بورتريه ...ـ قصة : رشيد بلفقيه

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

abstract-12430عاش إلى عهد قريب كغجري ،يتوسد ديوان شعر و يدخن لفافاته  المعقدة  و أفكاره المفبركة مقتنعا بأن من أراد حياتا بلا هم أو فِكر فليجعل نديميه دوما لفافات  و ديوان شعر ، عاش يذرف الأدب ألوانا و  أصنافا  و يستنشق للحياة حنينا  مستعصيا إلى كل  من غادروه إلى غير رجعة و رهنوا الأرض أو باعوها تحت قدميه.
كنت التقيه دوما غاديا أو رائحا يدندن لحنا مهشما لأغنية قديمة ،متجولا في خراب عوالم كان يعمّرها بخيال شرس و ريشة فكر لا غير .
 يداه في جيبي سترته المائلة  ألوانها إلى الاندثار و التي نالت منها الشمس  ما نالت ،ملامحه جامدة غالبا، رتيبة بل قليلة حركاته ،واثق من أن شيئا ما سيحدث و سيتغير كل شيء إلى الأفضل . وكنت أستمتع دوما بالإنصات إليه و هو يحكي قصصا غريبة لا تشبه أي قصص نمطية أخرى عن أناس أعرفهم و لكنني لم اكن أتكهن بان يتحولوا في سرده أحيانا إلى تلك الدرجة من البشرية أو من الدنو إلى  مرتبة الحيوانية أحايين أخرى ، وكنت استغرب من أين تأتيه كل تلك التفاصيل ،لاشك أن خيالا مسعورا يوحي إليه بما يوحي.
كان  كل شيء ، قد كان .

فجأة و بترتيب غير مسبق من القدر ،تغير كل شيء ، بالنسبة لمواعيد التقاء وجهات نظرنا في بعض التفاصيل الدقيقة على الأقل، و لم يعد صاحبي يحتفظ بمذكرة مواعيده في جيب قميصه  قرب علبة  أقدس أفكاره كما كان حريصا أن يفعل .على ما يبدو لم يعد بالمرة يحتفظ بشيء معين كان دائما ميزة لذاكرته .
صرنا نلتقي بمحض الصدفة أو بتدبير من القدير و باتت احاديثنا أكثر نزعا إلى الصمت  من ذي قبل. كالأرض  التي ظل يعشقها تماما ،زارتنا فصول غادرتها الغاديات و "منازل" الارتواء لتعيش فترات جذب لم يسبق لها مثيل .
 في مرة من المرات القليلة التي التقينا فيها على هامش فنجان ،لم يجد بدا من الانعطاف بالحديث إلى كيف أنه لم  يغمض له جفن منذ الليلة الماضية وربما حتى التي قبلها و كيف أنها صارت تكاد تُعد تلك السويعات التي نام فيها ،لكنها لا تكاد تحصى ساعات الملل والتشظي. أضاف ساهما : "أعيش  حالة أرق مستعصية على التفسير ترافقني منذ أسابيع بسبب خاطرة أو خاطرتين قادتاني بلا وجهة محددة إلى سراديب من التأملات في حفر من المتناقضات المتردية  إلى القاع بلا توقف ..أفكار  أو قل بقايا تعاسات ما  تعيق انسياب الحياة بشكلها العادي ،المتعارف عليه عند البقية من الناس أو الرتيب على الأقل بالنسبة للسواد الأعظم منهم .
لكن، و بنفس التحدي يكمل ،كيفما كان الأمل و كيفما كانت الأوضاع سأحيك شراكا من التوقعات المتفائلة لأشياء يسميها أولئك الذين تتابعهم يعيشون الحظ و السعادة و الفرص السانحة وما إلى ذلك من المسميات لأشياء لا تصادفها بالمرة ، ولا تقع أبدا . ربما ستقع لمرة واحدة في تاريخ هذه البشرية النكراء هذه الحبكة .
قطع ثرثرة لو اتعود عليها من كاتب كان مسعاه الرقي إلى السماء متجاهلا تفاهات هذه الارض الدنيا ثم أطفأ عقب السيجارة الذي كاد يحرق أصابعه، كالعادة بعنف في المنفضة الطافحة أعقابا و بقايا أحاديث.
كان سجين حرص مريض من حيث لا يدري -وهذا اكتشافه الخطير - على  أن يظل إلى عهد قريب جزءا  من الأجسام الملتحمة ببعضها لتحتمي ربما من أفواه لا تفتح إلا .. للتثاؤب أو لتعض.
-لكن هناك توابث ..
-في عالم من المثل لا غير .. صدقني .
-كنت أظنك اكثر اكتفاء من التجريب .
-لا شيء يا رفيقي يبقى على حاله ما دامت الأرض تدور و الشمس و الفلك تجريان لمستقر لها ، أنظر إلى الحديد اترى انه يصدأ بعد زمن ..
-لكننا لسنا !.......
بثر النقاش بما يشبه القهقهة المستهزئة ، من وجهة نظري أو من وجهة نظر المحدق القريب. مرت لحظات قبل أن يعدل من جلسته و يحرك يده ليمسك بقلم و يدون على قصاصة  من ورق الجريدة .
 ذات غد..
سأغتصب هذا الماضي
و أمضي
بلا أمس ..
يغرقني بقاء..
جذورا
و ضياع..
كان مجرد صديق و نديم مقهى لا اقل و لا أكثر ، كان مجرد .. إنسان !
سيحكي بعض المعارف في أشهر تلت كل ما سبق قصصا تداخل فيها الواقعي  المحايد بالتحامل الشخصي بالخيال النهم في أعراض الآخرين  ، لكن جل الروايات تلاقت في نقلة وحيدة و هي أن صاحبي الذي اختفى من المدينة بالمرة قد صارت له  مهنة جديدة بقوانين خاصة  محددة ،أن يكذب و يكذب كثيرا وكلما سنحت له الفرصة .
كنت اعرفه و اعرفهم و كان تفسير الكذب نسبيا بين من يراه خيال كاتب أو شاعر يتنفس الخيال بشساعة لا ترقى إليها عقول الواقعيين و بين من يراه جشع وصولي من شخص يبحث عن سبيل إلى أهداف مبيتة، لم يكن بالنسبة لمن ينظرون إليه من فوق سوى رقم في لائحة طويلة من الأسماء التي لا تحمل الكثير من الثقل  ،ولم يكن بالنسبة لمن يرفعون رقابهم ليلاحظوا وجوده سوى ظل لامتداد مهول من بشرية مستشرية تقود الواقع بتفويض غير معلن من القدر ،
و لم يكن بالنسبة لنفسه سوى ظِل يكذب و يكذب حتى يهترأ و تتهاوى صورته الحقيقية التي جاهد في استماتة غريزية لرسمها.
 لكن، في الصوت الباطني اللامتحكم فيه و الذي ينقش حفر و نتوءات الذاكرة و الوجدان العميق و يحولهما في ما بعد إلى ملامح تميز شخوصا بعينها عن أخرى علق-صاحبي- في سراب مفرغ من أي  واقعية بينه و بين نفسه و قضى بقية ما بقي له فقيرا جدا  من أبسط حقيقة ........إنسانيته !

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة