خـَـرَف ـ قصة : المصطفى السهلي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

Hartung-1964-R8حين جلس في المقعد المقابل لي في الحافلة أحسست أن وجهه مألوف لدي بشكل كبير، وأن علاقة حميمية كانت تجمع بيننا ذات يوم... ولكن أين ومتى؟... أدركت أنني لن أهتدي إلى ذلك بسهولة... وبدأت أتأكد أن ما تعيِّرني به زوجتي لم يكن مجرد دعابة، بل له نصيب من الصحة... فقبل أيام اختلطت عليّ أرقام خطوط الحافلات، فوجدت نفسي في حي لا صلة لي به ولم تطأه قدماي من قبل... واضطررت إلى الاستنجاد بالقابض ليدلني على الرقم الذي يتوجه إلى حينا... كانت زوجتي تقول لي في خضم مشاحناتنا المتنامية:"لقد خرّفت يا رجل... وبعد مدة قصيرة ستنسى حتى اسمي واسمك..." وكنت أكتفي بالابتسام دون الرد عليها...


وتذكرت حين كنت طفلا صغيرا، جارنا القديم الذي تقدمت به السن، فكانت زوجته تعلق على ظهره لوحة كتِب عليها اسم الحي الذي نسكنه ورقم بيتهم... وكنا في أوج شيطنتنا كثيرا ما نغير اللوحة بأخرى، فيجد نفسه، وقد قاده فاعل خير إلى حي آخر، بين أهل بيت ينكرون كل علاقة به، قبل أن يتطوع أحدنا ليعود به إلى الحي وسط ضحكاتنا الماكرة... كان الرجل قد أخذ مكانه واستوى جالسا أمامي، بعد أن دلته على المقعد صبية كانت ترافقه... كانت ملامحها الطفولية قريبة جدا من ملامحه، فخمّنت أنها، في الغالب حفيدته، واستبعدت أن تكون ابنته، إلا أن يكون قد تأخر به قطار الزواج... كانت عيناه مفتوحتين عن آخرهما، وتنظران في اتجاه مستقيم كأنما تبصران فراغا مهولا... كان وجهي بالتأكيد في مجال رؤيته، ولكنه لا يراني... كانت قسماته تشي بصرامة شديدة، والتجاعيد التي تعلو وجهه تخفي بين طياتها تجارب وخبرات عميقة... هذا الوجه أعرفه بالتأكيد... كان قريبا مني جدا... أو لازمته زمنا طويلا... أنا متأكد من ذلك... ولكن كيف لا أستطيع تذكر الظروف التي جمعتني به؟... هو الخرَف إذن كما تقول زوجتي... آه.. ياويلي من الخرف!... عدت أحدق في وجه الرجل أمامي... أسبر أغوار ملامحه، وأنبش في ثناياها علني أعثر فيها على ما يوقظ في ذاكرتي شرارة الذكريات، أو يدلني على خيط أستجمع به ما فات من أحداث ربطتني بهذا الرجل... انتظرت لحظات عساه يتكلم فألتقط من حبال صوته ما ينعش ذاكرتي... ولكن الرجل ظل صامتا صارما كأنه تمثال نُحِتَ من برونز... كدت أفاتحه في الحديث مفتعلا أي حيلة لاستدراجه إلى الكلام... ولكن هذه الهالة من الوقار التي أحاط بها نفسه جعلتني أحجم عن فكرتي... ثم إنه بدا لي أكبر مني سنا، وربما تمكن منه الخرف قبلي وفعل به الأفاعيل... وهذه الصبية التي ترافقه لا تقود خطاه فقط، ولكنها حتما تؤمِّن علاقته بالزمان والمكان... بالتاريخ والجغرافيا...استغرقني التفكير في هذا الأمر حتى كادت تفوتني المحطة التي سأنزل فيها، فأمنح بذلك لزوجتي ذريعة أخرى لتسخر مني... اتجهت نحو باب الحافلة وعيناي لا تفارقان وجه الرجل كأنما أشحن ذاكرتي بكل تفاصيله... نزلت وأنا أقر بهزيمتي وأشفِق على نفسي مما ينتظرها من عذاب جراء هذا الخرف الملعون... 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة