مـترجم أعـمى قصة : محمد الفشتالي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

aveugle-tradجئت للدنيا أعمى، هكذا شاء القدر. أحببت منذ ولعي الأول بالمدرسة "ابرايل " ثم أبا العلاء فيما بعد، فهما صنواي. عين القلب عندهما ترى مالا يراه ذو الاثنتين الجاحظتين. أراد القضاء أن أكون كفيفا، لا معرفة لي مطلقا بالنور وألوانه. الأشكال والمسافات هانت أمام مراس الحواس المستميت. أول أبجدية مرنتني هي ذبذبة الأصوات، وهي تنطلق من عقال الحلوق. لكل صوت بصمة خاصة على مسمعي. نمت تجربتي بأصوات العالم ودقائق طبائعها، ومع مرور الوقت غدوت خزانا لتفاصيلها. حواسي الأخرى كلها تشكلت بعد الأصوات. اليد كالعين حركتها لا تهدأ؛ ترى أشياء العالم الخشنة والناعمة. لما أقول ترى؛ أعني أن الاكتشاف يكون أدق من البصر، لأن العين ليست دقيقة... التذوقات كانت هي الأخيرة والأصعب،  فقد طال تعلمها. الحامض على عدة  تلوينات ذوقية،  والمر بآلاف المذاقات، والمالح بدرجات متفاوتة جدا. أما الحلو فكان قليلا، لأنه لا يخرج عن سكر الصباح والمساء بدار الخيرية. بالنسبة للروائح، كنت معدم الشم. فالوسط الذي ترعرعت فيه هناك؛  روائحه الملوثة دائما عطلت ذاكرة الشم، فأضحت مشلولة منذ زمن طويل.

بعد هذه التعلمات الطبيعية، شغفت بمدرسة " ابرايل " التي نظمتها الخيرية. كنت أمشي بمحاذاة الأسوار الخارجية؛ أتفادى الهاوية، وأتجنب التعثيرات عند أطراف الصخور الجانبية لباب الريح؛ لأتحاشى ألغام الطبيعة. ألتصق بالحيطان؛ حتى إذا ما تلمست البوابة المنتأة بالمسامير؛ أدق، فتفتح. أدخل وأجلس في ركني الدائم إلى طاولة، لأنهمك في خرائط مثقوبة؛ أتقن اللغة الحية المودعة في الأصابع. أوغل في الثقب، أثقب كخراز أوراقا؛ قالوا أنها صفراء. فاللون أنطقه، ولا أفهمه. وليست هناك طريقة لفهمه غير العين.

 

فيما بعد فتنت بعالم رهين المحابس الثلاثة، منذ أن ولجت ذات يوم مآثر سجونه. أو قل شاءت الصدفة أن أدلف إليها، وأنا محشو في الركن؛ الذي لا زالت علاماته محمولة في جسدي. لقد لمست ثقيبات مختصر صغير. لمستها، وانفتح الدليل المؤدي إلى سبل آثاره الباقية. تلك اللحظة أرختها أصابعي، وهي إلى الآن لا تمحي. أقصد أن ثقبها ظلت موشومة في الأصابع. هزني المعري هزا عنيفا، ولازم حياتي منذ تلك الفرصة؛ التي كان يمكن ألا تحين، لولا الألطاف التي رحمتني. صار رفيقي وصنوي، وقد ألحت علي رغبة في ترجمته إلى لغة العميان، لتحقيق التقارب والتفاهم بين كافة المكفوفين في العالم. قد تقول أنت من تسمعني أن الترجمة تكون من لغة إلى أخرى؛ بيد أن ما أقوم به هو تحويل، وعمل تقني لا غير. ولكنك ستوافقني، إذا تفهمت أن الأمر فيه الكثير من العراقيل والمخاطر؛ كالتي تعترض أي مترجم. فمهما بلـغ مترجم من معجم العميان، فلا بد أن يكون عـلى اقتدار فني كبير، كي يصل للمستوى المرغوب فيه. لقد تعبت كثيرا، وأرهقتني « رسائل الغفران ». أحملها، ولا تفارقني؛ علني أجد من يساعدني. المساعدة المطلوبة تقتضي إلزام صاحب الرسائل الكتابة ب "ابرايل". اتصلت بالكثيرين، وتحاورنا مطولا حول هذا العمل. ولم أجد مع الأسف من يرقى للتطلع؛ الذي أنشده، وأعتز به. هؤلاء من اتصلت بهم؛ كانوا لا يقرؤون، أو قل يقرؤون بوتيرة واحدة. يعني لا يقرؤون القراءة الصحيحة والمرجوة؛ التي تراعي ما سأقوم به، من أجل إبداع خاص بالعميان؛ يعيد خلق الرسائل. فليس ممكنا أن أقوم بترجمة حقيقية؛ إلا إذا كانت الإصاتة مجيدة، بدون أدنى تحريف، ولا لحن، ولو كان بسيطا. لأن مع أقل تحريف يكون العمل الفوري والشاق؛ الذي أنجزه بالمثقب؛ قد غير كل شيء، فتصير زوايا ما قائمة أو منفرجة، بينما المطلوب أن تكون حادة مثلا. وقد يأخذ ما هو تثليثي وجها بأضلاع أربعة. وهكذا قد آتي عملا فريا لا قيمة له، من وجهة نظر العميان مثلي، وعلى الأخص البارعين منهم في النقش قراءة وكتابة، فأجني عليهم بترجمة ماسخة؛ لا يفهم منها شيء. وأنا لا أريد أن أجني على أحد*.
لم أيأس، والأمر على حاله لسنين، كما ذكرت. مسمعي تشرب خلالها العديد من المجزوءات والمقطوعات بأصوات مختلفة؛ دون أن أتمكن من حفظها تماما بسبب الطول. لقد استغرقت قلبي بثرائها الباذخ، فكنت أحلق في قمة الفرح كلما تسمعت عبير كلماتها. لم يكن صاحبها قاتما، ومهيضا بالجراح الموجعة؛ كما وصفوه. لقد كان يفكر عميقا، بصدق، وبألم مبرح في العالم المحيط بنا. روحه صادحة بالحق والعزة. ألزم نفسه بعضا مما لا يلزم الآخرين، وعاش في قيود لزومياته ضريرا عاشبا، عازبا منزويا، وعاكفا يملي نظمه على حروف المعجم؛ رفعا، ونصبا، وخفضا، ووقفا أيضا. قتلوه، واستخفوا بذكراه لقرون. وما أحيوها إلا بعد أن وجدوه منثورا في"الكوميديا الإلهية" وفي "الفردوس المفقود". وربما في "كتاب الرمل" أيضا.
غار بي التفكير في الرسائل الأصلية؛ أملا في استيعاب جيد؛ حتى لا أكون ضحية الدفاتر المدرسية المملة، وقد عبثت فيها أياد بالتصرف، وصارت مضجرة. لم أستعجل الأمر تحت أي طائل كان. طال بي الإنصات والتأمل؛ وتاهت بي الروية في حدائق المعنى، وأجوائها، وإيقاعات الرسائل، وموسيقاها الخاصة؛  قبل الإقدام على الإنجاز؛ وذلك توخيا للدقة، كما قلت في السابق. فالعميان أكثر الناس دقة في كلماتهم، قبل أي شيء آخر. بقيت على نفس الحال حوالي عقد من الزمن؛ إلى أن أتى الفرج على رجليه.
- الفرج ؟ ! … ماذا تقول ؟.
الفرج أتى، نعم. رقت الألطاف؛ إذ أتت يوما إلى جنان السبيل؛ بشابة في مقتبل العمر، وكان اللقاء صادما. لقد مرت كالسهم، وأصابتني بكتفها، وسقطت. سمعت وقع حذائها يعود. فعلا رجعت لتساعدني على الوقوف، وهي تعتذر كمن اقترف ذنبا لا يغفر. في الواقع كان صوتها خلابا. أول مرة في حياتي المظلمة أحسست بصوت خلاب حقا، يأخذني، حتى ليكاد يأتي بضوء البصر؛ كلما رن. صوت حان وصاف. عذب، ويعذب أكثر لما يحدثني عن الرسائل. كانت مصادفة جميلة للغاية. معها أصبح العسر يسرا. صوتها لما يتلو؛ له رنين يرتفع، وينتصب، وينخفض، ويسرع، ويتئد؛ ونبراته تفي بالمطلوب؛ تخط سلاسل المعاني، وتشي وتوحي بحروف معراج النور العجيب المفضي إلى فردوس العظماء، وتوقد نيران الرد على الأفاقين والمتهافتين، وتقوم لسان ابن القارح. أقبلت على العمل معها بنشوة فائقة، ومزاج رائق، واللغة الحية تتدفق في داخلي، وتسري على الأصابع تثقيبا سلسا. إنه درس للأصابع في الاشتقاق. ما نزال منكبين معا على هذا الاشتغال؛ خمس ساعات يوميا. وقريبا سينتهي العمل. أتمنى من قلبي أن يبهج العميان مثلي...
ثم قال كمن يودع، وهو ماش بخطى حذرة، ويداه مجستان للأمام :
-  أستشيرك .....ماذا لو طلبت منها الزواج؛ بعد اختتام مشروعنا هذا ؟... قل لي رأيك صراحة ... هذا سر بيننا ... !.
-  خطوت إلى الخلف، وأنا أرد : سأجيبك، قريبا، حين نلتقي...! .

* من المعروف أن شاعـر العرب أبا العلاء المعري أوصى أن يكتب على قـبـره :
هـذا ما جنـاه أبـي عـلي            و ما جنيت عـلـى أحـــد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
●  قاص من المغرب

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة