سلمـى – قصة : نورالدين بوخصيبي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

سلمى - أنفاسمستوحاة من أحداث واقعية
كنت أشتغل داخل مكتبي هذا الصباح، منهمكا في تصفح مذكرة وزارية أقلبها بين يدي، حين فوجئت بتسلل أنثى داخل المكتب. كان عقربا الساعة الدائرية أمامي يشيران إلى الثانية عشرة زوالا إلا ربع. كان هناك صمت جميل يسود المدرسة كالعادة بعيد انصراف التلاميذ الذين عادة ما يغمر صخبهم كل فضاءات المؤسسة خلال أوقات الدرس. نظرت إلي المرأة و ابتسمت بدلال و شيء من غنج أنثوي لمست به شيئا من التصنع. طلبت منها أن تجلس فلبت على التو. و شعرت فورا أن المرأة تطوي بداخلها شيئا، و أن لها رغبة أكيدة في إفراغ ما تطويه بداخلها من سر.. بدت لي المرأة بزيها العصري الرمادي اللون محملة بأنوثة خاصة قدرت توا أنها لن تكون بدون ثمن.. لا أقول إنها بدت لي جميلة، لكنها تميل إلى الجمال علما أنني شخصيا لا أستطيب مسألة الجمال الجسدي هذه، إذا هي لم تكن مسنودة بجمال روحي أو فكري عميق. تفحصت مسرعا وجهها المستدير الأبيض الميال قليلا إلى السمرة. نظرت إلى عينيها السوداوين و قدرت أن المرأة تعيش جرحا داخليا عجزت عيناها الغائرتان عن إخفائه.
قلت: ما الأمر يا سيدتي؟
قالت و هي تبتسم بتلقائية: أنا أم الطفلة سلمى بالقسم الثاني ابتدائي.


قلت، بعد أن أطرقت هنيهة أدور الاسم في ذهني: تقصدين سلمى (...)، أليس كذلك؟
ردت على الفور: هي بالضبط. سلمى ابنتي..أريد رؤيتها و السؤال عن حالها..
قلت: تقطنين بمدينة تطوان، صحيح؟
ارتبكت الأم بعض الشيء، و بدت مستغربة لمعرفتي بهذا الأمر، و قدرت أنها كانت تحاول إخفاءه، و خمنت أنها بذلت مجهودا لتسايرني في الحديث بعدما أدركت أنني أعرف جانبا من الحقيقة.
قالت: الأصح أنني أقطن  بلدة كاستييخو بشمال المغرب.
كانت اللكنة التي تنطق بها المرأة الدارجة المغربية لكنة شمالية بالفعل، بادرتها بالقول:
هل أنت من أهل الشمال؟
ردت: لا ياسيدي.. أنا هناك فقط من أجل الشغل..
رنت كلمة "كاستييخو"ذات الأصل الإسباني رنينا خاصا داخل قلبي، و فتحت في جهة من روحي شهية خاصة للمزيد من استكشاف حقيقة هذه المرأة التي بدا أنها استطابت الحديث معي لأنني أبديت كعادتي مع
جميع الناس بساطة و لباقة خاصة في الحديث و الإنصات، و استعدت لتوي رحلتي إلى كاستييخو لأول مرة و أنا ابن العشرين ربيعا حين كنت ما أزال طالبا بالجامعة. و أذكر أنني انبهرت بهذه المنطقة الجبلية الخلابة و أنني قضيت بها إحدى أجمل أوقات عمري و كنت حينئذ ما أزال يافعا متحللا من كل المسئوليات.
حدثت المرأة عن ذلك و قلت:
ترى كيف غدت كاستييخو اليوم؟
ردت على الفور: منطقة سياحية جميلة آهلة بالفنادق و المطاعم.. لم أسأل المرأة عن عملها لكنني قدرت توا أنها تعمل ضمن فضاء السياحة ذاته بمطعم أو بمقهى، و لم أستبعد أن يكون عملها بفندق أو وكالة سياحيـة.
و ربطت على الفور بين طريقتها في الكلام و انفتاحها السريع علي من غير شعور بالحرج، و بين عملها في هذه المنطقة. حدثتني عن مشاكل الحياة هناك، و عن صعوبة العيش. حدثتني عن فاتورة الكراء المرتفعة الثمن، و أدركت أن  المرأة لجأت إلى كاستييخو للاختفاء هناك بعد أن حلت بها "لعنة" المرأة الطالق. نطقتها بالفرنسية و نظرت إلى عيني مباشرة لتقرأ رد فعلي توا:
قالت: أنا divorcée. أدركت لماذا نظرت في عيني مباشرة بعد نطق هذه الكلمة غير أنني تجاهلت الأمر. ليس من السهل أو ليس من المعتاد أن تكشف امرأة لرجل عن هذه الحقيقة إلا ذا كانت تود إبلاغه رسالة ما من  وراء ذلك. حييت في سري شجاعة المرأة على هذا البوح و أصخت السمع إليها لمعرفة المزيد.
قالت: أريد رؤية ابنتي.. مشتاقة كثيرا لرؤيتها يا سيدي و الله العظيم.
قلت: انصرف التلاميذ الآن.. يمكنك الحضور على الساعة الثالثة بعد الزوال، و سيكون لك ما أردت.
قالت: أريد نقلها معي إلى كاستييخو. هل تسلمني شهادة الانتقال؟
و لأن من عادتي أن أكون حذرا جدا في مثل هذه الأمور الدقيقة و المعقدة، و لأنني لا أحسم عادة بشيء في مثل هذه الأشياء، فقد التففت على الموضوع من زاوية أخرى، و طلبت منها العودة لرؤية ابنتها على أن يتم التفكير لاحقا في أمر الانتقال.
سلمى يا سلمى.. أحببت كثيرا هذه الطفلة الوديعة.. العذبة.. الواجمة.. الخائفة من شيئ ما تعرف وحدها ما يكون.. الشاردة دوما كأنما هي تقيم بعالم آخر غير عالمنا.. المقيمة داخل صمتها الخاص الذي ذكرني كثيرا بصمتي الشخصي الذي طالما بنيت بداخله قصورا من أحلام و أو هام كان الزمن العابث ما يلبث أن يدمرها بقسوة و فظاظة على الدوام.. سلمى يا سلمى.. أي قدر مر يحيط بك و يقودك نحو مصير غامض؟ سلمى.. كنت يوما أدرس حصة الإنجليزية و خطر لي أن أنادي كل تلميذ باسمه مصغرا.. قلت لها : "ما بك
يا أسلومة؟ أسلومتي الصغيرة العذبة؟"، رمقتني بعينيها الصغيرتين و لم ترد.. لم تكن سلمى تتكلم.. كانت في

صمتها الداخلي طفلة مترفعة عن الكلام.. كنت أقدر أنها تسكن خارج الكلمات.. كنت أقدر أنها أكبر من كل كلام.. كانت سلمى مجروحة بعمق.. مطعونة في صميم القلب.. و كنت حين أراها أستحضر توا هذه اللوحة البالغة الدلالة التي سكنت عقلي أياما ، صورة والدها، حين شاءت الأقدار أن أزور القرية التي يقيم بها رفقة سيارة المدرسة للإعلان عن استئناف الدراسة لهذا الموسم. لم يكن من عادتي امتطاء سيارة النقل المدرسي، لكنني لأمر ما فعلت ذلك.. كان يوما رمضانيا حارا.. اقتحمت السيارة القرية .. كانت المساعدة تذكر الآباء و التلاميذ بموعد الدراسة.. و قفنا قريبا من أحد البيوت القروية الواطئة.. أبصرت عبر زجاج السيارة رجلا قدرت أنه لم يتجاوز الثلاثين من عمره.. كان يجلس عند باب البيت في مكان تظلله شجرة.. عند رؤية السيارة قام من مكانه تحت الشجرة.. تقدم نحو السيارة.. و حين دنا منا قال: - سأسجل ابنتي بالمدرسة لديكم.. قلت: - مرحبا.. كان الرجل واجما بدا لي أنه غير مرتاح في حياته و أنه يخفي جرحا صعب علي لحظتها استكناه حقيقته.. أنهينا الحوار معه، و بعد أيام كانت سلمى تلميذة بالمؤسسة.
سلمى يا سلمى.. أي قدر غامض يسوق حياتك الموزعة بين أم هاربة نحو المستحيل، و أب مكسور قرر التشبث بالأرض، تحت ظل شجرة تحميه ربما من حرارة عيش بلا معنى؟.. كان منكسرا تماما.. كانت عيناه خلف نظارتيه الطبيتين ذابلتان تماما، و بدا لي غير قادر على الحسم في أي شيء. سلمى موزعة بين وهم الهروب و قوة الانكسار. ثمة تقطنين يا طفلتي الوديعة بين أبراج صمتك اللايحد..  أعرف جيدا قساوة هذا الصمت يا أسلومتي، فأنا أيضا عانيت كثيرا من مرارة هذا التوزع مثلك.. أنا أيضا قادني قدري الغامض ، بعد تجربة طلاق مريرة مثلك، داخل حياة عشتها  كاملة بكل عمق، و بكل قسوة، لكن أيضا بكل حب و بكل عناد و كبرياء و استماتة..
سلمى يا سلمى.. جاءت أمك على الساعة الثالثة بعد الزوال مثلما طلبت منها أن تفعل..جاءت لرؤيتك لكنها جاءت أيضا لتضمك إليها.. و علمت أن والدك طلب من إدارة المؤسسة عدم تسليمك لأي شخص آخر غيره حتى لو كان هذا الشخص أمك.. نودي علي للمكتب العلوي.. وجدت أمك هذه المرة مسربلة في "جلابة" ( لا أعرف بالضبط لماذا يطلقون على هذا اللباس هذا الاسم الغريب الذي يبدو لي بلا معنى)، كانت منفعلة تماما و هائجة مثل ثور جامح، و أدركت توا أنها حرمت من رؤية ابنتها تنفيذا لقرار الزوج.. كانت للإدارة أسبابها في ذلك.. كانت الأم تبدو مصممة تماما على تسلمك يا سلمى.. و نودي على الزوج عبر الهاتف فحضر توا.. و احتدمت المعركة بين أبويك من أجلك.. و بدا تماما أن الوصول إلى حل وسط يرضي الطرفين أمر مستحيل .. بدا كل طرف مصرا على التشبث بموقفه.. و أيقنت من خلال الحوار

الجاري بين الطرفين، حوار استعملت فيه ألفاظ بشعة ممجوجة داخل مؤسسة هي أصلا للتعليم و التربية.. لم يحترم أبواك يا سلمى قداسة المكان، أيقنت من ذلك كله أن وراء هذا التشبث القاسي لكل طرف بموقفه أشياء أخرى غير سعادتك..و تذكرت أنني قلت للأم حين جاءتني صباحا:  "الأم الحقيقية لا تسلم ابنتها لأي شخص، و لا تفرط في فلذة كبدها مهما كانت الأسباب". و شعرت أن كلماتي نفذت إلى قلبها مثل سهم حارق، و شعرت أنها صغرت أمام عيني و حاولت هي الالتفاف على الأمر بالتبريرات المادية غير أن ذلك كله بدا لي ضعيفا و بلا سند قوي يدعمه. إنني أعتبر يا سلمى أن كل شيء يصغر تماما أمام قوة الحياة، و الأمومة أكبر قوة تعطي للحياة نفسها معنى الصمود القوي و الانسياب الدافق. سلمى يا سلمى.. هاهم جاءوا يشنون حربا بسببك أنت الغارقة في لامبالاة طفلة خارج الكلمات..هاهم جاءوا يكشفون عن قذارة قاموسهم الأرعن للحصول على غنيمتهم من خلايا جلدك البريء. جاءوا يا سلمى. يدافعون عن أحقيتهم في امتلاكك.. يدافعون بعنف عن حقهم في التسلل إلى أسرار صمتك.. و ما دروا أنك أنت الأكبر.. أنت الأكبر الأكبر.. أكبر من سفالة هذا الزمن الممض..
في اليوم الموالي، حين لم يصلوا إلى اتفاق حول من له أحقية النفاذ إلى قلبك، شدوك من أطراف جسدك و تجاذبوك إليهم.. كنت بينهم مذعورة لا تفهمين ما يحدث.. و كانوا من حولك بارعين تماما في إبراز همجيتهم الرعناء باسم أمومة مهضومة، أو باسم أبوة معدومة، أو باسم سعادة لك تعرفين وحدك ما تكون. ليتهم تشبثوا قليلا بالأرض، تحت ظل تلك الشجرة.. ليتهم نظروا إلى السماء و الطيور و أغصان الشجرة.. ليتهم سألوا عينيك يا سلمى.. كان كل ذلك سيقول، سوف يقول: "سلمى ليست لأحد.. سلمى لا أحد.. سلمى طفلة من نور.. من هواء و ماء و نور.. سلمى ريح عاصفة.. سلمى طفلة خارج الزمن".. و من خارج هذا الزمن الأحمق كتبت أنا من أجلك يا سلمى.. علك تقولين ذات يوم.. هذا أبي.. فالأبوة ليست بالضرورة بالدم.. الأبوة فوق النسب.. الأبوة و الأمومة أكبر من الدم و النسب .. الأبوة حب يا سلمى و من لا يملك طاقة الحب و حرارة الحب ليس جديرا بأن يكون أبا، و لا أما..

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة