مقام الصَّبا ـ نص : محمد البوعيادي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

AAAو للربيع نشيده الزهري ، تفجرت أكمام الأقحوان كما يتفجر ينبوع الحلم في الأفئدة الدافئة، أنا أنا  قال لها بالعين ما لم يقله باللسان، ولَكَمْ تقول العين في لغة أهل الكشف الذين حباهم الله بنور الصمت و لغة القلوبْ، سالت الكلمات الصامتة من حديث العينين منفوشة بالكبرياء كبالونات العيد الملونة، لست أرى للعشق علي سلطانا قال كل منهما ، لكن يا أحبائي القراء  أنتم تعلمون ما لم يعلمه هذان الغرَّان الصغيران، في لمحة اللامعقول تخضر الحقولْ فلا أهمية لمن يصمت و لمن يقولْ، تعرفون بل و تشعرون و تدركون أيما إدراك و  توقنون أيما يقين أن العواصف لا تعترف ببهرجة الكلام  و أن الزلازل ترجرج أركان النفوسْ و تعلم الإنسان أقسى الدروسْ، هي نومة و حلم  فيقظة ثم يقظة فحلم فنومة و تنمحي منعرجات المنطق و ترى كل ما شيدته من عقلانية و من رزانة أشبه ما يكون برقصة قرد فوق صومعة، هو الحب كان يغزو القلبين في لحظة الانجذاب القُصوى، مغناطيس الله الذي يؤلف بين القلوب و كعادته يفرق الدروب....
هي:


أما هي يا إخوان الصّفا و خِلاَّن الوفا، هي و ما أدراك ما هي نار حامية، كانت وردة جورية عابقة بعطر التكبر و الدلال و التمنع و التفجع و الكبرياء، كانت - و ليتها لم تكن - جميلة ومتكبرة، وبرغم ما كانت عليه من تكبر و امتناع إلا أنها كانت عنده ألذ في تعاليها و تكبرها و كانت مُنية النفس حين لا تنظر ولا تنبس، و ما تعشق النفس إلا كل جميلْ برمش كحيلْ و خد أسيلْ  و صدر ناهد ينضح بالصهيلْ، كانت - و العياذ بالله - فتنة للنّاظرْ و قد نظر فرآها من حظه العاثرْ و من يومها لا غمض له جفن فإذا هو ساهرْ، و هي بدورها حين رأته اشتعلت في قلبها الظنون و رجحت أن يكون قد كلف  بها  ووقع له في نفسه نفس ما وقع لها في نفسها، فتآلفت النفوس دونما حديث و دونما اقتراب ، و أنتم يا سادتي الكيران أعلم بهذا الضرب من العشق الذي لا يقع إلا عن آلة التحكم من بعد التي في يده سبحانه عز وجل (التيليكوموند الرّبّاني)، حيث لا تجدي اللغة نفعا و لا يؤتي الكلام ثمره، وفي واقع الأمر لا الصمت يفيد في مثل هذا المقامْ و لا الكلامْ إذ هو ابتلاء من عند الله  الجلالْ، لا الصلاة تصرف النفس عن هذا الجنون ولا التسبيح يهدئ الكوامن و الشّجونْ إذا ثارت و قصفت الرعود و أبرقت داخل الصدور فأدّتْ إلى المَنونْ ، كانت فيما كانت كاشحة القد ضامرة البطن أسيلة الخدْ لا طول فيها و لا قِصرْ، كانت أروع ما يكون من الصُّورْ و في عينيها حول خفيف أقرب ما يكون إلى الحَورْ، كانت حوراء  من حواري الجنَّة، ورقاء الوجه "شُكلاطية" السُّحْنَة، رقيقة الصوت أديبة اللفظ غريبة الهوى ، أقرب ما تكون إلى الجنون ، نعم يا سادتي القراء كانت أميل إلى الجنون منها إلى التعقل و لكمْ كان مجنونا بجنونها، لربما  لأنها كشفت أمامه رزانته الباردةْ و تعقلاته الفاسدةْ، كانت و كانت و لاتزال كالفرس الجامحة مجروحة الضمير، مشوية الكبد، تقاتل عقالا و سلاسل  قديمة ورثتها عن قصي بن كلاب و سليله أبي كُليبة القرشي من قبيلة بني ماعز، فبرغم ما لها  من سحر و جذب و حضور وقعه كوقع التعاويذ و الرُّقية إلا أنها كانت أكثر احتراسا مع الناس ، لا تمد الأواصرْ ولا تطيل المعاشرْ و أميل من غيرها إلى التحفظ  و التدين الموروث  من حمادات الرِّمالْ و التبرك ببول الجِمالْ، كانت يا إخوتي" سمراء الغرة" كالليل الخافت، في بشرتها دفءُ الشتاءْ و في معصمها مفارق الضياءْ و مَجالبُ البلاءْ، إذا أطلقت أمسكتْ و إذا نظرت أربَكتْ و إذا اختلست النظر أهلكتْ، كالبجعة الراقصة على جنبات البحيرة كانت، كجواري ألف ليلة و ليلة، بليغة اللسان متأدبة، فصيحة اللكنة مُكتملةُ البَيَانْ، إذا همست  فكأنك أمام شهرزادْ، كلما قصر حديثها زادْ  و حرفه ماد ْ، فترى الخراب يَعُمُّ  بإرم  ذات العمادْ و ما جاورها من البلادْ، و ترى قلب صاحبنا يتفتت كالرّمادْ، هكذا كان يراها يا إخوتي الكيرانْ السالكين مسالك الفئرانْ، المُقسطين في الميزانْ، الآكلين لحوم الجرذانْ(عفوا)، أما هي فكانت ترى فيه غير ذلك...
هو:
أما هو يا جماعة الخلاعة و قمة الفظاعة  القائمين دهرا في الرِّضاعة( عفوا)،  فقد كان قرير العين بقلبه مستسلما لحبه، لا يريد أكثر من نظرة و ابتسامة أو همسة أو علامة، أشبه ما يكون بطائر جريح، كسير الجناح كثير المِراحْ غريب المزاحْ لا جاء و لا راحْ ، إذا الليل أسفر امتشق القلمْ و هام في لُجَّةِ العدمْ، فيبيت يعالج ما  به من خوالجْ و ما أرقه من لواعجْ حتى يبين للصبح طالعْ و يصير للنوم مانعْ، فينكفئ على جوانب الحروفْ و يلعن ربّ الظروفْ ، كان أسمر الملامحْ  منعدم المكابحْ ، في سمرته الخفيفة بعض الجمالْ و في عقله و رزانته الهيبة و الجلالْ و قد عرفْتُه ُعن قربْ و خبِرت ما سهُل عليه و ما صعُبْ، كنت ُصديق عمره و أمين سره ، و كنتُ إذا رأيت الدمع من عينيه رقراقَا أتعبني و أحزنني ما لاقَى فعلمت أنه إليها قد اشتاقَ، كان خفيف النفس، قليل العبسْ ، أسمرا من تأثير الشمسْ، حلو الشمائل، سهل المَداخِل، آمن الغوائِل، ظريف المعشرْ، مقبول المنظرْ، من أبناء المدشرْ، إذا حدث أطنبْ و إذا عزف أطربْ، و إذا زمجر أرهبْ، و كانت فيما أظن– و بعض الظن إثم – تحبه أيضا كما يحبها ، غير أن قلة الكلامْ  ودين الظلامْ أخرس الغلامْ، فما صرح بمكنونهْ ولا ارتاح من جنونهْ، و لم يكن يكثر من الحديث عنها مخافة أن يسقط في نفس المستمع ظن في أمره و شك في خبره، كان يغار عليها من النسمة إذا هبتْ و من الكأس الذي يلامس شفاهها إذا شربتْ  و لربما غارت ْعليه أيضا لكني لا أعرف على ذلك مخبرا فقد عاشرته هو أما هي فلم أدر من أمرها شيئا....
المهم يا سادةْ يا عبدة الوسادةْ (عفوا) كان بين الشابين انجذابْ و احترام و صوابْ و سهر و سهد و عذابْ، و كانا إذا تلاقيا بالنظرْ انمحى العالم و اختفى البشرْ، فلا ترى إلا ظله و لا يرى إلا ظلها فيعجزان عن ملاقاة العينينِ لأكثر من بضع ثوانِي و في تلك الثوانِي كل المعانِي ، و الفاهم يفهمْ و العالم يعلمْ، كانا قد اجتمعا في جوارْ  كالكوكبين في  المدارْ، و قد شاء معذب القلوبْ ، الله معطي و غافر الذنوبْ أن يلتقيا في ما قدر لهما من الملاقاة في جوار قريبْ، فسكنت النفسُ بُرهة برؤية الحبيب للحبيبْ، و امتزجت الزُّبْدةُ بالحليبْ، و برغم الصمت و برغم الرقيبْ إلا أن مجرد النظرْ كان يبعث السرور و يطيل العُمُرْ، كان شغوفا بحديثها و هو لم يكلمها يوما إلا تحية ملقاة ْ و هي لم تكلمه يوما إلا بلغة الرُماة،ْ فترمي السهم من عينيها كالسيف الصقيلْ ليستقر في أعماق أعماقه فإذا هو قتيلْ، كانا إذا التقيا في مكان ضاق الفضاء و صار أشبه بجحر ضب خرب ( هههه)، فلا زيد اهتدى و لا الضرب أفادْ إذا الولع زادْ، رأيته بأم عيني لا يشرب اللبن و لا يأكل السمكْ، بالجوع يبقى حتى هلكْ ، فيا ربَّنا ما أعدلك ْ؟؟...
و إني يا إخوان البَطّيخْ القادمين من المريخْ المشغولين بالأكل و المرحاض و الطبيخ       ( عفوا) لأخبركم عن أمر خطيرْ ما رأت عيني له من نظيرْ  ينبئ عن عاقبة الهوى و سوء المصيرْ ، فقد رأيت فيما يرى النائم صديقنا ذات يوم يبكي و يُصَعِّدُ الغمة و يشكي حتى أغمي عليهْ و سالت "خَنُونَتُهُ" بين يديهْ ( عفوا) ، فلما سألته عن الحال و ألححت عليه بالسؤالْ و أكثرت عليه بالمقالْ ، تنهَّد و سالت الدموع غزيرة من عينيه ْ و أنشد:

خليليَّ أَقِلاَّ عنّي الكلام و السؤالْ \\ فإنّي أرى النفع في الصمت لا في المقالْ
التي هِمْتُ بعشقها تُجافيني الهوى \\ فما يفيد القول و ما الطائل بعد الخيالْ
أنا في الموت لي مدارج تعلو سماء  \\  و لي في النوم أحلام تتْرَى من مُحالْ
فدرني أكابد  لهيبا وحُرقة  الحشا  \\ لمّا تأتي النّوازل ما تترك  من مجالْ

و لا أخفيكم أمرا  تأزمت لحالهْ ، و خشيت على مآلهْ  فأقللت من تِسآلهْ، و رق قلبي لما وقع له من أمرْ حتّى شارفَ على القبرْ، فعقدت العزم على مساعدته لما رأيت في جسمه من نُحولْ و في عقله من ذهولْ، فجئت بالقرآن الكريمْ أقرأ عليه  من سورة التحريمْ و ما تيسر من الذكر الحكيمْ إلا أنّ القرآن ما نفعْ و الضَّرَرَ ما رَفعْ  فما فيه من سورة   تفدي العليلْ و لا من آية تُشفي الوجعْ  و هل سورة التّحريمْ تُشفي ما جرحت الحَرِيمْ، فعزمت أن آخده إلى الطبيبْ علّه يجبر ما كسر الحبيبْ، فشددنا الطريق إلى المارستانْ أحْمِلُه و قد تعب الكَتِفانْ نمشي إلى عين المكانْ ، و لمّا  رآه الدكتورْ كادت قِواهُ أنْ تخورْ  فتمتم و غمغم و تلعثم  و ابيضَّتْ عيناهْ  وقال بني أسلِمْ تسلمْ هذا قدر من الرّب المُعظَّمْ، صديقك به مرض العُصورْ لا الطب ينفع ولا البُخورْ و إنّي أخشى عليه القُبورْ ، فسألت الطبيب الوَقُورْ: يا سيدي اشرح لي الأُمورْ، ما هذا الذي لا ينفع معه طب ، و الذي لا تُشفيه العقاقير و الحبوبْ ، فقالْ :   يا ولدي هو داء لا يترك أثرا و لا نُدوبْ ولا جُرْحا ولا ثُقوبْ لكنّه يقتل من اللُّغُوبْ ، فانفض يديك من الأمل فأنت في أمرك مغْلوبْ، صديقك – وا حسرتاه – مُصابٌ بداء القُلوبْ.
فحملت صديقي المُصابْ و القلب يئن من العذابْ والطريق أمامنا ضبابْ و الأمل كبركة من سرابْ و مضيت به إلى الفقيهْ علّ لديه ما يقيهْ و في عِدادِ الأحياء يُبْقِيهْ، فمدَّ يديه في حنانْ و أحضر ملك الجانْ ، و أحرقَ عودَ السّنديانْ و قالَ: احضر يا كِنْدِيِاسْ و انقذ شابا من التّماسْ و ارفع عنه الوسْواسْ الخنّاسْ الذي يقود الإنسان إلى الإفلاسْ ، فنظر الجن إلى الصديقْ، وقال اسمَعْ يا ابن الناسْ فيه مرض لا أقدر عليه و اسمهُ: مرض الإحساسْ، و انصرف الجن باكيا و يشهقُ من كلِّ الحواسْ...
فنظرت طويلا في الصديقْ و في جوفي يشتعلُ الحريقْ، وعزمت العزم على الفتاة أُخبرُها بحال الرّفيقْ عسا رؤيتها تُسعده فيصحو رُبّما أو يُفيقْ، فجاءت تحيي ذاك الأملْ جزاها الله عن العملْ، فلَّما رآها كالعسلْ تثني خمارا من خجلْ و تُبطئُ خطوها من وَجلْ تنهّدَ دهرا و ارتجلْ فقال شِعْرا و ارتحلْ ، قد مات من تحقّق الأَملْ، شهيدا وافاهُ الأجلْ، فأدركْتُ ساعتها قولةً تعودُ إلى عهدِ الأزلْ و مفادُها:  من الحبِّ ما قتلْ .
ولما كان يا إخوتي القُرّاءْ  يُحتضرْ بعد أن تحقّق مُرادُه من حبيبة قلبه التي جاءت إليه بقدميها ووقفت بين يديه ، لمّا كان يُحْتَضرْ قال بيتين من الشِّعْرْ في أذني ظلاَّ كالوتَرْ، قال:
إني أرى قربها مني عليَّ كثير  \\ فالقلب ضعيف و الخفقُ مُحالْ
يكفيني  أن تكوني آخر رُؤيةٍ   \\ فهل يموت العُشّاقُ منَ الوِصالْ.
قال هذين البيتين و خرجتْ منه الروح.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة