زمنٌ ميّتْ ـ قصة : عبد الفتاح المطلبي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ifpcvsلَمْ يدقْ جرسُ مُنبه الساعة المنضدية التي بدتْ ككائنٍ نائمٍ فوقَ المنضدة الصغيرة المربعة بجانب السرير لذلك ظننتُ أنني سأتخَلّفُ عن موعد مرور سيارة الموظفين وحينَ دققتُ في الأمرَ وجدتُ أنَّ عقاربَ ساعة المنبه قد لفظتْ أنفاسَها الأخيرةَ عند الرابعة والنصف وعندما أزحتُ جانبا من ستائر النافذة المطلة على الجزء الخلفي من حديقة المنزل لمْ أستطعْ تبيُّنَ حدود الأشياء التي تقبعُ هناك وكانت الظلمةُ شديدة فكرتُ أن بطاريةَ الساعة المنضدية قد نضبتْ وكان عليّ إبدالها قبل ذلك نظرتُ إلى ساعة الحائط المعلقة  فوقَ جهاز التلفاز تماما فوجدتُها قد توقفتْ هي الأخرى وكانتْ عقاربُها تشيرُ إلى الثالثة والنصف ،رحتُ أبحثُ عن ساعتي اليدوية فلم أعثرْ عليها إلا بعدَ جهدٍ وكانتْ متوقفة على الواحدة وخمس دقائق ويالحظّي التعيس حينما نظرتُ إلى ساعة الهاتف النقال فوجدتُها قد مُحيتْ من شاشته وحلت محلها خطوط لا معنى لها .


 ارتبكتْ أموري ولم أستطعْ أن أخمنَ الوقتَ  فرحتُ أصرخُ ، كم الوقت الآن؟ ...كم الوقت الآن..؟ صاحَ صوتٌ من الداخل: الساعاتُ معطلة لا نعرف الوقتْ ، وعلمَ الجميع أن الساعات في البلدة معطلةٌ جميعَها إذ سألتُ جاري و جاري سأل جاره وهكذا جرى الحديث عن تعطل الساعات جميعا في أي مكان من البلدة، لم يستطع أحدٌ أن يفهمَ الأمرَ فهرعنا جميعا لدكاكين تصليح الساعات التي توقفت أمامها طوابير الناس يحملون ساعاتهم المتوقفة والتي عجزت بدورها عن تشغيل ولو ساعة واحدة من تلك الأكداس من الساعات  فاضطرّ ألساعاتيون إلى الإقفال سريعا والإختفاء من أمام الجمهور الحائر كذلك توقفت الساعات الجديدة في محلات البيع وعبثا حاول أصحابها أن يجعلوا ولو ساعة واحدة تُتكتك فاقفلوا دكاكينهم أيضا ، وتبدلت الحياة وسادت الفوضى ضاربة أطنابَها في كل شيء فحتى ساعات الرجال الذين بعثتهم الشركات المتخصصة بتلك الصناعة لتقصّي الأمرَ قد توقفتْ عندما حلّوا ضيوفا في البلدة وتبين أن الأمر يتعلق بحدود البلدة التي نعيش فيها إذ أن أحدهم هاتفَ صديقهُ قائلا له: استردتْ ساعتي عافيتها حالما هاجرت إلى بلدةٍ أخرى، أقرّت الآممُ المتحدةُ أن الأمرَ يُعدُّ سابقة أممية خارجَ قدراتها وفهمها ولم يشهدْ العالمُ مثلَ هذه الظاهرة من قبل و أنه بالكاد كانتْ أنظارُ العالم الحر تتجه نحو هذه البلدة العريقة إذ حدث ذلك، الأمر بدا أول ما بدأ أنه ربما يكون خطأ فنيا  أو انطباعيا أو سوءَ تعبيرٍ لفظي خلالَ المكالمات الهاتفية وفي أسوأ الأحتمالات  ربما كان ذلك بسبب فيضٍ مغناطيسيٍ غريبٍ ينبع من مكان ما وربما بفعل فاعل خصوصا ونحنُ نسمع بين آونةٍ وأخرى أن هناك مثلا من يستطيع صنع الأعاصير  والزلازل في بلدان تتطلب المصالح أن يحصل ذلك فيها دون أن يرف جفن فيما يخص الضحايا وربما ستفرح الأمم المتحدة بذلك وتجدها فرصة للتعبير عن كبتها، وفي الأحوال كلها علم الجميعُ أن عليهم تقبل الأمر بعد إن تأكدَوا أنه حاصلٌ فعلا وإن لا ساعةَ تقوى على أن تديرَ عقاربها  في محيط البلدة  و إن قوانين الصدفة لا تنطبق على هذه الحالة وعندما رجعت إلى البيت كنت مهتما بمتابعة الأخبار على التلفاز حيث أكدت شركات الساعات في أنحاء العالم من سويسرا إلى الصين أن الأمر يخرج عن اختصاصها ولابد من مباشرة جهات بعينها فحصَ الأمر،ترقبتْ البلدةُ بأسرها ما سيؤول إليه الأمر وأسفتُ كثيرا للتداعيات المتسارعة التي حصلت إذ أن الحكومة وإزاء عدم امتلاكها حلا معقولا عمدت إلى إزالة كل مظاهر الحياة الزمنية ففي غضون يومين اختفت الساعات من الميادين والشوارع ومعاصم السيدات والسادة وإن القلة المتبقية التي واصلت وضع الساعات في المعاصم لم تكن تفعل ذلك إلا على سبيل استخدامها كحلية لا صلة لها بالزمن ومُحيت عبارات الوقت والتوقيتات من مرائب السفر ومحطة القطارات التي توقفت تماما تلافيا لاصطدامها وتعطل المطار بعد اختفاء جداول ومواعيد إقلاع الطائرات و أزيلت مواعيد العمل من واجهات الدوائر الرسمية و اعتبر الوقت لاغيا في البلدة بما يخص كل تلك الأمور فبدون الساعات لا طاقة َ لأحدٍ على تعيين زمنٍ أو موعدٍ وعندما فكّر فريق من المخلصين باستخدام ساعاتٍ رمليةٍ كان يستخدمها الغابرون بدا الأمر مثيرا للسخرية والإشمئزاز في هذه البلدة العريقة التي يتبجح سكانُها بحضارتهم بينما كان العالم من حولها يسعى حثيثا في مضمار النانو تكنولوجي والفيمتوثانية  فأحجم الجميع عن استخدام تلك الزجاجات الرملية ،ولم يعد مهما  أن يلج الليل بالنهار أو النهار بالليل ولم يعد هناك من وقت محدد لأي شيء ، في البداية كان الأمرُ مربكا  لكن لا أحد يستطيع محاسبة أحد على تأخر أو ما شابه إذا لايستطيع أي واحد مهما أوتيَ من قوة الإقناع أن يثبت أن الوقتَ كان متقدما أو متأخرا  وهكذا تم إلغاء الزمن وراح الناس يفعلون ما عليهم كما يشاؤون وكما يعنّ لهم واتفقوا على إن عدم قدرتهم على الإحاطة بزمنهم لا يعني الموت، هاهي مخلوقات الله الأخرى لايعنيها ذلك وقد مارست حياتها دون اعتباراتٍ للزمن و آلات قياسه ولا بأس أن يُمارس  الناسُ مشاغلهم حين يرغبون بذلك كما يفعل أي عصفور أو قطّ أو حمار ، مع مرور مزيدٍ من الليالي والنهارات المتداخلة مع بعضها وانصهار تلك الحواجز التي طالما أشارت لها عقارب الساعات تأكد الناسُ تماما أن كل أمر يتعلق بالوقت لم يعد مهما كما ظنوا وعلى الجميع تقبل ذلك بروح رياضية في هذه البلدة مما أنتج جملة من الأمور الوقائعية المهمة مثلا لا يستطيع أحدٌ محاسبة الحكومة المحلية في هذه البلدة بعد الآن على رداءة أدائها لأعمالها التي تهم المواطنين إذ ليس لأحد القدرة على إثبات  التقدم أو التأخر بعد ما اختلط الليل بالنهار وضاعت معالم الأيام الزمنية فترُكت االأمور سائبة وتم إلغاء كل المواعيد عمليا وقد فسدت مظاهر الإحتجاج على أي شيء إذ عجز المحتجون عن أن يحددوا زمنا أو ماشابه للسلطات أو ذوي الشأن فضاعت معالم تلك الأحتجاجات وبدأ ممارسوها مزاولة ذلك بلا زمن فصارت وكأنها نوع من الهوايات أو الرياضات أو كرنفالات الأعياد ، ينظم إليها من يشاء  فيما يشاء وأنى شاءوصارت مادة دسمة لعدسات الكاميرات ونشرات الأخبار ثم دخلت الأمم المتحدة على خط الأحداث عندما وجدت أن الأمر بدأ بالإستقرار على هذا النحو وإن البلدة قد انصاعت تماما لظروفها وأيقنت أن الزمن قد أصبح جثة  هامدة في هذه البلدة، ظهر سيد البناء الزجاجي الطويل على التلفاز مبتسما كعادته ومُطأطئا قليلا قائلا: أن المنظمة أبدت رغبتها بإعلان المدينة حرة من الزمن لا سلطان عليها من قبل أي جهة زمنية بما فيها الحكومة و أعلنتها محمية أممية ذات فرادة و إن العالم الحر يشعر بمسؤوليته عن هذه الفرادة ولا ضير أن تستقطب الفوضويين ولاعني الزمن وقتلتـَهُ فمن أراد أن يقتل وقته  فدونه هذه البلدة التي لم يعد فيها  الزمن مهما ، هكذا لم أعد أستيقظ مرتعبا من فوات موعد الباص  الذي لم يعد لمواعيده أي معنى فبإمكاني التوجه إلى عملي  دون التزامٍ بمواعيد ولا حجة َ لأحد علي في تأخر أو بكور ولو ذهبت مشيا على الأقدام لأصل حيث مكان العمل والعودة كما أرغب و أنّى أرغب. و هكذا كما ترون تسير الأمور على عواهنها وكما يستوجب ذلك في بلدة توقفت فيها جميع  الساعات ولم يعد الزمن يشكل شيئا في الواقع ، القمامةُ تتفاقم في مداخل الشوارع ومخارجها وتتعفن وحين تشيع عفونتها لدرجة لا تطاق يأتي طاقم البلدية بعضهم بلباس النوم وهو يتثائب وبعضهم ببدلات العمل التي بدتْ نظيفة جدا فيحملون ماتراكم من قمامة تاركين فوضى بقاياها حتى تتراكم من جديد وتتعفن لتزكم الإنوف مرة أخرى فلا مواعيد لكل ذلك وهكذا سارت الأمور في البلدة العريقة من زكمة أنوفٍ لأخرى رغم أن هناك محاولات خجولة لاكتشاف أسباب تعطل كل أنواع الساعات في البلدة  ولحين حصول مستجدات جديدة وضعت ساعتي المنضدية في جوف الخزانة الصغيرة وحلت محلها بضعة كتب وعمدتُ لإنزال ساعة الحائط التي فوق التلفاز ووضعت مكانها لوحة الزمن لسلفادور دالي.    

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة