عــد إلـى كـتابك ـ قصة : أحمد الشطيبي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

abstait-livreاشعل سيجارته، نظر الى الساعة المثبتة على الجدار أمامه، تحسس ردفيه المتيبسين من طول الجلوس، جال بعينه متفحصا كل تلك الفوضى التي احتلت غرفته.
حاول عبثا ان يقنع نفسه بوضع نظام لحياته فيوزع وقته بين كتاباته و الاهتمام بنفسه و بغرفته، لكنه تذكرها من جديد ؟ و تذكر الوقت الذي اهدره امام المرآة، او على الرصيف ينتظر خروجها من العمل... شعر بتوتر شديد، اخد قلمه و بدأ يكتب بسرعة : ( لما تناول من الخمر ما يكفي للذهاب بصوابه، اخدته اقدامه الى الشارع العام، يعلن مشروعه في الناس، يعظ  النساء، يعانق الملتحين، يشحذ همة الشباب و يحرض الباعة المتجولين على التظاهر. يردد شعارات طلابية، يكبر، يغني مقاطع من اغنيات ثورية و اخرى عاطفية، يجري، يصيح، يضحك، يبكي ...تم  حاول التقدم نحو الشرطي المنهمك في تدبير فوضى المرور، لتباغته سيارة مجنونة حولت جسمه الى كتلة لحم مفروم، انتهى ! )
لكنه ما كاد يضع قلمه جانبا ، حتى فاجأه شبح رجل ينهره :


-    ألازلت تكتب ايها الوقح ؟، الا تستحيي من نفسك ؟ لماذا تفعل بي و بالقراء هكذا ؟
-    الكاتب : انا حر فيما أكتب ، و الابداع لا حدود له في الحرية .
-    الشبح : لكن ما هذا الجزاء السنماري الذي لقيته منك ؟
-    الكاتب : - انها ضرورة الحكاية . الم استقدمك حافيا عاريا من هامش المدينة ! ورفعتك فاعلا في المجتمع و نصبتك شراكا تهيم في حبك كل الجميلات ثم اضفتك الى علية القوم، و غيرت حالك من جر العربة في الدروب و نصب الخيمة في الاسواق الاسبوعية ! و لم تعد منعوتا باسمك النكرة ( مريوح ) بل اضحيت معرفا بالاسم و اللقب الحاج الطيب  ! هذا قانون السرد، و حكمة اللغة، و انت بطل الحكاية، فلما ترفض نهايتها ؟
-    الشبح : بل يجب ان تكون نهايتك انت، لأرتاح منك . و يرتاح منك و مني القراء .ايها الكاتب المنافق،
عندما تنغمس في ملذات الحياة، تجهدني في اقناعك برسالة الادب و مفهوم الالتزام و كل ترسانة المفاهيم العامة التي توظفها رياء و مباهاة . و حينما تتظاهر بالتقوى ، تزح بي في متاهات الجنون : اسكر ، اتجسس ازني، اغش، اسرق، ارتشي، انافق، و اعيش على هامش القانون .
تعبت ! تعبت ! لتنتهي الحكاية الى الابد ! .
عم اللغط، تحول النقاش الى عراك، تشابكت الايدي و الاجساد . ساد الضجيج و كل ما كان في الغرفة قد تحول الى حطام و تطايرت كومات الأوراق من النوافد، استيقظ كل سكان الحي، الا الناقد الذي يسكن في الشقة المجاورة، فقد شرب ما يكفيه لينام سنوات دون الانتباه لما يجري حوله .
امتدت الاعناق من النوافذ و الشرفات مذعورة لغرابة ما يحدث . نجا السارد بنفسه هاربا من موقع المعركة . حضر رجال الشرطة و الإسعاف و الوقاية المدنية و تم تحرير محضر .
انعقدت محاكمة عرفت اطوارها مرافعات جدالية استعملت فيها كل الكلمات المستعصية على الفهم من قبيل الحداثة و مابعد الحداثة و التجريب و التوليدية و الديموقراطية و الحرية و مرادفات اخرى .
بعد المداولة خرج القاضي و توجه الى المتخاصم ( ين ) و نطق الحكم :
       + عد الى صوابك
       + عد الى كتابك
عاد الشبح و اخذ مكانه بين اسطر الكلمات، لكن الكاتب ظل مجنونا ، لا يكتب و لا يكلم أحدا ، بعد ان خذلته الحبيبة و تمرد عليه أناه لآخر .
-    اما السارد فلازال عاطلا يبحث عن شغل لعله يجد كاتبا غير مجنون .
-    الناقد سيستيقظ بعد قليل ليذهب الى الحانة و يعود للنوم .
-    القارئ : يتساءل عن سبب تسميته كذلك، و هو بريء من بلية القراءة التي لاتورث الا العمى و الروماتيزم .
-    مقرر هذا المقال : رجل نكرة على وشك العمى، يحب المجانين و السكارى و العاطلين .

عد الى كتابك 2
ناقد
لما استفاق الناقد من نومه، صادفت استفاقته مناسبة دينية، حيث تجبر كل الحانات على إغلاق أبوابها، لذلك لميجد بدا  من المكوث في بيته و تصفح ما تراكم في غرفته من إنتاجات موقعة بأسماء كتاب " مجانين " من مختلف الدرجات .
اخرج رزمة أوراق بيضاء، ركز كل بوادر اليقظة التي بدأت تعود إلى دماغه. شحذ أدواته النقدية، ثم استرسل  يكتب ، و بين الفينة و الأخرى يفتح قاموسا للتحليل النفسي ليقتبس منه ما تيسر من المصطلحات الرنانة : التناص – التداعي – التماهي – الفصام – التعويض – السكيزوفرينيا ... وختم مقاله بنصائح و ملاحظات ، وأطنب في مدح القدرة الإبداعية لكتاب ذكرهم  بالاسم والنعت الإبداعي محاباة و تملقا و طمعا ( طبعا) .
وزع مقاله على كل الجرائد ذات الملاحق الثقافية ، واتبعه بسيل من المكالمات الهاتفية المحرجة لرؤساء التحرير . ثم نام في انتظار أن تفتح الحانات أبوابها .
و لما استفاق من نومه ، حلق ذقنه و نسق هندامه ، ثم رش على عنقه ما تبقى في قارورة عطر كان قد أهداها له كاتب مبتدئ ، لكل غاية مفيدة  . قصد نادي الكتاب ، و تقدم بخيلاء إلى أن جلس بالصف الأمامي .
 كان المكان غاصا بالحضور من الجنسين و من كل الأعمار ، يتناوبون على المنصة بدون تقديم ، و لا شكليات المجاملة يقرؤون إبداعاتهم .
ركز كل انتباهه ، و استرجع كل خبرته النقدية لعله يدرك ماذا يحدث ، لكن دون جدوى . همهم مخاطبا نفسه في تعجب :
•    يا للهول ؟ أيعقل أن لا أعرف احد من كل هؤلاء ؟ و لم يتعرف علي و لو واحد منهم ؟؟
•    أيعقل أن تستعصي انتاجاتهم عن مهارتي وأدواتي النقدية ؟؟
•    لا يمكن لكل هذا الاغتراب أن يحل بي و بهده السرعة ؟ اما أني جننت أو أني وجدت صدفة في وسط جوقة من المجانين ؟
لم يتمالك نفسه ، فاخد يسأل الحاضرين عن كتابه المعلومين . و كانت صدمته أشد و قعا حينما علم ان الكاتب (م) مات منتحرا مند اربع سنوات ، و الكاتب (ب) حصده داء السل مند سنتين ، و الشاعر (د) إعتزل القول الجميل منذ أول قصيدة ، بينما المبدع (ع) قد جن منذ عدة شهور .
أدرك الناقد أنه يعيش خارج التاريخ ، نكس راسه حزنا و خجلا و أنسحب مسرعا من نادي الكتاب .
كانت كل الصحف قد أصدرت ملاحقها الثقافية ، ولم تكن صدفة أن يحتل مقاله الصفحة الأولى ، وهو المثقف الذي يصاحب السياسيين أكثر مما يصاحب الأدباء .
وقصد إنقاد كبريائه ،وتر غفلته ،عرج على أقرب حانة لتنويم ضميره، لكنه ما كاد يدخل حتي اشرأبت الأعناق ، وناداه صوت مستهزئ من الداخل :
 مرحبا بالناقد الكبير ،  مرحبا بمكلم الموتى التقط الاشاراة ، شعر بعمق الإهانة ، وخرج مسرعا

عد إلى كتابك 3
بطل
مل البطل حياة العطالة التي آل إليها و ضعه بعد الحادث الرهيب الذي كان سببا في انفصاله عن الكاتب (ع) . و أظناه البحت عن وظيفة داخل قصة أو رواية تمنحه على الأقل الشعور بأنه لم ينتهي بعد. تسلل مرارا إلى نواد خاصة، كل روادها هواة كتابة، تحركهم نزوات الشباب ، أكثر مما تحركهم قضايا الإبداع .
كان البطل يجلس في تواضع ، متظاهرا بالرضا و القابلية للانصياع و تقمص كل ما يسند له من ادوار .
تناوب الكتاب على قراءة نصوص، و خواطر وومضات و تمرينات و رسائل قصصية، وفتح باب النقاش ليعلو اللغط من كل اتجاه عن تحطيم الشكل و الحداثة، و التجريب . و القطيعة ، و التبشير بالنيوسرد و الميتاسرد و التكنوقصة و .... بل أن رئيس ناديهم كان يحتهم على مزيد من الفوضى النصية . و لم يتحرج من سب الكلاسيكين و إعلان القطيعة ، و أصدر أوامره بتحطيم القوالب الجاهزة و الاستمرار في التجريب و تجريب التجريب.
صفق الجميع بحرارة و صاحوا بصوت واحد:
•    لا شكلانية بعد اليوم ؟
•    لا بطل بعد اليوم ؟
•    لنجرب ، لنحطم كل شيء ؟
" لنقتل الآباء " و نحرر الإبداع ؟
تسمر البطل في مكانه مذهولا من غرابة ما يسمع . ثم تنهد بعمق حنينا و ندما على صديقه الكاتب (ع) ، و عن تلك العناية التي كان يحظى بها داخل نصوصه . تدكر كيف انتشله نكرة من هامش المدينة وجعله من عليه القوم ، و غير اسمه إلى " الحاج الطيب " يخدمه الناس خوفا وطمعا ...
لم يتمالك البطل نفسه ، فانتفظ مغادرا النادي و هو يهمهم محدثا نفسه :
•    مصاحبة كاتب مجنون أهون علي من معاشرة هؤلاء العاقين " مساخيط الوالدين ".
•    عد إلى صوابك ، عد إلى كاتبك (ع) ،

 

احمد الشطيبي – قلعة السراغنة - المغرب

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة