنعة .. وقد ارتسمت الدهشة على وجهه المتعرق ، كالسكون من ماء وطين.. مستأنفا تساؤلاته حول سر الروح  ،التي تنأى عن الالتحام بالجسد إلى الأبد، وكأنها مرآة للعبور إلى حيث تنمحي مسافة ما … شعر بدفء لذيذ يلف جسده، وبارتخاء غريب، فاستسلم ونام..
رأى فيما يرى النائم، أنه تحول إلى مارد جبار، وأنه كلما توغل داخل إحدى الغابات، ازداد ضخامة وقبحا إلى درجة أنه لما تفقد وجهه في نصف مرآة زوجته المدسوسة تحت المخدة، وجد أن ملامحه قد اختفت بشكل مطلق .. لم يعد يبدو منها سوى محيط حول الرأس ، لكنه دقيق، بداخله حفرة غائرة، تفور منها حرارة ، وشيء كالسراب. رآه وجهه، لكنه لم يراه هو ،كأن المرآة حضرة  ،لا ترى الوجه ، بل ترى الروح … أطلق العنان لجسده بعد الهيجان ، وكأنه يقدمه قربانا لولادة جديدة ، فاضطربت باقي حواسه ...
وأنه كلما اجتاح منطقة مخضرة، تحول باقي جسمه إلى كرة لهب  ،تلتهم كل ما تصادفه في طريقها .. لكن زوجته ، زعمت أنها ذات يوم ، رأته معلقا بين السماء  ،والأرض  ،بحبل إلى شجيرة زقوم.كان متدليا منها كعنقود من ذالية .. لا يبدو منها ، سوى حبات تشتعل  ،تم تنفلت .. تدعوه إلى إقصاء جسده الفاني ، تعتصر ماءها ، فينسكب معتقا على بياض لوحه، بياض لذته، تحرره، خلاصه، جنونه … بدت لها اللحظة  ،أشبه بطلاق يذوب فيه الغائب  ، بداخله في متاهة الشاهد المسجون في عتمة الرؤيا ، داخل متاهة النفس التي تنبض فها الحياة الرائعة.. وأنه كلما نظر إلى الأسفل ، أحدث اللهب ثقبا غائرا ، انبجست منه عين ماء فائرة ،كان يفزعه مظهرها، ويتسبب في اشمئزازه  ،فينظر إلى الأعلى .. والحبل يترنح من ثقله، يستجديه، ولحظة وأخرى  ، يأمره بالثبات وعدم الحركة .. حتى تعود جميع الأسرار إلى أغوارها ، والطيور إلى أوكارها. لكنه كان يصر على التحديق خلسة ، مبتسما في وجه الفراغ  ،أوساخرا  ،فتسقط الكثير من الطيور تباعا نحو الأسفل محترقة، وتتحول إلى ذرات رماد متناثرة، منسابة يقبض ببعضها فيكحل بها عينيه، صرخ بقوة متألما، نفذ صبر الجبل ، وتخلى عنه  ،فهوى على الأرض  ، وأغمي عليه ..
لكن جارته الشمطاء النحيلة، التي ما فتئت تدك بيد "المهراس" جدار غرفة نومه، أكدت أنها رأته بأم عينها منزويا في أحد أركان القرية، وبالضبط ، قرب ضريح الولي الصالح "سيدي عبد السلام بن مشيش"، يستجدي عطفا الزوار الذين هالهم منظره، وأفزعهم في نفس الوقت، فلم ترق لحاله، بينما هو يبكي ، صمت الآذان من حدة صوته المزعج، فلاذ الجميع بالفرار إلا شيخا وقورا ، نبث من حيث لا تدري، ظل واقفا مبتسما يحرك هامته ذات اليمين ، وذات الشمال … فسأله في اندهاش :
ألم تتألم ؟
حملق فيه الشيخ ، وكأنه يستهزأ منه  ، وصاح بدوره بصوت خافت، فتألم الرجل ، حتى اضطر إلى وضع سبابتيه في أذنيه، ثم خر مصعوقا، وطلب منه أن يعلمه بعضا من أسرار  ،ما أتى به الأولون … ربت الشيخ على كتفه وقال له :
بل علمني أنت …
من فرط اندهاشه، وقف الرجل مرتبكا، ضم إليه الشيخ، اعتصره، حتى كاد يزهق روحه  ،وهو يصرخ .. قبل يديه ورأسه وهم بالسجود له ..
رجته زوجته بقوة، وهي تصرخ في وجهه الواجف :
ألم أنبهك من قبل ، أن الجيران سيهدون فوق رأسينا جدران هذه الغرفة، ها أنت تضيف إلى الشخير، صراخك المدوي ؟ يا لك من رجل ممل  ،وحقير، لقد ضقت من تنبيهك كطفل صغير، كل وقت ، وحين ،أصبحت لا تطاق .. لا تنم على ظهرك  ،بل على جانبك الأيمن ..
نزع نظارتيه، فتضببت الرؤيا حوله، بدا له ضوء "الأباجور" باهتا ، ومزعجا، فأسبل جفنيه ثانية .. أمسك بيد الشيخ ، وصارا معا في ضباب كثيف نحو مكان مجهول ، وهما يبتلعان صمتهما، يتأملان سحر ملكوت الخالق، توقفا على مشارف ضاية كبيرة، جلسا معا تحت شجرة توت في نفس اللحظة  ، دون اتفاق .. قال الشيخ : لما خلق الله السماوات والأرض، وجدنا آدم من طين، ونفخ فيه من روحه بعد انتظار دام أربعين سنة اقتضت حكمته ألا يعبد أحدا غيره، وألا يعص له أمرا .. فقاطعه الرجل قائلا : أن آدم خالف تعاليم ربه، فأنزله من السماء إلى الأرض، وقبله طرد جدي شر طردة، أخذت أوراق الشجرة تتساقط تباعا، بينما ظل الشيخ صامتا، هائما، متأملا، مسافرا .. فبدا للرجل لحظة في صورة زوجته البدنية ، بملامحها القاسية  ،وصوتها الأجش، وجسدها المترهل، وأنوثتها المفتقدة، وأخرى  ، في صورة جاره السي عزوز الثرثار ، الذي يقض مضجعه كل مرة ، وحين ، بحكاياته الخرافية ، كلما دعاه إلى مشاطرته لعبة "الظاما" ، نازعا طاقم أسنانه الاصطناعية، يتأمله ثم يعيده إلى مكانه ، وهو يمسح أصابعه بخرقة نتنة ، وبالية، يظل ممسكا "بالقيش" بين أصابعه ، رافعا إياه عاليا، يسخر من رداءة نقلته الأخيرة، وضعف إستراتيجيته في الهجوم ، مقحما كالعادة بطولاته الخارقة ، إبان مشاركته في الحرب العالمية الثانية، مما كان يفقده لذة اللعب .. ولحظة رمى الرجل الضاية بحجرة صغيرة، تجاوزت ضفتها اليمنى ، ثم عادت نحوه دون أن تقع .. وظلت تحوم فوق رأسيهما ثم استقرت فوق راحة يده  ،المبسوطة في انسياب ودعة، فخاطبته قائلة :
ما بال الشيخ صامتا، هائما، يجتر أسراره وذكرياته المريرة ؟
فأجابها  ،وهو لا يزال يتأمله دون أن يكلف نفسه عناء الالتفات إليها قائلا :
إنه يسبر أغوار جنونه، وحكمته، وأسراره، فقاطعته قائلة : ولم لا تقول أنه يبحث عن أسرار أسرارك ،ومفاتيح غرورك ؟
فعقب عليها قائلا :
بل أنا، من يبحث عن سر القوة في الوهن والعصف في الهدوء !…
قال الشيخ : أن مركبا سيطفو بعد حين، على متنه امرأة  ، يجمد نور جمالها  ، حليب الرضع في الأثداء، وحركة الأسماك في الماء، وتغريد الطيور في حناجرها، وتسبيح الحجر ، في كل وقت وحين …
انشقت الحصاة، وتشظت فجأة، وسمع هدير غير بعيد وكأنه طوفان وشيك، ماجت مياه الضاية، فتوقف الشيخ عن الكلام ، وانبرى للتسبيح، انتصب واقفا وهم بالرحيل .. لكن الرجل اعترض سبيله، وانطلق كالمسوس سائرا فوق صفحة الماء، أخرج المركب والحسناء ، وسحبهما معا نحو الضفة الأخرى، أحنى الشيخ هامته، تقديرا ، إعجابا  ، للرجل الذي سرعان ما التفت إليه وهو يترجاه بإخباره.
قال الشيخ : بل أخبرني أنت، عن سر اللذة في الاحتراق، والحضرة في مرآة النفس ؟
قال الرجل : أرني سر الوضوح في الغموض، والقوة في الهزال …
قال الشيخ : بل أكشف لي أسرارها أنت !
نطقت المرأة وفرائصها ترتعد قائلة :
 أنها كالشعرة الواهنة، والقوة الخادعة، وهي شر مستطير، صدام بين الحق والباطل، هي سراب المسافة في المكان، سحر الاحتراق، قانون الحب، وسر الخصب، منبت الخلق، انبعاث بين أمهات الأنهار منذ مئات الآلاف من السنين.  
لم يفهم المريد شيئا مما قيل، فصرخ بقوة، غاضبا، باكيا، صائحا :
علماني بعضا مما أوتيتما علمه ؟
قال الشيخ : بل علمنا أنت بعضا مما أوتيت، فلا علم لي سوى ما علمني الرحمن الرحيم ..
قالت المرأة : أنا أعلمك، مما علمني إياه هاروت وماروت … 
أجابها الرجل مستهزئا :
 ما أوتيت من العلم إلا نزرا قليلا، هباءا منثورا، ثم رفع رأسه حانقا نحو الأفق فاحمر، وطفق يبكي بكاء مريرا، فأمطرت مطرا ، لم يشهد له من قبل مثيلا …
لكزت المرأة زوجها بقوة تلك المرة، وهي تحضن قطتها المدللة الخائفة التي ماءت  ، مواء غريبا على غير عادتها، آمرة إياه بالنهوض لإقفال نافدة المطبخ ،  التي نسيت إحكام إغلاقها ، مضيفة أن قصف الرعد بشكل متوالي، حتما سيصحب بعاصفة هوجاء. بينما كانت هي ترتجف، كان هو يحاول استرجاع بعضا من تفاصيل حلمه  ، أو كابوسه، فندت عن ثغره ابتسامة عريضة، مخاطبا نفسه قائلا:
لعل الشيخ  ، والمرأة الجميلة  ، لحقا بي، نط من مكانه بنزق دون أن يكلف نفسه عناء ارتداء منامته، وخرج نحو فناء المنزل  ، عاريا  ،لا يلوي على شيء، أوقد جميع الأنوار، وتأكد من إغلاق جميع النوافذ .. أطل من كوة صغيرة في المرحاض ،  فلفحته هبات برد قارس، ثم عاد إلى السرير ،  باحثا عن الدفء ،  وخيط الحكي.
كان المطر قد بدأ يتساقط  ، فاستسلم الرجل للنوم ثانية ،  وهو متلذذ بإيقاعاته الجميلة، و الماء يمسح عنه أحزانه، ويطهر المرأة من أدرانها، والطبيعة من قبحها، لكنه لاحظ أنه صار رجلا وسيما  ، تحسس وجهه فوجده عاديا، لكن ظهره احدودب  ، فأوحى له  ، كأنه صار مثقلا بأدران أجداده، التفت إلى المرأة الجميلة جدا، وطلب منها الزواج، فترجاها جاثيا على ركبتيه، كلا أمرها بالزواج منه .. هل أمرها فعلا بذلك ؟ المهم في الأمر أيها السادة ،  أنها همت به وهم بأخته، وأثناء طقس اللذة ،  واحتراق الرغبة، دمعت عيناها فنز عرقه، كانت قسمات وجهه تنقبض ، كلما لامس نعومة بشرتها، أو اصطدم بنثوءاتها المنحوتة كأيقونة مرمرية باردة، أغوته بنهش جسدها العاري ، المفعم بالحياة، فطفقت هي تمرح  ، وتمتلأ بسره المفعم بالحرارة  ، والتدفق، فغمرتها طاقته. حاول مقاومة حتفه، لكنها كانت كعقرب  ، تراه يذبل ،  يتكاسل، يبرد، وقد علت التجاعيد فجأة  ، سائر جسده، تحول إلى شيخ عجوز وواهن، إلى شجرة عارية، ظلالها باهتة ،  ينما كانت هي تتسلل كالموت إلى إدراكه ،  واستيهاماته.
لكن الشيخ أجهز عليهما فجأة وهما ينصهران ذات واحدة.
توقف المطر الغريب، وأشرقت شمس عهد جديد، حلقت العصافير في السماء ،  وتحركت الأسماك في المياه، والحليب في الأثداء، وسمع تسبيح الأشجار، والأحجار ،  بذكر الله، فخر الشيخ راكعا ،وجثا في خشوع طويل ،  وسفر بديع ،  لم يقطع لذته ،  وارتقاؤه، سوى وقوف طفل صغير أمامه، كان عاريا كما ولدته أمه، فبدت على وجهه  ، ملامح المرأة الجميلة، وعلى صدره ،  نثوءات صغيرة  ، أشبه بالتي كانت على صدر الرجل .. التفت إليه الشيخ ،  فأصيب بذهول كبير  ، وهو يقرأ أسرار علاماته  ، فانطلق لا يلوي على شيء، يجري فوق صفحة مياه الضاية الصقيل، والطفل يركض وراءه صائحا علمني يا شيخي .. أخبرني يا شيخي ! أرني يا شيخي ! وكلما زاد خوف الشيخ  ، ازدادت سرعته  ، إلى أن حلق بعيدا  ، بعيدا جدا، واختفى عن الأنظار …
وحسب إفادة زوجته، أن الشيخ قبل أن يحلق، سقط من "تشاميره" الأبيض ،  شيئا أشبه برزمة، أو "كموسة" صغيرة  ، قيل أنها بركته. بينما شك جاره المزعج ،  في كون  الشيء الذي سقط ،كانت رؤاه وكوابيسه وتعاسته. لكن الطفل ،  صاحب الوجه الجميل، والجسد الغريب، قال بريب كبير  ، أنه خاتم حكمته الذي لا يزال غارقا في أعماق الضاية، وقد يكون في بطن سمكة، أو حجرة … وادعى  ، أنه أشبه بذرة الماء ،  أو فقاعة الهواء … لا لون ،  ولا طعم  ن ولا رائحة لها … ولا يتخذ أي شكل … فاستمر يحرق الغابة  غضبا، ويقتل كل من صادفه في الضاية جورا …
وفي صباح اليوم الموالي ،  أقامت المرأة البدينة جنازة لزوجها الفقيد، ونعاه جاره ببكاء مرير.

ركاطة حميد
ســــلا
2008.07.29 


تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة