إلى الذي يأبى الرحيل ... ـ قصة : حملاوي فاطمة الزهراء

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

3d-abstract-L-iCtOrGلحظات و تشرق شمس المغيب ، يرخي الليل أولى ثرياه ، و يعزف القمر لحن الحياة . هلموا يا أهل الصلاة ،'' فالصلاة خير من النوم '' .
عبثا ، وجدتني ساعة الفجر لا أزال مستيقظة ، ألملم شظايا أفكاري . ألف هاجس و هاجس يرقد معي ، ولو نطقت وسادتي يوما لاشتكت همها و ضيقها مني . خيل لي أن النوم خير من الصلاة ، خصوصا إن اجتمعت الأسباب . برد ، عجز ، كسل ،عزا زيل ألقى سهامه ولم يخطئها .
كنت من المبادرين و نحوت نحو الحائط، نمت القرفصاء في جلستها .. عذرا ، عن أي نوم أتحدث أنا ،عدت لأفكاري و توجساتي أسائل : هل أنا بحاجة إلى ارتواء أم بحاجة إلى احتواء ؟ لا اعلم ماذا أريد و لا اعلم لماذا أعيش الفقر في الأمنيات و الحزن في الأحلام .


نومي متفاوت، فإذا نمت لحظة استيقظت يوما . دقت الساعة الثامنة صباحا ، و قطع حبل أفكاري صوت بائع الحليب بصيحاته المدوية يلحقه بائع النعناع بحماره الصغير . دبت الحركة بأرجاء منزلنا وكعادتها والدتي تفتتح الصباح بدلو ماء و مكنسة تلملم ما أحدثته القطط من فوضى و خراب و دمار بباب المنزل . كل هذا و ذاك و أنا لا أزال أراقص مرقدي، أخاتل خواطري . حتى إذا أبت وسادتي مطاوعتي، سقطت . لأعود وأعيدها من جديد تحت رأسي . تراني أشفق لحالها أحيانا و كثيرا ما تشفق هي أيضا فتخفي عبراتي و تشاركني أهاتي و تكتنز مسوداتي ،فلا يدري بها غاشي و لا صم أبكم .. تلك يا سادتي كانت وسادتي ...
ككل الأيام المظلمة حملت مكنستي أغازل دمار أمس الذي لن يعاد تاريخه بعد . الوسائد لم تبارح أمكنتها و الشراشف تنظر لي نظرة متسول يسعى زحزحة منظومته القدرية . لا تزال الجدران تقف وقفة الشاهد برأس قبر . و ذاك الشبح المرصود هناك ، انه هو.. ذلك الباب الحديدي اليسوعي القبضة . لا يزال منتصبا محكوم الإغلاق . هزتني ابتسامة سخرية . لما نغلق أبوابنا ؟و عن أي شيء نخفي أسرارنا ؟ أفعلا لنا أسرار؟ جميل هو العالم بأسراره . ..
شيء مضحك حقا.. لو تجردنا من أبوابنا لبدت لنا المنازل منزلا واحدا لا تعدوا تختلف . فالملل واحد لا يغفل بابا ، على كل باب علق رقما ضائعا، و ما نحن إن لم نكن أرقاما ضائعة يعبث القدر بتلابيبها ..
المنزل رقم -5- كان الملل رفقته هذا الصباح . المنزل رقم -12- سافر أهله خوفا من ضيف ثقيل الظل يدعى الملل . أما المنزل رقم -30-انتحر أهله بسبب عدو قاتل ، و سم ناقع ، مرض العصر، جبار متسكع لا أهل له و لا وطن حيثما شاء حط رحاله و أعلن حربه سيد الفتوحات ، على يده البدايات و فوق أعتابه النهايات . نهاية قوم استبد بهم ملل . ..
و لا يخفى عليكم يا سادتي أن رب فكرة مجنونة ملل قاتل . تبادر إلى ذهني قتل القاتل ، جمعت أغراضي انتعلت حذائي . أغلقت الباب ورائي و آخر مناي أن يظل الضيف راقدا . أحكمت إغلاقه بمفتاح و ضحكت ضحكة المنتصر ساعة فشله . هممت بالركوض ،إلى أين ؟ نحو من ؟ لست ادري ،كانت الناس تتبدى لي لوحات فسيفسائية ، زئبقية الكنه ، سرعان ما تندثر معرضهم الأيام ..


فذاك طفل يصرخ مرحا ، و تلك شابة تترنح في مشيتها .و ذلك شيخ يروي ضماه و يقيس مفاتن كل امرأة على حدا . الكل يتحرك . .
يسيرون في اتجاهات مختلفة ، يتحدثون ، يضحكون ، و آخرون يسرعون ، خطواتهم متلعثمة شأن أقدارهم . ترى لما هم هكذا ، أليست العولمة تسعى توحيد أسواقنا ؟ لما لم توحد خطواتنا ؟ لما لم توحد مشاعرنا ؟ لما توحد أقدارنا ؟ لماذا و لماذا ... ربما هم أيضا احكموا إقفال أبوابهم عن عدو لذود و خاضوا معراج الزقاق رغبة في النسيان و الابتعاد . علامات استفهام تأبى الخضوع لنقطة إجابة
...
كادت أنفاسي تنقطع و هواجسي أبت أن تخضع لعزيمتي . سقطت طريحة الأرض ، غبت و غاب العالم عني، تعالت صيحات عشاق الكوارث ،و التف جنود الغوغاء حولي. شدوا ازيرهم ، علت زغاريدهم ، تبدى لي الجواد حمامة حليقة الراسي بقوام مفتول.
عالمي غير العالم المألوف ، وجوه بعثرت قسماتها . هشيمة تدروني الرياح من كل الجوانب . ها هي ذي الحرباء تسبح بقدها الممشوق و الطيور تتراقص بمرقدي . هناك حيث الأسود تخدم البغال و الكلاب تسير فوق ظهرها الجرذان. قزم يحاكي القردة و الشجر جالس جلسة الغيوان . هناك حيث الغلمان أسياد و الرجال غواني و النساء حاكمات بجسدهن ، هنا موطن شئت أم أبيت ، موطن الصمت حيرة
و الكلام مذلة..
فتحت مقلتاي اثر رشفة ماء على ثنايا وجهي الكظيم . من أكون ؟ أين أنا ؟ أين القزم و الغلمان ؟
لم يبادرني احد بجواب مفهوم سوى صوت امرأة تقول لي :'' بسم الله عليك ا بنتي أنت في عار الله و النبي رسول الله شافك الله بملوك ما تبعك العبد بحنوك " ..منظر غريب و مرعب في آن واحد . نساء عاريات التففن حولي يتحدثن بأصوات لم أميز منها شيئا . أيهما حقيق العالم الأول أم العالم
الثاني أم هدا العالم ؟ حسبي أن أكون صريعة أوهام . لم أدرك شيئا حينها . بعد برهة ، تراءت لي صورة لآية قرآنية مألوفة لدى مخيلتي '' فسيكفيكم الله و هو السميع العليم '' ،فاذا بي أدرك أني بحمام للنساء . أحكمت جلستي و عدلت من ملابسي . فبادرتني سيدة الحمام أو كما يسمونها '' الطيابة": ماذا أصابك يا ابنتي؟ لقد سقطت قرب الحمام فلم يجدوا بدا من إدخالك إلى هنا لإيقاظك . لم اجبها بشيء سوى نظرات عكست امتناني و استغرابي في آن واحد . رحلت كل النساء لحال سبيلهن و جلست أسترجع أنفاسي لمغادرة المكان . فإذا بامرأة عجوز أكل عليها الدهر و شرب حملت بجيدها حبلا من أمل يائس . مكسورة الرقبة هما و مرضا . منحنية الظهر تجر خطاها نحوي و دقات قلبها بادية للعيان . سألتني إحضار رزمتها و أخذت في الدعاء لي ثم قالت بصوت ملؤه الحنان و الأمان: '' الصحة يا بنتي هي كل شيء غطا الراس و الساس كلشي يهون و يدوز ويلا خطاتك صحتك عمرك تفوز سبحان من يبيتها في شان و يصبحها في شان '' ..ابتسمت لها و هممت بالرحيل و كلماتها لا تزال تهمس بأذناي الصغيرتان..
أدركت شيئا واحدا حينها ، وحده القدر يستطيع أن يضحكنا و يبكينا ..

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة