لعبة الأرقام ـ قصة : عمر قرطاح

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

danckaertعلى جانبي الطرقة المؤدية إلى المستشفى بعض الأزهار تتمايل على وقع هواء خفيف دافئ...الليل وأعباء الليل.. وروائح الأكل والأدوية والموت...البناية لا تتغير وحتى روائحها لا تتغير، ولكن الناس الدين يرتادونها يتغيرون باستمرار الم يكن في صورهم فعلى الأقل في سلوكياتهم وأفكارهم...
وحنان، هدا الاسم المتعب، لا يمكن أن تمر صاحبته من أمامك دون أن تنظر إليها نظرة متفحصة وتفكر فيها باحترام...سرعة في الحركة وابتسامة على الوجه وكلام كثير التأدب وجمال لا يكتشفه إلا الذي له نظرة خاصة ومتفردة في الجمال...ربما صدفة أن يكون اسمها حنان وربما كان مقدرا أن يكون الحنان الذي فيها اسما واستغاثة...
كل المرضى والأصحاء ينظرون إليها تلك النظرة المتصفحة ويفكرون فيها دلك التفكير المحترم أما هي فلا ترى في نفسها شيئا مميزا عن الآخرين اللهم حزنها العميق وقلقها المزمن ولا تظن أنها جميلة دلك الجمال الذي لا يكتشف بسهولة...
لا أحد يعرفها  كما هي أو كما تظن نفسها، كلهم ينظرون إليها من بعيد... ورغم نشاطها وانجذاب الناس إليها كانت تحس أنها وحيدة وأنها تعيش للناس كنوع من التضحية أو الانتحار...انقطعت للعمل وأدخلت نفسها في دوامة الناس فقط لتنسى أنها وحيدة ولا أحد ينظر إليها نظرة خاصة أو يفكر فيها بجرأة...هدا لا يهم الآن، فلا شيء يشغلها في العمل إلا العمل، إدخال المصاب أو المريض إلى غرفة الإنعاش.. تركيب علبة الأكسجين أو أنبوب الدم أو إعطاء حقنة أو تغطية وجه ميت...


عمل شريف كما يقول لها والدها كل يوم لكنه يتناسى أنه عمل شاق وموجع.. يتناسى لأنه عاجز لا يقدر على الاشتغال.. يتناسى لأنها تعيله وأربعة من إخوتها أما الأم فميتة..هو ليس خبيثا لكنه يتناسى عنائها لأنه مريض والمرض نوع من الخبث كما تظن عندما تغضب منه...على كل حال هي لا تجد في الأمر غرابة أن تكون ممرضة في البيت والمستشفى لأنها تظن ببساطة أن القدر أعطاها هدا الدور وأن عليها أن تلعبه بكل مشاعرها وصبرها.. وفي بعض الأحيان تتصور أن العالم كله مريض وهي الوحيدة المكلفة بالتمريض..وأنها ممنوعة من المرض وممنوعة حتى من الموت...مع دلك هي تبتسم... لدلك هي تبتسم.. لا تعرف.. لكنها تجد نفسها دون أن تقصد تبتسم للمرضى ليس فقط كمهنة بل كتسليم بالقدر...وفي أحيان أخرى تبكي...في كثير من الأحيان لا تبتسم.. مشكلتها كما تقول لها زميلاتها أنها لا تعرف ما تفعل..."حنان..." انطلقت بسرعة وراء النداء القادم من غرفة العمليات "نعم دكتور..." "هل أحضرت كيس الدم"  "نعم دكتور وهو جاهز للاستخدام..." أشار الطبيب إليها برأسه فركبت الدم للمصابة وهي امرأة في الثلاثينيات من عمرها شاحبة الوجه وبها جرح غائر في رقبتها وكدمات على وجهها نظرت إليها حنان وتساءلت.. فيما تفكر الآن هده المرأة وهي بين الحياة والموت؟ هل في الحياة أم في الموت؟ "غبي" أفاقها صوت الطبيب من تفكيرها وقد انتهى من اخاطة الجروح وقامت هي وزميلة لها بما يلزم لنقل المصابة إلى غرفة الإنعاش.. "ضربها زوجها وكاد يقتلها...الغبي" .."زوجها؟" صدى الكلمة كان حلوا في سمعها ومنعها من تتبع ما رافقها من كلمات أخرى.. أما زميلاتها فقد جلسن يناقشن قضية تلك المرأة  وانتقدن بشدة الضرب كأسلوب للحوار بين الزوجين أما حنان فقالت متحمسة "وأين هو زوجها؟"  "في السجن.."  "السجن؟" وردت إحداهن بكثير من التذمر "لا بد لهدا الوغد من السجن ألم تري كيف فعل بها؟""  "مادا؟ هل زوجها هو من ضربها؟" فضحكن جميعا وضلت حنان تنظر إليهن دون أن تعي ما تسمع... في أثناء الراحة كانت تفكر في والدها الراقد باستمرار وإخوانها الصغار الدين يعولون عليها في كل صغيرة وكبيرة وفي حياتها التي لا تعرف إلى أين تسير..ولم تكن تبكي بكاء المقهورة التي أجار عليها الزمن بل بكاءها كان بكاء الوحيدة التي لا تجد من يفهمها أو يشاركها أحلامها وأحزانها... في القلب كلام كثير لكنه كلام محبوس في بئر مظلم...ولسبب ما لا تخالط زميلاتها ولا تجد متعة في مشاركتهن أحاديثهن الروتينية، غير أن  العادة التي التصقت بها ولا تجد عنها مهربا هو لعبها بهاتفها النقال الذي يفتح أمامها عالما من الأرقام والأحداث والكلمات ويقرب لها الناس مهما كانوا بعيدين أو مختلفين وفي نفس الوقت يغنيها عن مخالطتهم...عالم سهل وطريف..تركب الأرقام كما اتفق، وترن على الناس بلا مقدمات أو مواعيد...تركيب الأرقام لعبتها المفضلة في أوقات الفراغ، عندما لا تكون مشغولة بمريض أو مصاب أو ميت...كانت تعرف أنها لعبة ساذجة وربما غير محترمة وكانت تعرف أنها تصل بها أحيانا إلى درجة الوقاحة والتهجم على الناس، لكنها لا تجد تسليتها إلا في طرق الهواتف لعلها تجد من يخرجها بكلامه من عالم المرض والموت إلى عالم الشوارع والمقاهي والبيوت..لكل عيب يطوق عنقه وهي كان عيبها الكبير ملاعبة الهواتف واصطياد المكالمات..هي ببساطة تريد أن تتكلم... أن تبوح بما لديها دون سابق معرفة ودون خوف أو مجاملة...كل الدين حولها لا يعيرونها اهتماما إلا كممرضة أو ابنة أو أخت لم يبقى لها ادن إلا ألائك الدين لا تعرفهم ألائك المنغمسون في حياة أخرى و مشاكل أخرى وأحلام أخرى فلعلهم ينجحون في فهمها..لم يبقى لها إلا دلك الجهاز تفتح به علام الغرباء الدين لا يريد القدر أن يجمعها بهم في عالم الواقع...تركب الأرقام تلو الأرقام وتنتظر الرد من شخص بعيد أو قريب...تنتظر شبحا أو أي كائن آخر لتبوح وتقول كل ما تفكر فيه دون تحفظ ودون خجل.. لن تحتاج إلى الجرأة ولا إلى الاحتياط لتتكلم ولا تحتاج حتى إلى الاهتمام، هي تكتب وكفى...وليقرأ صاحب الرقم أو لا يقرأ..المهم هو أنها ستتخيل أمامها شخصا تكلمه ويفهمها وربما يحبها...شخص ليس له مثيل في الواقع يتأثر بأفكارها ويصغي إلى نبضات قلبها ويحترم عيوبها الصغيرة ويغفر لها كل أخطائها..هي لعبة ربما...سمتها مرة لعبة الأرقام لكنها تبقى لعبتها المفضلة من بين كل لعب الحياة...اللعبة التي ستنجيها من عذابات الكتمان ومسؤوليات البوح...هي في الواقع لعبة واتفاقية...ستتكلم وصاحب الرقم يجيب ويتحاور وفي الأخير يكون النسيان وميزة الاتفاقية أنها يمكن فسخها في أي وقت ودون مقدمات ودون مراسيم أو اعتذار أو حتى وداع...يتم ربط العلاقة ثم في لحظة تنتهي دون أن تترك أثرا..المسألة بسيطة وممتعة بالنسبة لها ولآخرين لا يجدون من يستمع إليهم...ما عليها إلا أن تبدأ..وبالفعل بدأت وكانت بدايتها اندفاعا ركبت أرقاما كثيرة ورنت وانتظرت...انتظرت قليلا وانتظرت كثيرا ولا أحد يرد...لم تضع حسابا لهدا...أعادت الكرة ولم يأتي أي جواب.."أوف"...انزعجت ونظرت إلى ساعتها "الواحد ليلا"، ربما الجميع نيام... هي تنسى في بعض الأحيان أن الناس يكونون في مثل دلك الوقت نيام...سكون رهيب في المستشفى...لا جديد.. زميلاتها اختفوا من أمامها، أحست فجأة بالخوف ودفعها خوفها هدا إلى تركيب أرقام جديدة والرن بقوة وإصرار وكأنها تطلب النجدة...لم تفكر أنها بهده الطريقة تزعج الناس بل فقط قدرت أنها مادامت بدأت فعليها أن تنتهي ولن تكون نهايتها استسلاما بل إزعاجا.. الصمت الذي يملأ المكان حولها بدأ يصدر صريرا مخيفا في مسامعها..استمرت في الرن لكن لا أحد يرد وينقدها من السكون والوحدة لكن يبدو أنها لا تزعج إلا أرقاما والأرقام لا تغضب ولا ترد.. وضعت هاتفها جانبا وكانت في كل مرة تنظر إليه في كره وترقب.."رن.. رن..هيا تكلم.. قل شيئا ، أنا أنتظر هيا، أريد أن أكلمك أريد أن أقول لك أشياء كثيرة لمادا أنت هكذا مثلهم جامد ومتردد؟"...لم يستمر عتابها طويلا فقد دخلت المستعجلات فتاة في العشرينيات من عمرها تضع منديلا على خدها الأيمن قامت حنان من مكانها وأدخلتها إلى غرفة الفحص و قامت بما يلزم لإسعافها وأحست وهي تضع الدواء لها باطمئنان فهي  بطريقة أو بأخرى انشغلت بل هربت من وحدة قاتلة.."مادا حدث لك ؟"  "لا شيء عراك مع أحدهم...أنت تعرفين أخطار الليل؟  "وأين كنت؟"  لم تجبها...أطلت حنان من خلال النافدة إلى الخارج كان الليل يوحي بأن الحياة خارج المستشفى مرعبة.. أما في الداخل فسهلة وواضحة...في الخارج أفكار كثيرة ومتناقضة وأحلام متنوعة وحركة وأصوات مختلطة وفي الداخل جرح ونفس متقطع وموت...هي تريد رغم الخوف أن تبتسم ورغم الموت أن تحيى.. ولو من خلال هاتفها النقال لكنه لا يرن ولا يتحرك.. نظرت إلى الفتاة بارتباك وظنت أن الحياة في الخارج صعبة ومعقدة...ظلت تنتظر وهمّت بقول شيء  لكن الهاتف رن.. رن أخيرا وحملت إليها رناته العالم المجهول عالم الليل المخيف...رن فجأة وتوقف فجأة أخرجته من جيب بدلتها بسرعة فوجدتها مكالمة مجهولة..رنت هي أخرى فرن...لم يخب ظنها بعد.. انتظرت.. انتظرت شيئا ما لا تعرفه فجاء على شكل رسالة الكترونية فقرأت "السلام... من معي؟ أنا اسمي عائشة من
انت ؟" فخاب ظنها.. فكرت أن تعتذر من عائشة التي يبدو أنها مثلها تنتظر من يملأ عليها وحشة ليلها لكنها لم تفعل وقالت في خاطرها لأدعها تنتظر وتتخيل أن الذي رن عليها فارس من عالم آخر سأل عنها ورحل، فهدا خير لها من أن تعلم أنني فتاة مثلها، ورجعت إلى مريضتها وساعدت الطبيب المداوم في اخاطة الجرح وانصرفت الفتاة وبقيت هي تنتظر شخصا لا يأتي.. ورن الهاتف مرة ثانية نظرت إليه فوجدتها عائشة.. وجاءت رسالة الكترونية أخرى هده المرة ليست من عائشة.."فين ازين منشفوش معاك أنا فريد.."  "آه عز الطلب" يبدو أن هدا المجنون هو من سيخرجها من وحدتها بتهوره فكتبت له "أنا اسمي حنان عمري24 سنة كم عمرك؟"..فأجاب بعد فترة "كنت أظنك ولدا أعتذر"  أحست بانقباض في معدتها وأرادت أن ترمي بهاتفها من شدة الغضب، لم تجبه وظلت متجمدة وفكرت للحظة أن لديها الآن من المعلومات ما يكفي لتحكم على أن الحياة في خارج المستشفى فعلا مخيفة بل وحقيرة...وجاءتها رسالة أخرى جاء فيها "السلام.. من معي..." لم تجب وقررت أن تنام قليلا لكن صاحب الرسالة الأخيرة رن.."لأدعه يرن وينتظر جوابي سأنام وأدعه يجرب قليلا مرارة الانتظار فالرجال يجذبهم التجاهل وان كانت امرأة فسأقطع أملها في فارس الأحلام لكنه رن مرة أخرى "لا لن أجيب افعل ما شئت أنا التي بدأت فعلا، وفتحت لك الباب لكن أنت الذي تصر الآن رغم أنني أقفلت بابي.. رنة أخرى ورسالة "من معي يبدو انك إنسان أو إنسانة تافهة" لم يعجبها الوصف ورغم دلك ردت "أنا آسفة..." انتظرت فلم يجب "وليكن أنت حكمت علي أنني تافهة سأكون تافهة إلى أبعد الحدود فكتبت إليه" أنت إنسان معقد.." هي ليست وقحة لكنها تحاول أن تستفز الآخرين كي يعرفوها.. استدركت الأمر وكتبت "أعتذر لقد ركبت رقمك بالخطأ " عندما سيجيب ستتوقف تماما عن هده اللعبة التي تجعلها تحزن وتفرح مع كل رنة ورسالة.. ستنام وتحلم، دلك أفضل من مخاطبة أشخاص كالأشباح...لكنه لم يجب بعد.. يبدو أن هدا الإنسان مختلف ومعقد هكذا تصورته في خيالها أغمضت عيناها...هو لا يريد الجواب ادن، لدلك الأفضل لها أن تنسى أمره وتنام.. لكنها بين الحين والآخر تفتح عينيها وتنظر إلى الهاتف فلعلها تجد رسالة ما "لمادا لا يجيب؟" وحاولت النوم دون جدوى "هل جرحته لهده الدرجة ؟ كان علي أن أجيبه بأدب ولا أتلاعب بمشاعره.. هل يوجد إنسان في الخارج وفي هدا الليل الحقير له كرامة؟..غريب أن يكون هناك شخص يتأثر لمجرد رسالة الكترونية وصلته من شخص آخر لا يعرفه..هو ادن شخص يكره التلاعب سأرن عليه للمرة الأخيرة وسأنام بعدها فورا.."ورنت ثم عاودت الإغماض مصممة على النوم لكنه رن وجدبها جدبا من تصميمها وإغماضها.. نظرت فوجدته رقما آخر أصيبت بنوبة من القلق هي الآن لا يغريها أي رقم آخر بل تنتظر رقمه هو فقط.. دلك المغرور دو الكرامة المجروحة لا لشيء فقط لتعتذر له وتتعرف على تجربته في التجاهل.."لمادا لا يجيب؟" أحزنها السؤال وآلمتها فكرة ألا يجيب.. النوم غادر جسمها المتعب والمستشفى مازال ساكنا كأمواته.. ليس أمامها الآن إلا الانتظار أو الجنون وفجأة رن الهاتف وكان هو من رن.. الرجل المعقد صاحب التجربة الطويلة في التجاهل صاحب الرقم الذي ركبته صدفة.. ووصلتها بعد الرنة رسالة قرأتها بكل اهتمام وفرح.."آسف على عدم الإجابة كنت منشغلا أنا اسمي عادل 38 سنة وأنا لست معقدا.. هل يمكن أن أتعرف بك"...فأجابت بسرعة "وأنا حنان 24 سنة"...هدا إنسان لا يتقن التلاعب هكذا فكرت  و قررت أن تكون صادقة معه "مادا تفعلين في حياتك يا حنان"  " داخل على طمع" مزحت مع نفسها وكتبت "أنا ممرضة في المستعجلات تصور أنني الآن في العمل وأنت؟" دخول موفق وصادق لما لا؟ فنحن لا نكذب إلا على الدين نعرفهم أما الغرباء فلا ضرر..."رائع،  أنا أتشرف بمعرفتك يا حنان فأنت تساعدين الناس وتداوين آلامهم أنا الآن في الطريق السيّار من الدار البيضاء إلى طنجة " فوجئت بالخبر "شكرا لك عادل أنا انسانة عادية.. لكن ما الذي يجعلك تسافر في هدا الليل؟ وكيف تكتب لي؟".."لا تستغربي أنا أكتب بيد وأسوق بيد أليس هدا ممتعا؟ لدي عمل في طنجة في الصباح الباكر" هو كما تصورته من قبل إنسان غريب الأطوار أو مجنون و ربما كداب كبير "ألا يرافقك شخص في السيارة؟"  " لو كان معي رفيق ما دخلت معك  في حوار، الطريق طويل ويحتاج فعلا إلى مؤنس هل توافقين على رفقتي؟ أين تسكنين...؟"  " القنيطرة..لم تقل لي ما عملك ، وأنا موافقة على رفقتك"  " شكرا، أنا يا سيدتي موظف في شركة".."هل أنت متزوج؟" لم تعرف كيف كتبت السؤال لكن لا يهم.. التسرع و الخروج عن الموضوع أشياء عادية عبر الهاتف خصوصا مع الدين لا نعرفهم، ومرت فترة ولم يجب وفسّرت الأمر على أن سؤالها لم يعجبه واستدركت ربما لن يجيب ولن يفسر عدم جوابه فعبر الهاتف لا يجبر أحد على التفسير، رنت عليه فأجاب "كانت الطريق مملوءة لدلك تأخرت.. أنا متزوج ولي بنت تصوري أنها جرحتني بأظافرها على خدي وأنا أودعها.. وأنت ؟" أقلقتها مسألة زواجه "حفظها الله لك.. أنا لم أتزوج بعد"..."أنت إنسانة رائعة والله لن يضيعك وأنصحك ألا تستعجلي الزواج"  " لمادا؟ هل هو سيء؟" " لا ولكنك ما زلت صغيرة" أعجبها تعليقه بأنها مازالت صغيرة وكتبت "أنا لست متفقة معك، الزواج في سن صغير أفضل "  "ولمادا لم تتزوجي مادمت تؤمنين بهده الفكرة؟" أحست أن هدا الشخص ليس غامضا فقط بل ووقح كذلك "بصراحة لم أجد فارس أحلامي لحد الآن..." "أنا متفق معك عليك ألا تتزوجي إلا من تحبين" لم تكن تنتظر جوابه بهده الطريقة فسألته "هل تؤمن بالحب؟ وهل تزوجت عن حب؟" تأخر شيئا ما في جوابه لكنه قال "أنا شاعر أو بالأحرى كنت أكتب الشعر في أيام الجامعة وظروف العمل شغلتني عن دلك، و كما تعرفين.. الذي يكتب الشعر لا بد أن يكون رومانسي ومحب" أعادت قراءة جوابه عدة مرات وأعجبتها كلماته وأسلوبه..."طبعا الحب ضروري لكنه ربما لم يعد موجودا في هدا الزمن" "لا.. الحب موجود بدليل أن الحياة مازالت مستمرة" " جوابك مقنع وأنت فعلا شاعر"  "هل تحبين الشعر؟"   "نعم.. أحب نزار"   "أنا أعشق نزار تصوري أنني كنت أحفظ جل أشعاره وكنت أقلده.. لم تقولي لي مواصفات فارس أحلامك"   "أحب أن يكون رجلا دو شخصية قوية حنون رومانسي هادئ لا يدخن وأنيق" "مواصفات معقولة لكنها نادرة"  "لا أظن أنها نادرة لأنها مواصفات طبيعية"  "هي نادرة لأنها طبيعية"   "لم أفهم كلامك.."   "الأشياء الطبيعية أصبحت نادرة في أيامنا هده لكن أظن أن الحب ليس مرهونا بالمواصفات والشروط"  "لكني لا أريد التنازل عليها"  " ربما أنت.. لكن الكثير من الناس تنازلوا عن مواصفاتهم  بحكم الظروف وأنا كنت منهم"  "تقصد أنك تزوجت بلا حب"  "أصدقك القول...نعم، على كل حال الواقع شيء والأحلام شيء آخر"  "لكن ما فائدة الأحلام الم تصبح واقعا"  "فائدتها أنها تساعد على كتابة الشعر والابداع؟  "ما الدي لا يعجبك في زوجتك"  " كل شيء، هي إنسانة مادية، تزوجتها إرضاء لوالدي فهي من العائلة"  "ما كان عليك أن تضحي بسعادتك بهدا الشكل" كانت حنان منحنية على هاتفها ومندمجة في حوار كالهمس لا تكاد تلتفت الى شيء حتى فاجأتها احدى زميلاتها "حنان ألم تر المصابين الدين نقلوا الى المستعجات؟"  "لا" "لقد وقعت حادثة سير؟"  "يا لطيف.." غضبت لسماع الخبر وكتبت على عجل "أعتذر يا عادل لقد وصلنا مصابون سأكتب لك بعد أن أنتهي.." التحقت بزملائها في غرفة العمليات وساعدت في محاولة انقاد زوجين مصابين، أحست وكأن يدا خفية تمسك بقلبها وتعصره عصرا وسرت في جسمها كله رعشة وملأها بكاء مكتوم حتى كادت تنفجر.. "جسدين تتردد أنفاسهما بصعوبة"... هده هي الحالة التي استطاع الطب الوصول إليها بعد تركيز طويل وجهد.. كلفت بالبقاء الى جانبهما حتى الصباح كانت تنظر إليهما وتتخيل كيف كانا من قبل..كيف كانا يبتسما  لم تستطع استحضار التفاصيل لكنها تصورت كيف كان يتكلمان عن الحب والأولاد والمستقبل استرجعت حوارها الهامس مع عادل وظنت أن الكلام الذي جرى بين الزوجين مباشرة قبل الحادثة التي وقعت لهما كان كلاما عن صعوبة الطريق...  لم تنسى عادل بل هي تدكرته في دلك الموقف بالضبط وكتبت له "لا تتصور كم أنا قلقة على زوجين مصابين"  "أنا كدلك قلق لأجلهما ولأجلك وأنت تشاهدين منظرهما"  "حوادث السير تقتلنا كشعب يا عادل"  "نعم وأنا أرى دلك بعيني الآن وأنا في الطريق، إنها حرب يا صديقتي"  "هل ترى القمر الآن يا عادل؟" كانت تكتب إليه وترسم له مع كل إجابة منه ملامح في خيالها فتراه شخصا هادئا ينظر الى كل شيء حوله بأمل ويغري بالحب رغم الحوادث، وتراه في أحيان أخرى غامضا ومعقد "أنظر إليه وقد أخبرني أنك حزينة" أحست فعلا أن هدا الرجل بدأ يتسلل الى خصوصياتها ويفتح أمامها باب البوح الدي تبحث عنه لكنها لم تجد ما تبوح به وقد أخرجها منظر الزوجين من آلامها وأدخلها مرة أخرى الى عالم الناس وآلامهم..."الحمد لله على كل حال" "هروبك هدا من من أحزانك يعني أنها كبيرة.. لن أضغط عليك أحسك وحيدة من طريقة تعبيرك، لا تنسي أنني شاعر"...طبعا  الوحدة.. هدا ما أود قوله.. هدا ما أعانيه بالفعل.. وأحتاج إلى قلب حنون يفهمني وصدر دافئ يحضنني لكن لن أقولها ولن أكتبها لا أستطيع أن أقولها عبر رسالة الكترونية لا أعرف لمادا؟ لكن هو بالدات لا تستطيع قولها له ربما لأنه آنس وحدتها فلا داعي ادن لأن تخبره عنها.. فكرت هكذا لكنها كتبت "لا شيء بالتحديد فقط ضغط العمل" "أخبرني القمر أشياء أخرى.. أخبرني أنك جميلة بل وفاتنة" مادا يريد هدا الرجل مني؟ هو متزوج وهاهو يدخلني دون أن يعرف الى عالم الصور والكلمات والحب... لأول مرة يتكلم معي شخص بهذا الأسلوب وشعرت فجأة بشيء يركض في جسمها كالطفل فيلامس كل عروقها شيء يترك في كل مكان مر به حلاوة  "احذر فأنا أنثى وقد أصدق كل ما تقول..." وقالت في نفسها "هدا الشخص يهوى الغزل وسيخطفها الى عالمه الغامض ويتركها بعدما يصل من سفره"  " أنا صادق وعليك أن تعرفي أن الشعراء يصدقون جدا في وصفهم"  "لكنك أخطأت الوصف هده المرة يا سيدي، فأنا لست جميلة كما تعتقد"   "لا يا سيدتي أنت جميلة على الأقل في نظري..."آه كم هو عنيد هدا الرجل.. ومادا تريد المرأة إلا أن تكون جميلة في نظر من تحب ولربما كنت أنت الحبيب المفترض لو كانت الظروف غير الظروف "هل يمكن أن أكلمك؟" أحست بالخوف والتردد يجتاحان خلوتها... مادا؟ يكلمني؟ لم يخطر على بالها أنه سيطلب مثل هدا الطلب، ولم تهيئ نفسها لرفضه أو لقبوله فكتبت "لا أنا آسفة، أنا الآن في العمل و..." ثم مسحت ما كتب "أنا الآن مشغولة في العمل لا..." ثم مسحت "نعم ممكن أنا أنتظر" لم تفكر لأن الموقف جرى بسرعة.. لما لا؟ وقلبها الآن علم أن وراء الأرقام التي ركبت، شخصا غامضا يريد أن  يكلمها "ألوو.. كيف حالك يا حنان؟"  "الحمد لله وأنت؟"  "أنا كما تعرفين ...لقد تشرفت بمعرفتك لا أعرف هل هي صدفة أو قدر، لكننا التقينا وأتمنى ألا ننهي علاقتنا بسرعة" "ان شاء الله.. مع السلامة الآن يا عادل" لا تعرف كيف استعجلت قطع الخط هل لأنها علمت بما لا يحتمل الشك أن وراء الارقام رجل حقيقي فتراجعت خائفة؟ أو لأنها لم تجد ما تعبر به عن نفسها وقد اعتادت الكتابة والرسائل... صوته كان يوحي أنه  حقيقي وصادق...ووصلتها رسالة منه "لقد اكتشفت من صوتك أنك خجولة" "وأنا اكتشفت أنك جريء" صوته مازال يرن في أدنيها وقد زاده صوت محرك السيارة غموضا وجمالا.. لم تكن تظن يوما وهي ترن على الناس وتبعث لهم بالرسائل الالكترونية أن شيئا سيتحرك في داخلها ويعطي لحياتها معنى آخر كما حدث لها بعد سماع صوته، لا بل لم تكن تدري أن كلماته ونبرات صوته الدافئة ستخرجها من حالة القنوط التي رافقت خطواتها لتدخلها عالما من الأحلام والأغنيات.. هو ربما لا يعلم شيئا مما فعل فيها بل قد يصل في أي وقت ويتوقف عن مراسلتها وينساها... أما هي فلا يمكن أن تنسى من دفعها دفعا الى رؤية الحياة من  مكانها المليء بالموت... مازالت تنتظر أن تصلها منه رسالة تؤكد علاقتهما لكنه تأخر في الجواب كثيرا، لم تكن تتوقع أن تصاب بنوبة من الحزن لمجرد تأخره  لكنه شغلها ورحل...رحل بعد أن سمع صوتها المملوء حزنا وكآبة.. عنده حق هده هي لعبة الهاتف لا تحترم المشاعر ولا يلتزم أحد بشيء ولا حتى بمجاملات الفراق.. انتظرت طويلا وتظافرت صورة الزوجين المصابين و خبر تأخره عن الإجابة، لجعل قلبها يعتصر.. حاولت أن تنشغل عن الصورة وعن التأخر بعمل ما فلم تفلح وقررت أن تكلمه ،فهو الآن ليس غريبا عنها ومن واجبها أن تسأله عن أحواله وعن سبب تأخره، وبالفعل ركبت رقمه لكنها وجدت هاتفه مقفلا... كيف؟ ولمادا ؟ وبهده السهولة؟ وبهده القسوة..؟ لقد وصل ادن وانتهى بالنسبة له كل شيء...وبكت.. كان موقفها فعلا يدعو للبكاء لقد وصل وقفل هاتفه عنوة لتكف عن مشاغلته وهو لا يعلم أنه بنا لها قصرا من الكلمات ثم صمت للأبد ...كلماته مازالت في عينيها وقلبها وهاتفها وهو قد وصل وصمت... يا له من ظالم... قال كل شيء يخص الحب وبعدها قفل بابه ورحل...وسمعت نداءا عليها من غرفة العمليات.. قامت بسرعة واندفعت نحو الغرفة وصور كثيرة تتراقص أمام عينيها وتعبث بتركيزها وشاركت في العملية التي لم تنتبه هل تجري لرجل أو امرأة  وسمعت الطبيب يتحدث عن حادثة سير وعن السرعة وفي الأخير قال بصوت محزون "لا فائدة، لقد مات" ورغم أنها كانت منشغلة بحوادثها وبالكلمات التي تركض في رأسها فقد شعرت بالألم لمنظر آخر لرجل مات أمامها سمعت بكاءا مكتوما من طرف زميلاتها لكنها لم تبكي هده المرة، كانت من قبل تسبقهن جميعا في التأثر والبكاء لمنظر الموت لكنها هده المرة لم تبكي لأن الدي تحسه أكبر من البكاء، الجميع انصرف وظلت هي جامدة لا تدري ما تفعل كعادتها، مدت يدها الى الثوب الدي يغطي الرجل الميت أمامها وهمت بوضع الغطاء على وجهه ونظرت اليه شاردة البال.. وجه ليس له ملامح من كثرة الجروح والكدمات مادا كان يفعل هدا الوجه قبل أن يحمل إلى هنا ليموت؟ مادا كان يقول ويسمع؟ ما أفظع الموت عندما يلغي كل ما قيل...؟ عندما يطيح بكل الأحلام والعلاقات في لحظة... وقبل أن تغطى الوجه كله لمحت ندوبا على الخد وتساءلت مع من كان هدا الرجل قبل أن يموت؟ ومن هده التي بالغت في توديعه حتى جرحت خده؟ لا بد أنها زوجته أو...أو "ا ب ن ت ه" وأحست فجأة بهبوط حاد في دمها وغالبها دوار وألم في صدرها.. أحدت هاتفها ويدها ترتعد و ركبت رقم صديقها المسافر لكن هاتفه مازال مقفلا وعاودت النظر الى الوجه الميت و جاءتها فكرة مدمرة بأن يكون الرجل المسافر هو من تراه أمامها الآن، لا يمكن أن يكون هو، ولا يمكن أن تكون هي من يحصل لها هدا... خرجت من الغرفة هاربة و ظنت أنها ستجن بل جنت بالفعل، سألت زميلاتها عن هوية الميت وبعد بحث لم يجدوا معه شيئا يدل على اسمه أو هويته حتى هاتفه كان مفقودا...لا يمكن... لا بد أن أعرفه ربما هو بل هو..واختلط كلامها لزميلاتها بصوت بكائها وتشابك تركيزها في تتبع هوية دلك الميت بحيرتها ..انه هو، هكذا أحست وكان إصرارها على أن الميت هو صديقها المسافر لا يناقضه إلا إصرارها على تركيب رقمه والرن عليه لعله يرد..ويئست زميلاتها من إيجاد دليل على أنه ليس هو ويئست هي من إجابته وانزوت في ركن من المستشفى واسترجعت كل الكلمات وكل الأحلام وتيقنت أن علاقتها تلك التي بدأت فقط مند قليل انتهت وتركت في صدرها جرحا وأحاسيس غامضة مازالت تجهلها...دلك الراقد الميت لم تكن تعرفه وهي بالتأكيد مازالت لا تعرفه، لكنها تحس أنها الأقرب إليه من كل الدين يعرفونه بل هو حبيبها الذي تبحث عنه ولم ولن تجده أبدا...لم تتوقف عن الرن عليه وظنت أنه سيجيب، لا بد أن يجيب، فحتى لو كان ميتا بجسده فرقمه لن يموت...هي عرفته رقما، و الجسد الميت لا يعني لها شيئا...كان هاتفه لا يرد أبدا ورغم دلك كتبت "أعرف أنك لن ترد وأعرف أن الكلام الجميل الذي جرى بيننا ليس كاف لأعتبرك حبيبا، لكنني أعترف لك أنني وجدت فيك كل ما تمنيت...أنوثتي وأحلامي.. غريب أن يعامل أحد امرأة في هدا الزمن دون أن يمد نظره أو يده إلى جسدها وأنت عاملتني بحب دون أن تعرفني...كم أشتاق إلى كلماتك.. وكم أنا وحيدة في غيابك..." أرسلت الرسالة وقد أحست ببرودة الفجر تتسرب إلى عروقها وتحمل لها ذكريات الوداع وفجأة وصلتها رسالة أفزعتها...فلعله هو...هو أو رقمه...انه هو..لا يمكن أن تصله رسالتي ويتجاهلها...هي تعرفه جيدا وتعرف انه هو كذلك ممنوع مثلها من الموت...فتحت الرسالة في ارتباك واضح وقرأت بصوت منهزم " رصيدكم لا يسمح بإرسال رسالة..."

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة