ثلجة – قصة : وهيبة جموعي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
anfasse.org"ان أصعب مهنة هي أن تكون رجلا"
"ناظم حكمت"
إنها الثلوج...
إنه البرد ..إنه الليل ...
و إنه يسير...
عاكفا على وحدته يسير يستنزفه البياض ..يحاصره السواد...
كل شيء يغري بالموت...
لا حياة..
لا ما يشبه الحياة..
لا ما يبعث على الحياة..
في سدرة الألم يود لو يتوقف..لو يستكين ...لو يسقط ..لو تطمره الثلوج في بطنها و ينتهي كل شيء:عذابه..حيرته..خوفه..أنين امرأته المتردد في حناياه يشق قلبه ..يبعثره...
الدشرة في صمت القبور..
لا شيء إلا ما خلفته الريح ..لا صوت الا هوج الرياح..
لا شيء إلا أزيز الثلج تحت قدميه...لاشيء الا بياض الثلج فوقه..
لا أحد الا الوحيد يلفه عجزه..
هاهي الدائرة مغلقة فكيف الوصول الى كوخ الجدة "فاطمة" قابلة القرية .و القرية كلها منذ أيام تحت جبروت الثلوج..
نادم أنا على اللحظة التي تمرغت فيها في رائحة الأنثى حتى طمست على عقلي فلم أشعر أنني أزيد في عدد الأشقياء واحدا آخر..فلا يمكن أن يخرج من نطفة الفقر الا الفقر..
نادم أنا! نادم !
لكنني معذور..فرائحة الأنثى لذيذة ..طاغية ...جبارة..تغطي في لحظات على فقر العمر كله...
الأنثى!! ماذا أقول؟..هل تحلو الحياة بدونها؟...ليست الدنيا شيئا إذا لم يكن فيها نفس امرأة ...
لكن أنفاس النساء كلهن اليوم لن تذيب هذه الثلوج..ليتني بقيت وحيدا و رحلت عن هذا القبر.
في زحام الثلج أخذ يحدث نفسه و هو يحاول أن يجد لقدميه موضعا..غير أنه لا موضع لقدمه هنا...لا موضع لقدمه هناك...ضاع وسط الثلوج.
والثلوج تساقط من السماء ..تنبت من الأرض.. تخرج من جذوع الاشجار..
 أكان يجب أن يأتي الثلج لتعرف ..لترى...لتلمس فجائعية مصيرك في هذا القبر المنسي؟...
لا..أنت لم تبق فقط في هذا القبر المنسي..بل و تزوجت و كأنك تحكم على نفسك بالاعدام..
تبا لرائحة الانثى...هي التي أخرجت أبونا آدم من الجنة فكيف لا تكون سببا في دفنك هنا في هذا الربع الخالي ؟
كان يجب أن تهرب يوم أحسست بالعشق يدب في أوصالك..كان يجب أن تفر..تفر كالريح لا أن تقبل عليه كالأخرق.
السماء لا زالت موصولة بالأرض وفق خيوط بيضاء و هو لا زال يسير..يتقدم على مهل..يتخبط في تلك الكتل التي تعيق تقدمه ، تارة يكلم نفسه و تارة تكلمه نفسه..فلا أحد في الدروب الموحشة غيره ..غير نفسه..غير ضميره ..غير شعوره..غير لا شعوره..غير كفره..غير ايمانه..غير جنونه...غير عقله..غير قلبه...غير امرأته ..غير زهرة تريد أن تتفتح بين فخذي امرأته..
و غير الموت..
ربما الموت...
أو أكيد الموت..
الموت في كل مكان ..
لأن أموت و أنا عاشق خير لي من أن أموت و أنا هائم على رأسي لا أدري هدفي و لا مستقري. كان يمكن أن أرحل من هنا...النساء في كل مكان و العشق ليس عملة نادرة..
هه...أرحل..
لكن الطعم هنا.. المذاق الأصيل هنا...و ليس الذهب كالحديد و إن علت الحديد صفرة الذهب...
ذهب؟...حديد؟...أووه  !الثلج هوالحاضر الأكبر الآن .و الموت ..الموت هنا حولها..حولك..هي التي منحتك الجنة ها أنت عاجز على منحها الحياة ..ها أنت عاجز على أن تسكت آلام البطن  التي ابتلعتك يوما و طوتك في أصقاع سحرها...
يا الله !عاوني...وحدك تستطيع معونتي ..انفخ في شيئا من قوتك و انفخ فيها شيئا من رحمتك ..انصرنا على هذه القوى التي لا قبل لنا بها..
النصر...أطلب النصر...أنا انسان فاشل..هاهي عاصفة ثلجية تريني مدى إخفاقي في أن أصنع لعائلتي عشا دافئا..حتى إبني لا أستطيع أن أجد له مكانا لائقا يولد فيه..المستشفى في آخر العالم ..العيادات لمن يملكون العالم..أما زوجتي المسكينة فهي ستلد هكذا كبقرة وحيدة ..معزولة.. مطوية على أوجاعها..تبا لي من رجل...اللعنة عليها إن لم تمت و تتركني كحيوان مجروح..
غاص في الطريق...
غاص في الليل...
غاص في الثلوج...
تألم ...تحمل...
كيف له أن يتحمل و كثبان الأبيض تطوي نصفه الأسفل ؟ كيف له أن يتحمل و هو يخبط في الظلام و في الحيرة و في الخوف؟
و تتزحلق قدمه فيسقط..
على وجهه يسقط..من شدة الوجع يلعن نفسه ..يكاد يكفر:يا الله ! علمونا أنك الرحمان الرحيم فأين هي رحمتك ؟..
من على وجهه يزيل البلورات البيضاء التي لم تعد بيضاء و يتقدم قاصدا بيت القابلة و عيناه  تشتعلان بشيء مثل الغضب..مثل التحدي..مثل الإصرار.
تقدم الألم خطوات في صدره..في جسده..في روحه...طغى عليه..أحس بالهوان..شعر أن وجوده هناك ليس خطأ جغرافيا إنما ميتافيزقيا و لطالما فكر فيما يمكن أن يكون قد اقترفه من خطايا تعادل هذاك العقاب..
حبات الثلج تتدحرج على جسده ...على نفسه... تتغلغل في ثنايا إيمانه.
تبا لهذا الثلج الذي يتحول الى شيطان ...يتحول الى وحش...يتحول الى موت !
نفض رأسه بقوة...
ليست الليلة للموت ...ليست الليلة للعدم ..
الليلة للحياة ...للخلق...للتجديد...هكذا فكر ...تحد ...اقدم و تقدم...
لا تفكر في البرد..ركز تفكيرك كله في امرأتك التي ستلد الآن..هذا وحده ينسيك الألم الذي يبري عظامك...
لا تتطلع الى الظلام الحالك حولك ..بعد قليل سيغمرك نور يأتي من بطن زوجتك ...قاوم ...قاوم لترى النور..ليفيض عليك الألق المنتظر...
ظلام ..صمت ...عزلة...صقيع...ما أفظع هذا !   
هذا حقا فظيع ...لكن قاوم ...زوجتك ...طفلك...أين الجيران ؟...أين القابلة؟...أين الله؟

******
ظل يقاوم !!!
ظل يتقدم مستميتا في نقل خطواته عبر أكوام الثلوج التي غطت الدروب...غطت الأكواخ ..غطت الغابة كلها...
الدشرة على شفا هوة من الثلج...
الليل يسري قارس البرودة ...
قطرة..قطرة...الليل يسري و دفقة..دفقة البرودة تتسلل حتى أخمص الروح و هذا البياض يوشح الأرض و الشجر و الحجر.
الدروب الوعرة...الدروب المنسية غاصت كلها تحت أطنان الثلوج..عزلت الجبل و في صدره أرواح عارية تئن..تبحث عبثا عن خمرة الدفء ، عن شيء يغطي..تدرأ قبحا الى النفس يتسلل.. تعالج كفرا يتخمر.
شيء من الخوف اعتراه قبل قليل و قد مر بذهنه خاطر حاول طرده بكل ما بقي في أعصابه من قوة:"لا ..لا يمكن هذا..ليس اليوم..ليس الآن .."
حاول أن ينام ...النوم سيسري به الى حيث لا يفكر...الى حيث لا يقلق..الى حيث لا يخمن و لا ينتظر...
لكن لا سبيل الى النوم..حاصره الثلج ..نفذ البرد عبر الغطاء المهلهل..وصل الى عظامه يفرمها انكمش و قد طوى رجليه و سحب اليه قدميه و اقترب من زوجته أكثر..راحت تئن هذه أكثر.. رفض أن يسألها عن حالها..خشي أن تجيبه بما يكره..دفن رأسه في ظهرها..دعا الله كثيرا و كبر 
آه ! آه ! صرخت المرأة و الرحم بشدة ينقبض..بشدة أخذ الرحم ينقبض.
مفزوعا قفز الرجل على قدميه خارج الفراش.أشعل مصباح الزيت..هربه من تيارات الهواء البارد المتسلل عبر شقوق الباب..ارتجفت يداه ..كاد المصباح يسقط..وضعه على طاولة قديمة متآكلة الجوانب...اقترب من السرير الحديدي..سألها في خوف :" هل حان الوقت؟ "..أجابته بين الزفرة و الشهقة :"أظن ذلك "..سقط على طرف الفراش خائر القوى :"ألم تجدي إلا هذه الليلة؟".. ثم أضاف هامسا في يأس:"ستموتين..ستموتين .."
موجة ألم اجتاحتها بقوة ..صرخت..قالت:
لست أنا ..لست أنا..انها مشيئة الله.
أستغفر الله ..أستغفر الله...و لكن ما العمل؟..ماذا بوسعي أن أفعل لك الآن؟
لا أدري ..لا أدري..آه !!  آه !!
اندفع الى كوة في الحائط تشبه ما يدعى عند الناس بالنافذة .أزاح عنها قطعة حطب تسدها..أمواج هائلة من الصقيع هبت على وجهه..نظر الى الخارج...
الليل و القفر و هذا الثلج مستمر في سقوطه و قد حلف أن يجعل الدنيا كفنا.
استحضر عزلته..صفعه عجزه..سد فتحة الكوة من جديد و عاد الى امرأته.
قطرات من العرق تلمع على جبينها..أفي مثل هذا البرد تعرق؟ !
فتحت عينيها و نظرت اليه في خوف و رجاء ثم أغمضتهما في استسلام.
مد الخطو الى الباب يفتحه..الثلوج المتراكمة سدت المدخل..تقهقر الى الداخل و أعاد غلقه..أخذ يذرع الغرفة جيئة و ذهابا..اعتلاه شيء من الغضب و اليأس..أحس كأن تلك الجمرات التي تلتهب في الكانون الطيني أمامه تشتعل في داخله..بسرعة تدثر في معطفه الصوفي الذي ذهب لونه..انتعل حذاء الكاوتشو ذا العنق الطويل..و هم بفتح الباب من جديد.
أخذ يرفس الثلج يرفسه و يزيحه عن طريقه يزيحه..لابد أن يصل الى بيت القابلة في طرف الدشرة...لعلها لم تنم ..هي في القر مثله.
على متن الثلج طفق يستميت في القبض على أمل ينسل من بين أصابعه المتجمدة و هو يغمغم في غضب داخلي ..ثم يعود ليسأل الله العون و القوة..
الدشرة مقبرة لأي حي... لا أحد في الدروب...لا شيء غير الحب الأبيض يطقطق تحت نعل الكاوتشو...لا شيء إلا لمعة الثورة في عينيه...لا شيء إلا تقدمه المستحـيل على درب الثـلوج و التحدي...على درب الثلوج و التصدي...
توقف لحظة...أخذ أنفاسه ..سخر من حاله ..إبن المدينة يقول أن ههنا جنة، لكنه لا يطيق العيش هنا إلا سائحا.و عيون السواح ترى في بقايا الموت جمالا.
اللعنة علي إن عشت هنا لو لم يدفني هذا الثلج الليلة !
عاد يجرجر نفسه عبر الدروب...
و وصل الى بيت الجدة "فاطمة"...
يا الله ها قد وصل !
خبط عليه بكل قوة ..لم يجبه أحد...
ظل يخبط و ظل الصمت يجيبه..دفع الباب بصعوبة ليستجلي الأمر..لم يجد أحدا..أين هي يا ترى؟..أين ذهبت الجدة ؟..
لا يعلم أنها في الغابة قد باغتها الأبيض هناك و لم يترك لها فرصة الاحتطاب و العودة الى الكوخ.
و لا أحد يدري..الكل في القر مبعثر.
أخذ يرنو الى الظلام و قد وضع يده على رأسه في إعياء :"ما العمل الآن؟".
و شعر أن قلبه يضيق..يضيق أكثر.و يظلم..يظلم بشدة و ينتشر الظلام على نفسه كلها..أي حظ هذا؟..أي ليلة هذه؟
لم يعد يستطيع أن يتقدم خطوة ..و لا هو يدري على أي باب يدق أو أين يتجه..
و شهدت السماء و الأرض و الثلوج على أنه ضائع فأطفأ المصباح اليدوي الذي يحمله و اتكأ بظهره على الجدار الخارجي للكوخ.و أخذ ينظر في الظلام الدامس غير آبه بالكويرات البيضاء الرهيفة النازلة من الأفق تلامس وجهه و تمضي الى مستقرها.
ظل على تلك الحال برهة من الوقت هي الأزل كله بمقاس الوجع..بمعيار المخاض الذي داهم امرأته..
ثم في لحظة من نور انبثقت في ذهنه فكرة يبدو أن البرد يبس حتى خلاياه الرمادية فلم يتذكر ثكنة الجيش الوطني القابعة في طرف القرية تواجه الطبيعة في جبروتها و أعداء الطبيعة في قسوتهم.و رغم بعدها عن موقعه ذاك إلا أن قوة خفية دبت في جسده المقرور من جديد.
و من جديد شرع يجاهد اليأس الذي يبعثه سمك الثلوج التي تعيق أي حركة و أخذ يسير يريد أن يطوي الكيلومترات التي تفصله عن العسكر.
يا الله! يا معين! أعني! أعنها! إنها بين يديك.
أخذ يدب بكل ما يستطيع من جهد متقدما الى نقطة ضوء بعيدة يريد أن يراها قريبة رافضا الاستسلام..رافضا الرضوخ لجبروت الثلوج..رافضا الانصياع الى صوت الموت المزمجر حولها..حواليه.
قاوم ..قاوم..الفقراء عهدهم المقاومة..مهنتهم المقاومة..حياتهم المقاومة..
قاوم و اصمد فربما بعد لحظات تشرق شمس الربيع..من تحت هذه الكثبان القاسية يزهر الأمل من جديد..من الجبال الراسيات هنا يتفجر ينبوع الحياة العذب، السلسبيل.
خير لك ألا تفكر في هذا البرد الذي يبس أطرافك..خير لك ألا تنظر الى طول الدروب..الى صعوبة الدروب..فكل الدروب صعبة في زمن التهافت و اللامعقول..ركز تفكيرك على فرحة قد تخطئ موعدك معها إن انهزمت ..إن استسلمت..إن سقطت.
هالات الضوء المنبعث من المصباح اليدوي لا تريه غير طريق مسدود..كتل بيضاء جميلة لو كان للجمال موضع في قلبه اللحظة..يكاد ييأس من هذه الكتل التي لا تنتهي..من تلك السماء التي لا تكف عنه شرها..لكنه لا يعطي لنفسه وقتا لليأس..بشراسة يطأ خوفه.. يرفس ضعفه يتحدى البياض الذي أمامه..يصارع الطبيعة في طغيانها و كفارس مغوار يتقدم.
هي خطوة أو خطوتان ...ثم هي نقطة الضوء...
هي خطوة أو خطوتان...ثم هو الخلاص الجميل...
هي خطوة أو خطوتان ...ثم هو الاحساس بكامل الرجولة التي كانت في مستوى الرجولة حين تكون الرجولة مقاومة للموت و حفظا للحياة.
انحنى يسارا على درب الجهاد...
ثم انحنى يمينا على درب الجهاد..
ثم تسلق مرتفعا و قبل آخر خطوة انزلق و انحدر..تألم أشد الألم..شكر الله في سره على المصباح الذي لم ينكسر..على الجسد الذي لم يتحطم..عاد ليتسلق المرتفع من جديد بكل همة وصل الى قمته..سار ثم هبط يدفع الثلوج من أمامه دفعا..يجب أن تبتعد هذه الثلوج و تفسح الطريق لقدميه فهو مستعجل..يجب أن يصل الى نقطة الضوء قبل أن تنطفئ أضواؤه كلها الليلة.
صورة ابنه الآتي بين عينيه...
و مهما تعاظم الخطر لن يسمح بأن تغيب صورة ابنه عن عينيه..
في حضرتها يستشعر هذه القوة التي تدفعه الى الامام..على صياحه المنتظر يجد ما يدفعه الى السير متحديا الخطر..كل الخطر.
تملؤه الصورة ..تملؤه..و يتحول الصياح المنتظر في أعماقه الى أغنية جميلة تحمل تباشير شمس تطل من خلف السحاب.
قاوم...قاوم...
البرد...لا ليس البرد...الصقيع...الليل...الوحدة..العزلة...الأطراف التي لم يعد هناك احساس بها..الرأس الذي يؤلم ..الأنفاس المتلاحقة..الصدر الذي يكاد ينفجر..الحلق الذي يوجع ..الأسنان التي تصطك...
و أخيرا ..هوذا بناء ينبعث منه نور...نور على نور..."الكازيرنة"...ثكنة الجيش الوطني...يا الله ما أكرمك ! انهم هنا...و انهم يدبون في تعاريج القرية..ما أروع جلبتهم في الخارج بسياراتهم ..بعتادهم! ما أجملهم و هم يشتغلون !
و سقط أمامهم...على ركبتيه سقط و قد استهلك آخر ما تبقى لديه من قوة.
أدخلوه ..طببوه..انتشرت الحرارة من جديد في جسده..ألبسوه ضد البرد مما يلبسون و انتشروا برفقته على الدرب بعد أن تم الاتصال بخلية الأزمة المشكلة على مستوى مقر الولاية تحت قيادة السيد الأول في الولاية من أجل التكفل بمخلفات غضب الطبيعة في المداشر و القرى حيث توجهت قوافل الإغاثة بالمؤونة و الوقود و وسائل فتح الطرق المسدودة في حملة تضامنية احتفت بها الانسانية كلها.
سار معهم دون أن يدري أنه ههناك في المدينة قلوب معهم ترافقهم خطوة ..خطوة و تتلهف على خلاص زوجته و خلاص الأهالي الذين تكاد تطمرهم الثلوج المباغتة، المستمرة في تعاريج الجبال و قد حاصرتهم وقطعت  الدروب الموصلة اليهم.
سار برفقة رجال الانقاذ في الدروب التي عاد الثلج و غطاها من جديد و كأنه لم يمر بها منذ قليل.
لم يعد يفكر في الخطر...فلم يعد وحـيدا...لم يعد ضائعا...هناك إخـوة له على درب الصمود
و التحدي...هناك إخوة بجانبه على درب الرحمة و التضامن..
أخذ يفكر في زوجته..كيف حالها الآن؟..ألاتزال حية؟ استشعر موجة من الاشفاق اتجاهها...يا الله لقد تركتها بين يديك...في رعايتك...لقد استودعتك اياها فكيف هي بين يديك؟.
رجال الانقاذ يغوصون في الثلوج مثله تارة يكلمونه و تارة يسكتون..تارة يعلقون على هذا الضيف الذي لم يحط رحاله في الولاية منذ الثمانينات و الذي أصر اليوم على المكوث و حلف أن يصنع الفرجة الجميلة و يصنع القلق أيضا و تارة يصمتون .و يترامى حديثهم الى سمعه و كأنه صدى بعيد لأناس من كوكب آخر..غائب هو عنهم تتزاحم مشاعر شتى في داخله يطغى عليها الامل لحظة و الخوف لحظات.

     وقف مذهولا أمامها ..لازالت حية ترزق...تئن أنينا خافتا..غير أنها حية.. وجهها الذي هزل في لحظات و شحب غاص في الألم ..
لم يدر أيفرح أم يبكي هو الذي لا يتذكر أنه بكى يوما ما.
شكر الله في سره ..شكر و كبر...
انها لم تمت..انتظرت عودته...ربما كانت واثقة من رجلها الذي سيعود..ربما أراد الله في حكمته و رحمته شيئا آخر..غابت آلامه كلها لرؤيتها حية..كأنه لم يتعذب..كأنه لم يمت في كل خطوة كان يخطوها..كأنه لم يكن في الجحيم الأبيض منذ قليل.
حملها رجال الانقاذ على نقالة و طفقوا يسيرون من جديد...
ما أصعبها من مهمة !
الليل و الثلوج و الصقيع وثقل امرأة حامل على شفا الوضع ..على شفا الموت..و هم يتقدمون عبر طريق مسدود..هم يتقدمون..هم يتعثرون..لكنهم لا يسقطون..يواصلون السير كأنهم مدفوعون بقوة علوية الى الامام..ربما مصدرها الاحساس بالواجب..ربما نداء التضامن..ربما الانسانية ..ربما كل هذا معا.
" الانسان عظيم رائع !" يقول" كوكتو"..هل أخطأ "كوكتو"...كلا..ما أخطأ..هو ما أخطأ..
المرأة تحت الأغطية تئن..تتوجع...
المرأة بين أيديهم الرحيمة تتلوى ألما ..لكنها مستسلمة لقدر تراه جميلا على وجوههم المشرقة برحمة ربها.
و الرجل معهم يعاود المسير في دروب ملت ذهابه و ايابه عبرها كأنه يهزأ بخطرها..بانسدادها ..كأنه لا يعبأ بالموت المتربص في زواياها.هو الذي لا يدري أنه في نقطة ما من الزمن و من الأرض شهد رجل ما ..عظيم ما على أن "أصعب مهنة هي أن تكون رجلا".
يريد هذا الجسد أن يتخلى عني...يريد أن يفلت مني ..أن يقتلني...لكني أحاول ترويضه...أحاول أن أدفع به الى أقصى الاحتمال ..الى حدود المستحيل...
التجربة صعبة ...انتحارية لكنه يخوضها..لكنهم يخوضونها...و ليس لهم الا خوضها.
"أضيعوا كل أمل أنتم الداخلون إلى هنا"..هم لم يقرؤوا عبارة "دانتي" التي تخيلها مكتوبة على أبواب الجحيم..هم لم يقرؤوها على أبواب القرية..على الشجر و على الحجر في هذه الليلة الدهماء.
هم يسيرون ..هم يتحركون تحت أشعة الضوء و الدفء المنبعث من دواخلهم.
و وصلت الملحمة الى آخرها ..
أدخلوا المرأة الى المركز و جاءت الأقدار بأجمل صدفة حين عرف أنه على  مقربة من هناك توجد قابلة هي زوجة أحد الضباط.
جيء بها على عجل..
جاءت تحفها هالات الضوء لتؤدي المهمة المقدسة..
بعدها سمع في الأنحاء صياح مولود ..
الكل هلل !!
هو رقص قلبه طربا..سأل ..سألوا عن الأم و عن المولود..قال لهم الملاك الرحيم أن الأم بخير ..ضعيفة لكنها بخير و المولود طفلة في غاية الجمال.
هتف القائد هنا الى السيد الأول هناك في غرفة العمليات.فانطلقت أساريره كلها للبشرى.. شاع جو من الفرح بعد الترقب و القلق..صفق بعضهم للنهاية الجميلة ..ضحك و سماها ذاك ثلجة .. ابتسم الجميع فقال  :" أحسن من أسميها عاصفة".
ضحك الجميع ..
ضحكت في ركن مشرق الانسانية..
ضحك قلب الأب الذي جعل ينظر الى ابنته ثلجة لا يكاد يصدق الذي كان ..الذي هو كائن في هذه اللحظة ..امرأته تتنفس في هدوء و دفء أمام عينيه و شعوره بجسده عاد كما كان و ابنته وردية كالأمل حين يشرق.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة