من مقبرة الهجرة... إلى مقبرة العودة ـ قصة : مأمون أحمد مصطفى

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse18093- أنت لا تأكل، ترافق الجوع، لون وجهك، جسدك الممصوص الناحل، له حق عليك، أنت لا تملك الحق في تدمير جسدك أو ذاتك، عليك أن تأكل، طعاماً جيداً، نافعاً، حتى تستقيم أمورك، وحتى يذهب لونك الشاحب، وحتى يستوي جسدك ويعود لوضعه السابق الطبيعي.
- أنا آكل ما يكفيني للحياة، لكني لا أشبع، بل أبقي إحساس الجوع ملازما لمعدتي ودماغي.
- عليك أن تشرب، الماء سر الحياة، سر الوجود، سر الخلق. الأعشاب جيدة ومفيدة، مغليها رائع، ينبه الإحساس، وينهض بالصحة، جسدك فيه جفاف شديد، وجهك ناشف كحبة خروع سقطت عن غصنها.
- أنا اشرب من الماء ما يبقيني حيا، ما يحافظ على بقاء روحي في الجسد، لكني لا ارتوي، ولا أود أن أشعر بالارتواء.
- ولماذا؟ ما الذي يدفعك لمثل هذا الأمر؟

- لا أعرف وقد يكون هذا غريبا عليك، كما هو غريب علي، ولكني اشعر بمجهول الإحساس وغامض السر، بأني لا استحق الشبع أو الارتواء، بل جل ما استحقه عذاب، عذاب متواصل، لماذا؟ لست ادري تماما. لكنها أحاسيس تغزو تركيبتي، لتنتشر في كل خلاياي وأوردتي، انتشارا سريعا كانتشار الضباب حول قمم الجبال، ليصبح مالكا حق السيادة في الظهور، وحق السيادة في إخفاء الجبال، أو كانتشار النار في كومات التبن، لتصبح النار صاحبة السيادة، والدخان المتعالي السيد المسيطر على المساحة المحيطة بالنيران المشتعلة.
- هذه الأفكار كالجوع الملتصق بك، كالعطش الذي تلزم نفسك به، يقودك نحو الدمار، نحو الهاوية، نحو التلاشي، ولكن قبل كل هذا، سينتشر الألم ليمزقك، يقطعك، يفتتك، وسوف يطحنك العذاب طحنا.
- في الطفولة، وحين كنت طفلا، كنت اندفع نحو الفرح اندفاعا، نحو الحياة، نحو البهجة، نحو السعادة. كنت أنزلق من زقاق إلى آخر كطير يحلق في الأفاق، كحجل رائع في التنقل من مكان إلى مكان، البيارات والجبال، السهول والوديان، الربى والسباسب، شواطئ البحر في أم خالد، حيفا، يافا، مياه الأمطار، حيوانات المخيم وخاصة القطط، عقارب وأفاعي الجبال والسهول، كل هذه كانت تعرفني، تودني، لي عليها ظلال كثيرة، متنوعة، خاصة السلاحف التي كانت تنقلب على درعها، وكنت أعيدها لوضعها الطبيعي، لأراها وهي تتقدم نحو هدفها، نحو بيتها، نحو صغارها.
كانت الحياة متعة غامرة، نابضة، فيها ألوان زاهية، تنضح روعة وبهاء. والطفولة هي الحياة بكل ما فيها من روعة وانطلاق. كثيرا ما كنت اشعر بخفقان غريب في قلبي، خفقان متسارع، يرهق قلبي الصغير، وكان والداي يخافان علي، على حياتي، وكنت اسمعهم وهما يقولان بان الفرح قادر على القتل كما الرصاص والمدفع، وحين كنت اسمع مثل هذا الكلام أصاب بالدهشة، بالاستغراب، فانا لا اعلم كثيرا عن أسباب الموت، كل ما كنت أعرفه بان الناس يموتون حين يأتي عزرائيل أو المرض، وقد أضيف لذاكرتي سبب جديد للموت حين احرق جارنا صبري نفسه في النار. أما الفرح، السعادة، فلم أكن أعرف أبدا، ولم أتصور مطلقا، أنهما قد يؤديان للموت. رسمت كثيرا من الصور، بل حاولت ذلك، بحثت في مخزون ذاكرتي، وذاكرة أترابي، في خيالي وخيالهم عن معنى الموت بنوبة سعادة أو ضربة فرح، دون جدوى.
كنت صديقا وفيا – ولا زلت – ولكني كنت أضم للوفاء موسيقا الفرح والسعادة والبراءة، وامزج هذا كله مع أحلام صغيرة، متواضعة، تنطلق من حارتنا لتحط فوق جبل أو على أديم سهل، وربما على ذروة ربوة خضراء، لتنتهي بالعوم في وادي الزومر المتاخم للمخيم، والمحاط ببيارات البرتقال وغابات الزيتون. أحلام صغيرة، لكنها كبيرة، كبيرة في عيني، ومن شدة فرحي والتصاقي بتلك الأحلام المتواضعة، كان أهل المخيم يقولون – حسب زعمهم لي فيما بعد – باني كنت أجمل أطفال المخيم وأكثرهم تألقا ويفاعة، بل- ويزعمون – ان بريقا خاصا كان يومض فوق جبيني حين اخرج من المسجد اثر الصلاة، أمي أكدت كل هذا، وكذلك أبي، وجمع كبير من الجيران والأصدقاء. هو الفرح، بل هي السعادة، بل كان ذلك اتيا بسبب رؤيتي للأشياء، للأحداث، رؤيتي لكل شيء كانت جميلة مرهفة، ولن تصدق إذا قلت لك بان نسمة هواء محملة بعبير زهر الليمون وورقه كانت كافية لتشعرني باني أسير بأقدام معلقة في الهواء، وليس فوق سطح الأرض.
- ما الذي جرى؟ ما الذي نقلك من عالم السعادة تلك إلى العالم المزري الذي تحيا به الآن؟ الأرض نفس الأرض، والسماء ذات السماء، والبيارات بكل برتقالها وليمونها لا زالت قائمة، غابات الزيتون واللوز والدراق، أعشاب الأرض وأزهارها، كل هذا لا زال مكانه، ولم يتغير إلا أنت، أنت فقط.
- لا، التغير وصل كل شيء، فالأرض لا تحمل نفس الأنفاس، نفس الشهيق، ورطوبة التراب اليوم بلا رائحة، وكذلك الليمون. هل تذكر كيف كانت رائحة الخيار البلدي، أو البندورة البعل، تغزو أنوف الناس وهم يتسوقون أو يتجولون في الأسواق. قل لي: كم من القطط موجودة الآن في مساحة المخيم كله، وكم كانت من قبل، في كل لحظة ووراء كل لحظة، كنت اسمع أمي وهي تنهر القطط بصوتها العالي " بس، بس " وكذلك الجيران. وجبة سمك واحدة كانت قادرة على استدعاء عشرات القطط التي تموء معا وبصوت واحد منتظم، وتضرب أذيالها بالأرض، تشخر، تقفز هنا وهناك، اليوم، اليوم لا وجود لهذه القطط. بل كل ما هو موجود الآن مئات الجرذان الضخمة التي تسير في الحارات أسراباً أسراباً، وتحول صوت أمي، صوت الجيران، من نهر للقطط، إلى صراخ استغاثة معبأ بالرعب خوفا من الجرذان وهي تقتحم البيوت والمنازل.
عصافير الدوري، البلابل، طير السمن، الرقشة، الفسيسي، كلها هاجرت بعد أن كان الأفق يغطى على امتداده بأسرابها. سماؤنا الآن فارغة، حزينة، مكفهرة، كئيبة، تختلط ألوان شفقها بألوان غسقها، ويختلط ندى الصباح بهجير الظهيرة، رائحة الموت تلاشت، واختفت كل أشجار الدوم والزنزلخت والخروب، الألوان التي كان يتوشى بها السهل بسبب اختلاف أنواع الشجر، أنواع الثمر كلها ذابت، كذوبان الموجة بأعماق المحيط.
- الدنيا تتغير، تتبدل الأوضاع وتختلف الأحوال، كثير مما تقول صادق، بل هو عين الصدق. ولكن هذه هي طبيعة الدنيا، تركيبة الحياة، نظام التحول والتبدل، والذكاء، كل الذكاء، أن تتقن فن التكيف مع الواقع، مع الجديد، أما أن تقف أسيراً لأحداث الماضي، لصوره، لتداعياته، لمخزون ذكرياته، فهذا عين الجنون، وهو جنون إرادي يقود نحو الوقوع في هاوية مظلمة قاتلة، عليك أن تتقن فن التوازن، فن الوقوف على رأس المحور، بهذا، بهذا فقط تستطيع أن تربط الماضي بالحاضر، ذكريات الطفولة بواقع الآن.
- أنت تتحدث بحكمة الشعراء الذين عاشوا في أبراج عاجية، بين يدي الملوك والأباطرة، وعلى أعتاب الأموال والقياصرة، تتحدث بطريقة المتنبي الذي قضى عمره في الكذب والتدليس، تتحدث بما يسمى منطق الواقع، تعزل طفولتي عزلاً تاماً عن شبابي، عن أعتاب عمري الذي بدأ يذوي ويخفت. تتحدث وكأن مشاعر الإنسان وأحاسيسه ليس جزءاً من كينونته، من بقائه، من سرمديته، تتحدث برومانسية الحكمة، وسفسطائية فلسفة المنطق. أما أنا، فأنني أدخل عالم الماضي بكل ما فيه من حبور وجذل، ملفعاً بقساوة الحاضر، بكل ما في تلك القساوة من صلابة الصخر وبأس الحديد، فاشعر بالتخبط، بالضياع، بالدوران داخل دائرة مغلقة بإحكام شديد، لا يمكن كسرها، أو إحداث أي خدش فيها.
- وماذا ستفعل؟
- لا أعرف. ولكني سأظل ذاكراً ما حييت "أبو علي وأم علي قرطوم" ذينك المسنان اللذان عاشا معا، ينامان في ذات اللحظة، ليصحوان في نفس اللحظة، يتناولان طعام الإفطار معا على عتبة البيت في المخيم، يشربان الشاي معا، يبتسمان معا، ويبكيان معاً، كانا اثنين في واحد، كنقطة ماء لا تنفصل عن بعضها، وكجذر سنديان يغوص في عمق الأرض لتكتسي الأغصان بالخضرة والحياة. وجهيهما تغصان بعلامات السنين والعذاب، كل خط من خطوط التجاعيد، يحكي قصة مرحلة من مراحل العمر، وكل نظرة من نظراتهما، تخرج ببريق يصعد ليلامس كل ما في الكون من مجهول ومثير. أبو علي بقمبازه المقلم وحطته البيضاء، أم علي بثوبها الموشى برسوم الأرض وخرقتها البيضاء، كرسييهما اللذان يبقيان خارج البيت، على عتبته بشكل دائم متواصل، ينتظران عودتهما حتى يعودان من مشوار، أو حتى يصحوان من النوم، الكرسيان اللذان اختفيا مرة واحدة، بلمحة بصر، وحين صحونا، حين صحا المخيم، وسألنا الناس عن الكرسيين، فوجئنا وصعقنا حين أجاب أهل المخيم وهم يبكون، يشرقون بالدموع، بأن (أبو علي قد مات).
لحظة واحدة حولته من (أبو علي) الذي يتشقق وجهه صفاء ونقاء وطيبة، للمرحوم أبوعلي، لحظة واحدة فصلته عن كل شيء، كل شيء، عن الناس، عن الأرض، عن شجرة الحناء التي تنتصب في قاع بيته، عن السلام الذي يلقيه ويطرحه على المارة، عن البريق الذي يندفع من عينيه ليلامس طهارة الأرض والسماء، عن المفتاح الذي يعلقه في قمبازه أملاً بالعودة إلى مسقط رأسه في صبارين، عن أم علي. انفصلت نقطة الماء إذن، انفصلت لتحطم قناعاتي ومسلماتي، أم علي على الأرض، وأبو علي في باطنها.
يومان مرا، وكأنهما دهرين قاتلين، الكرسيان اختفيا من مكانهما، علامة من العلامات المميزة، شاهدان من الشواهد التي لم أكن قادراً في يوم من الأيام أن أصدق، أو يمر بخاطري بان هذان الكرسيان سوف يتحركان من مكانهما قيد أنملة، لكنهما اليوم اختفيا تماما، واختفت معهما أم علي. باب البيت لا يفتح أبدا، مغلق، وكأنه ستار خفي لا يراه احد، ولا تلمسه العين ليفكر احد ما بفتحه. يومان، يومان فقط، وكان علينا، على المخيم، على الحارة، ان نخرج في جنازة جديدة، جنازة أم علي، وحين عدنا، عدت للبحث عن الكرسيين، كرسيا القش المشدود إلى أقدام خشبية يبدو الزمن واضحا عليهما، أيام، بل أسابيع مرت وأنا أحدق نحو عتبة البيت، ابحث عن كرسيين حملا حالمين بالعودة إلى مسقط الرأس في صبارين، ليخرجا جثتين إلى مقبرة تقع على الحد الفاصل بين أرض الهجرة وأرض العودة مع الحلم. اختفى الحالمان، واختفى الكرسيان، وتلاشى شاهدان من شواهد الأرض والتاريخ، ذاب معلمان لم أكن أتخيل بأنه سيأتي يوم لأفتح باب بيتنا دون ان أواجه حالمين وكرسيين.
- هذا أمر الله، وكلنا سيموت.
- أعرف ذلك جيداً، أعرفه تفصيلاً وتدقيقاً، وأدركه أكثر مما تدركه أنت، لكن الغصة لا تزال في قلبي، والجرح يتسع اتساع العمر في روحي، أبو علي، أم علي، جزء رافق طفولتي، بكارة أحلامي وأيامي، عذوبة براءتي ويفاعتي، لم يكونا أبدا عابرين، كثير من الأشخاص، من الأحداث عبرت حياتي، ملفات ذاكرتي، دون تأثير، ودون اثر، لكن هذين الحالمين، مفاتيح الوطن والعودة المعلقة على كواهلهم المحنية للزمن، وغيرهم كثير، لم يكونا، لم يكونوا، عابرين أبدا، كانا، كانوا، منارات واطوادا، شموساً وأقماراً، دخلوا دمي، أوردتي، شراييني، تشربتهم مساماتي، تقاطروا كبلسم في سويداء قلبي وروحي، تشكلت منهم، من أنفاسهم، من دمعاتهم، من حرقتهم، من لوعتهم، من قبضهم على جمار الصبر والثبات، ملامحي، تقاسيمي، تكوين جسدي ونفسي، كل هذا اخذ الكثير الكثير منهم، وحين غابوا، سكنوا باطن الأرض، انكسر شيء ما بأعماقي، ذهب مرافقا لهم، لباطن الأرض. شيء مني، أحس بحاجتي الملحة له، لكني أعلم أنه ليس باستطاعتي استعادته، وحتى لو كان باستطاعتي ذلك، لرفضت استعادته، كيف استعيد من هؤلاء ما منحوني إياه أصلاً. هم أولى مني به، بل هم أكثر من يستحق أن يأخذ من ذاتي ما يشاء، لأنهم أصحاب الحق في ذاتي كلها.
- وما الذي تستطيع أنت فعله؟ هل تستطيع أن تستوعب كل ما في المخيم من آلام وعذابات؟ أم أنك تعتقد بأنك تحمل مسؤولية كل هذه الناس على كاهلك؟ هكذا الدنيا، فيها أيام حلوة، وأخرى مرة، فيها نصر وهزيمة، فيها ظلم يبسط رداءه فوق الأرض كلها.
- وفيها عز أو مهانة، ذل أو كرامة، نصر أو هزيمة، أمل أو يأس، الأحرف لها قيمة شديدة، كل حرف قادر على تحويل المعنى والهدف، من سلب لإيجاب، ومن إيجاب لسلب، مثال ذلك ما قلت أنت الآن، نصر وهزيمة، ذل وكرامة، فحذف الألف قد بدل المعنى تبديلاً كاملاً، أما حين تقول، نصر أو هزيمة، ذل أو كرامة، فانك تعيد بناء الذات القادرة على الاختيار بين أمرين، بين معنيين، هدفين، وحين يكون الاختيار هو الحد الفاصل بين تكوينين من مكونات الذات، يبقى على الذات، يبقى على الذات فقط أن تحدد امكاناتها وقدراتها، فهل هي إمكانات وقدرات التكور داخل الذل والهزيمة واليأس؟ أم إمكانات وقدرات الذات الناهضة بكل ما فيها نحو النصر والكرامة والأمل.
أبو علي، أم علي، وكثير مثلهم لا يقرؤون، لا يكتبون، لا يفكون خطاً أو حرفاً، اللغة المكتوبة بالأقلام بالنسبة إليهم طلاسم، طلاسم سحرية لا يمكن حلها أبدا. لكنهم بلغتهم، بحروفهم، بمفرداتهم، عاشوا وهم يدخلون أبواب النصر والعز والكرامة والأمل بابا خلف الآخر، دخلوا تلك الأبواب ببقاء الحلم حيا في ذاكرتهم الخصبة، حلم العودة لصبارين، للأرض التي تروت من عرقهم ودموعهم، من فرحهم وشقائهم. هم من تمسك بالحلم تمسك الشاطئ بالبحر، وتمسك عكا بهدير الأمواج واندفاعها، تمسك الزيتون بخضرته الداكنة، وهم من ربط رموشه بأشعة الشمس وضياء القمر ليبقى وهج الحلم ساطعا رغم دوران الأرض والشمس.
لكنهم رحلوا وهم يحترقون شوقا للارتماء فوق أرض ميلادهم وطفولتهم، ويدفعوا صدورهم لتلاصق تربة عشقتهم وعشقوها، ليبثوا تلك التربة أقاصيص الحب والوفاء. رحلوا دون أن يتذوقوا السمك القادم من بحر تل الربيع وأم الرشراش، من بحر بيسان وعيون قارة، رحلوا قبل أن يلامسوا بأناملهم الزنزانة التي ضمت محمد جمجوم، فؤاد حجازي وعطا الزير، رحلوا قبل أن يقبلوا مثوى عز الدين القسام وعمر القاسم وإبراهيم الراعي، رحلوا وكل هذه الأشواق تزدحم وتتدافع في ذاتهم، في صدورهم، في أعماقهم، وخلفوا لنا بابا مغلقا على شارع حارة الحمام في مخيم طول كرم، شارع خلا من كرسيين كانا لي ولكل أهل المخيم، منارتان تهديان إبحارنا نحو الأرض والوطن.
- يا الهي، أنت تفكر بطريقة من يخطو نحو الانتحار، نحو موت مطلق، نحو يأس قاتل. هذه الدنيا عليك أن تفهمها كما هي، بما هي عليه، وليس بالطريقة التي تريد، بالأحلام والتمني، بالذبول التدريجي. أبو علي، أم علي، ومن مثلهم جيل مضى، انطوى، عليك أن تفكر بالجيل الجديد، الجيل الذي تنتمي إليه، الجيل الذي يحيا فوق تراب الأرض، وفوق شوارع وأرصفة الغربة، في أزقة الشتات.
- وهل أبو علي وأم علي، ومن مثلهم، بعيدون عن هذا الجيل، عما تتحدث به أنت. أولئك هجروا في النكبة الأولى، وكثير هجر في النكبة الثانية، النكبة التي حولت اصطلاحاً "لنكسة" حسب مفاهيم الوقت والواقع، حسب منطق من مثلك ممن يطالبون بفصل (أبو علي) وأم علي عن حاضر هم أصحابه وإن توارت أجسادهم تحت التراب، أولئك هم الامتداد الطبيعي للذين ذبحوا في عيون قارة، صبرا، شاتيلا، امتداد لأولئك الذين جزروا في دير ياسين وكفر قاسم. المشهد واحد، الحدث واحد، لا يفصل بأرقام التاريخ وعدد الأيام والسنين، وأي فصل بين من ذبحوا ومن جزروا، بين من هجروا أولاً ومن هجروا ثانياً وثالثاً ورابعاً، بين من يحيا في أزقة الوطن ومن يحيا في أزقة الشتات، يعني وبلغة بسيطة، انخلاع من ماض لا زال يحيا في حاضر، وسيظل يمتد ليحيا في مستقبل بعيد بعيد.
- ما الذي تريده؟ وعن ماذا تبحث؟ أنت تنتقل من موضوع إلى موضوع آخر، من حدث لأخر، دون أن تكون قادراً على جمع ذاتك، أفكارك، أحاسيسك، مشاعرك، كم كثير وهائل من التناقض والتنافر في كل ما تقول، ما تحس، ما تريد، أنت كتل متفرقة من التشتت والضياع.
- لا أريد شيئاً، كل ما أتمناه، ما أحيا من أجله، أن أكون قادراً على لملمة ذاتي وجمعها في إطار واحد، إطار يجعل مني ثابتاً فوق نقطة معينة، فوق محور محدد. ما أريده ليس بالكثير، ما أريده فقط، أن أصحو يوماً لأجد الوطن تفتر شفتاه عن بسمات حية، قهقهات صادقة، وأن أرى الأسى والحزن يرحلان من مآقي عينيه وخطوط عمره، أن يكون شجر الزيتون متفجراً بخضرة الفرح بدل خضرته الباهتة من شدة الحزن والعذاب، أن تعود رائحة الخيار البلدي والبندورة البعل للأسواق لتقتحم الأنوف بقوتها المعهودة، والأهم، أن أرى أطفال بلادي يحملون حقائب المدرسة وهم ينشدون أناشيد الحياة والسعادة، وحين يعودوا، ينطلقوا كالضياء نحو الجبال باحثين عن ألعاب تشكل سيماهم، وتدخل في مخزون ذاكرتهم، ليكبروا وهم يحملون في خفايا قواهم العقلية والنفسية روائح الأرض وربيعها المتفجر هنا وهناك بفوضوية الطبيعة الرائعة، وليحدثوا أبناءهم وأبناء أبنائهم عن ذكريات الفرح والسعادة والانطلاق والحرية.
كل ما أريده هو أن أحمل رفات (أبو علي) وأم علي من مقبرة الهجرة إلى مقبرة العودة.

مأمون أحمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة