ورطة – قصة : مصطفى سهيل

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاسعندما صعد إلى الحافلة كانت كل جنباتها غاصة بالركاب  ..  العمال والمستخدمون والموظفون الصغار يعودون الآن إلى بيوتهم بعد يوم مرهق من العمل  ..  أصبحت وجوههم مألوفة في الحافلة بفعل توالي الأيام ومرور الزمن  ..  لذلك سرعان ما يلحظون الوجوه الغريبة عنهم  ..  ثمة ركاب لا يظهرون إلا في مثل هذا اليوم من كل شهر فقط  ..  إنه آخر يوم من أيام الشهر  ..  وفيه يتقاضى هؤلاء العاملون رواتبهم  ..  فتأتي تلك الوجوه الغريبة لتجوس أياديها خلال الجيوب ، وتعيث فيها نشلا ونهبا في غفلة من أصحابها الذين يكون التعب قد بلغ بهم مبلغه ، فينشغلون بتعداد محطات الوقوف التي اجتازتها الحافلة ، حتى لا يضطروا إلى قطع مسافة طويلة على أقدامهم ، تجعلهم تحت رحمة العصابات التي تتربص بالمارة بين الأزقة والدروب  ..  هو يعرف أن هذه الوجوه يتم تغييرها من شهر لآخر لأسباب تكتيكية وأمنية يعلمها رؤساء هذه العصابات  ..  يعرف كذلك أن هذه العصابات تشتري حق احتكار هذا الاتجاه الذي يؤمه عدد كبير من العمال والمستخدمين والموظفين الصغار بحكم تواجد معظم المصانع والإدارات في هذه المنط قة  ..  فلا يحق لأفراد عصابات أخرى الدخول على نفس الخط  .. وقد عاين مرارا حفلات "تأديب" أقامها أفراد تلك العصابات لمن سولت لهم أنفسهم خرق تلك الأعراف  .. 
قبل أن يصعد إلى الحافلة وزع الأوراق المالية التي تشكل كل راتبه الشهري على مناطق مختلفة من جسمه  ..  وضع معظمها في أكثر المناطق حساسية  ..  فكر في لحظة من اللحظات أن يطلب من المسؤول المالي في المصنع أن يحتفظ له براتبه أياما إضافية حتى تهدأ حركة النشل في الحافلة  ..  لكن طلبات الزوجة لا تعرف الانتظار  ..  وإبراهيم صاحب الدكان لا يقبل المماطلة والتسويف  ..  ودواء أمه المريضة بالربو منذ أعوام لا يمكن تأخيره وإلا عجـَّل بنهايتها  ..  وصاحب البيت يحضر بوجهه الجهم في نهاية كل شهر لاستخلاص ثمن الكراء  ..  وأطفاله ظل يُمَنِّيهم بملابس جديدة منذ أن التحقوا بالمدرسة ورأوا زملاءهم يتباهون بملابسهم الفاخرة .. وحذاؤه الذي لم يتبق منه إلا جزؤه العُـلوي ، ينبغي تداركه بالإصلاح اليوم قبل الغد .. كل ذلك جعله يتراجع عن فكرته ويغامر مثل زملائه بحمل راتبه وسط زحام الحافلة ..

همه الآن الانقضاض على أول مقعد يجده شاغرا .. فالجلوس على الأقل يجعله في مأمن من الأيدي المتسللة في خفة ومهارة إلى الجيوب .. ما أن رأى السيدة التي تحتل المقعد الموجود إلى يساره تتأهب للوقوف حتى كان أول الجالسين مكانها ، غير مبال باحتجاجات الواقفين ومن بينهم نسوة وعجزة رفع بعضهم عقيرته بصرخات أشبه ما تكون بنباح كلاب ضالة .. الآن اطمأن نسبيا على راتبه .. بقيت خمس محطات كي يصل إلى أقرب نقطة من بيته .. دعا الله في سره ألا تصاب الحافلة المهترئة بعطب فيضطر إلى انتظار حافلة أخرى كما حدث أكثر من مرة .. يعرف أنه في هذه الأثناء بالذات تمتد الكثير من الأصابع إلى الكثير من الجيوب لتـُنـسَج بذلك الخيوط الأولى للعديد من المآسي الاجتماعية .. ولكن لا قدرة له على منعها .. كل ما يستطيعه هو أن يدفع المأساة بعيدا عنه حتى لا يتكرر ما حدث له ذات مرة عندما غادر الحافلة خاوي الوفاض .. فوبخته زوجته كتلميذ متهاون لم ينجز واجباته .. وآلمته أكثر عندما ارتابت في كونه سلم المبلغ كله لوالدته ..  ويا ليته فعل .. على الأقل تكون أمه قد ضمنت العلاج لعدة أشهر ..

عندما التفت إلى يمينه رأى فتاة في مقتبل العمر تحمل بين يديها رضيعا .. همَّ أن يقوم من المقعد لتجلس مكانه .. لكن الزحام الشديد والخوف من النشل جعلاه يدوس على إنسانيته ويض ع مصلحته فوق كل شئ .. وأحس عندما نظر من جديد إلى الفتاة ورضيعها بتأنيب الضمير .. وأصر على أنانيته حتى وهو يلاحظ تكالب المتدافعين خلفها مثل ذئاب جائعة .. كادت تسقط فوقه من شدة التدافع .. قالت بصوت مبحوح شحَنـَتـْه بكل ما استطاعت من نبرات الاستعطاف :" أرجوك .. خذ عني هذا الوليد .. أخشى أن يسقط من بين يدي من فرط الزحام .. " توجس خيفة لبعض الوقت .. ثم مد إليها يديه دليل القبول .. أمسك الرضيع ووضعه فوق ركبتيه .. كان وجهه المستدير ملائكيا .. يطفح بكل معاني البراءة  ..  عيناه مغمضتان  ..  وشفتاه منفرجتان كاستهلال لابتسامة مشرقة  ..  هو حديث الولادة دون شك  ..  ربما هو في يومه الثاني أو الثالث  ..  قد تكون أمه غادرت المستشفى لتوها  ..  كم تمنى لو كان له أطفال آخرون في مثل هذه السن ينعم بملائكيتهم قبل أن يكبروا ويتحولوا إلى عفاريت لا يستطيع الحد من شيطنتهم  ..  لكن ضيق ذات اليد عجل بدخول حبوب منع الحمل إلى بيته  ..  وإلى جوف زوجته إسوة بكل الجارات  ..  همَّ أن يسأل الفتاة عن الاسم الذي اختارته لوليدها  ..  لكنه فوجئ برجل يقف إلى يمينه في نفس المكان الذي كانت تقف فيه  ..  ربما جرفها الزحام خطوات إلى الأمام  ..  أو ربما ذهبت تبحث عن القابض وسط الزحام لتؤ دي ثمن تذكرتها  ..  انتظر بعض الوقت بدا كأنه الأزل  ..  أحس بحبات عرق تتشكل فوق جبينه  ..  لم يعد يذكر حتى عدد المحطات التي تفصله عن النزول  ..  بدأت تساوره شكوك  ..  وندم على أنه طاوع إنسانيته فاستجاب لطلب الفتاة وقبـِل أن يمسك الوليد  ..  أرهف السمع إلى تنفسه ..  كان عاديا ومنتظما  ..  اطمأن إلى أنه على قيد الحياة  ..  ثم قام مندفعا من مكانه  ..  شق طريقه بصعوبة وسط الزحام  .. بحث عن الفتاة بين الواقفين وبين الجلوس  ..  لم يعثر لها على أثر  .. اتجه نحو السائق يخبره بما حدث  ..  نظر إليه السائق نظرة استخفاف لا تخلو من شماتة ، وصرخ في وجهه:" أمْسِكْ عليك دميتك  ..  انزل هنا إذا شئت وخذها إلى مركز الشرطة فهو قريب من هنا  ..  "

نزل من الحافلة وهو في حيرة من أمره  ..  لا يكاد يصدق ما حدث ..  أي موقف سخيف هذا الذي وجد نفسه فيه  ..  ؟ في مركز الشرطة لن يصدق أحد روايته  ..  سيفتحون له محضرا وسيرهقونه بحثا ومساءلة  ..  وربما اعتقلوه على ذمة التحقيق أياما  ..  وإذا حمل الرضيع إلى البيت لن تكون زوجته أرحم به من الشرطة  ..  ستكبُر وساوسها وشكوكها حول علاقته بالعاملات معه في المصنع  ..  وستتهمه بكل وقاحة أن هذا الرضيع ثمرة لعلاقة غير شرعية مع واحدة منهن  ..  فكر أن يتخ لص منه بوضعه في أي ركن خال من المارة  ..  لكن أنـَّى له أن يجد الآن زقاقا بدون مارة ، والحركة على أشدها في هذه الساعات  ..  عليه أن ينتظر حتى وقت متأخر من الليل  .. وسيكون آنذاك فريسة سهلة بين أيدي السكارى والمشردين ولصوص آخر الليل  .. ثم تذكر فجأة الراتب وزحام الحافلة  ..  فتحسس بيده اليمنى جيوبه وظل يمسك الرضيع باليد اليسرى  ..  أحس بصاعقة كبرى تجتاحه عندما اكتشف آثار النشل على جيوبه تشهد عليها الفتحات الدقيقة لشفرات الحلاقة  ..  تبا لهذا الرضيع  ..  وتبا للحظة التي تنازل فيها عن أنانيته  ..  كاد يلقي به أرضا لولا أنه اطمأن إلى أن معظم راتبه ما زال في حوزته بفضل منطقته الحساسة  ..  لن تغفـر له زوجته تفريطه  ..  وستنعته من جديد بكل نعوت البلادة والسذاجة والغباء  ..  سمع أذان العشاء  .. فراودَتـْه فكرة التخلص من الرضيع بوضعه قرب باب المسجد لعل بعض المصلين يأخذه إلى بيته ويتبناه  ..  وخشي أن يمسكوا به متلبسا بجريمته فيسوقوه إلى مخفـر الشرطة  .. وهو في خضم حيرته رأى حافلة تقف بالقرب منه وتلفظ عددا من ركابها  ..  خطرت له فكـرة شيطانية  ..  صعد بسرعة خاطفة إلى الحافلة وهي على وشك الانطلاق ثم اندس بين ركابها المتزاحمين  ..  ومضى يبحث عن جالسة أو جالس يمكن أن تنطلي عليه الحيلة  ..

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة