اعترافات مناضلة من زمن مضى ـ قصة : هادي معزوز

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse30086" العناصر الرياضية واقعية لكنها غير موجودة..."
                                    الفيلسوف ـ إتيان كلين.ـ
ملحوظة:   كل تشابه أو تطابق بين الأسماء والأحداث ليس من وحي الصدفة وإنما هي تسميات عن سبق إصرار  وترصد... أحداث القصة برمتها واقعية لكنها غير موجودة..    

    ... بعد الذي حصل بيننا ألفيتني أسوق السيارة وحيدة في فضاء مقفر لا حشر فيه ولا بشر، كنت الوحيدة التي تجرأت على عبوره في تلك الساعة بالذات، وفي ذلك الزمن أيضا، أسوق السيارة وذهني برمته مختلطة أحداثه بين الذي وقع وبين الذي أريده أن يقع في المستقبل، لهذا وجدتني ومن حيث لا أدري وسط دوامة كبيرة حيث الزمن يلعب بي، أر ربما أنا التي أحاول أن أعبث به على طريقتي الخاصة..صحيح أن الحياة علمتني كيف توجب أن نسخر من أشد الأشياء جدية، لكني بت اليوم أكثر تيها واضطرابا من ذي قبل، ولكي أضفي على الفضاء طابع الأنس تناولت جهاز موسيقى السيارة واضعا في جوفه أسطوانة تحوي أفضل أوبرا للموسيقار الألماني فاغنر والتي ليست سوى معزوفته أفول الآلهة crépuscule des dieux..كم كانت تبعث في دواخلي الإحساس بطعم حياة كان يجب أن أعيشها بيد أنها انفلتت مني قبل أن أُوجَدَ لينالها شخص آخر سواي، ليس في هذا الزمان ولا في هذا المكان، ولا في هاته اللحظة.. كانت أيضا بمثابة المحرك المساعد على الانغماس كليا في هذا الفضاء القصي عن العالم.. في مكان خلته بداية العدم الذي يعدم نفسه، لكن وبما أني واقعية أكثر من اللازم فقد أيقظت نفسي حينها، أُذَكِّرُها بأني أسير وحدي في هذا الطريق الإسفلتي المخترق لصفرة الصحراء القاحلة، صفرة في الأسفل وزرقة في السماء، وأنا.. وذكريات عالقة. 

    لم أكن أعرف أين ذاهبة أنا، كانت فكرة جنونية أن أسير في الطريق إلى أن تتوف السيارة تماما، بعدها أعود إلى الواقع وليحصل ما يحصل، المهم أن هدفي غير المتنازع عليه يكمن في رغبتي الجامحة في الخروج عن المدينة، ليست المدينة ببناياتها الإسمنتية الشاهقة، وإنما المدينة بنظامها الأسري والعقائدي وما خلفه لنا الأجداد، لهذا كم كانت فرحتي كبيرة عندما نظرت إلى مرآة السيارة الخارجي أتلصص خلفي، حيث الفراغ ولا شيء إلا الفراغ.. أنا الآن حرة طليقة، بمعزل عن منظومة الأسرة.. خارج دائرة المقدس والمدنس حيث كل شيء مباح بقوة الواقع.. وحرة أيضا دون قيد يذكر، سواء المتحجب منه أو المعلن.. هكذا كتبت لنفسي حياة جديدة وهكذا سأعيش إلى أن أختفي تماما..
    فجأة قررت أن أتوقف فوق جرف يطل على البحر مباشرة، ها قد خنت رغبتي في إتمام المسير حتى ينفذ البنزين، فأتوقف بتوقف السيارة، لكن وبما أني رسمت لنفسي خطة السباحة بحرية، فلا شك أن أفضل تجسيد لها هو اختراقها أيضا، من يدري ربما أبرر ما تجاوزته، وقد تكون عين الحقيقة كذلك.. تناولت علبة السجائر ثم اتجهت نحو صخرة يمكنني الجلوس فوقها والسفر ببصري من أقصى شمال الأرض إلى جنوبها.. تأملت امتزاج اللونين الأزرق والأصفر.. مثلما شدني الفضول وأنا أراقب ارتطام الأمواج القوي بأسفل الجرف الذي أجلس في قمته، أشعلت سيجارة، أغمضت عيني ولا صوت يعلو على ارتطام الأمواج بالصخور في الأسفل، وأصوات طائر النغاف في الأعلى.. لاحظت أني أنشذ مزاوجةً غير منطقية بين عناصر الطبيعة، لكنها قد تكون نافعة في يوم من الأيام..بعد أن أشبعت رغبتي الجامحة في التماهي وهذا المكان العذري قررت العودة إلى السيارة لإكمال التحدي..
    كل شيء يسير على ما يرام إذن، لكن ماذا بعد هذا "المايرام"، مشكلتي أني كنت دوما متعلقة باستشراف المستقبل، مؤكدة لكل من يحيط بي أن اليوم الذي أعيش فيه الآن كنت قد خططت له سابقا، وهكذا دواليك إلى أن أهلك.. هل ما أقوم به يجانب الصواب أم أنه أصل التهور؟ رميت هذا السؤال جانبا منزعجة من التفلسف في جو خارج عن كل منطق، وإن أحسست أني زرت هذا المكان من قبل، وعشت نفس اللحظة بتفاصيلها أيضا، متى أي ترى؟ سؤال آخر وجب أن أطرده أيضا على غرار سابقه، ليس خوفا من جواب صعب الحصول عليه، وإنما فرار من أسئلة أخرى طرحت علي سابقا، فما كان مني إلا أن راوغت وراوغت تفاديا للإجابة.. شخصيا أنا أكره الاسئلة خاصة المستفزة منها، التي ترسم هدفا ثم تسلك طريقا آخر.. كانت تذكرني دوما بأسئلة البوليس عندما كانوا يقبضون علينا، أسئلة متقاطرة تباعا دون أن تكون لنا أية علاقة بما نحن فيه، ثم بعد ذلك نكون إما قد أدينا المهمة بنجاح ونحن نموه.. أو نسقط في الشراك كي نعترف بالأسماء التي كانت خفية عنهم.. ما ساعدني شخصيا على عدم السقوط في فخ تلك الأسئلة، هو طبيعة تخصصي في علم النفس، ثم تعرفي على صديقة روسية علمتني تقنية كنت أحتفظ بها لنفسي ولازلت كذلك، وهي تقنية نُغَيِّبُ من خلالها الذاكرة، فتمحى كل الوجوه والأسماء التي نعرف، معوضين إياها بأسماء أخرى لا يربطنا بها أي رابط.. على العموم انتهت تلك الأيام دون أن تنتهي جراحها، وإن بدوت للناس أني خرجت سالمة فإن دواخلي ما إن تكاد تنسى حتى تتذكر وبقوة أكثر.. لم أجد طريقة مثلى للتخلص من هاته الحرب، فكان منطق التسليم والتعايش حلا إلى إشعار آخر..
    هل فعلا لم أكن عند حسن الظن؟ سؤال كان يجب أن أقوله لنفسي سابقا، ربما علي أن أجيب عليه، الآن والآن بالذات.. دعكت عيني بيدي اليمنى فيما كانت اليسرى تقبض المقود بعصبية ظاهرة، لأول مرة أنتبه إلى بعض التجاعيد التي بدأت تظهر في اليدين معا، ومن حيث لا أدري داعبت وجهي بيدي اليمنى ثم عنقي فتأكدت من بوادر الشيخوخة.. لم يكن هذا الأمر يقلقني عكس النساء اللواتي يمتعضن كثيرا لدرجة الاكتئاب.. لكن ما كان يجثم كثيرا على صدري هو أن الزمن يمر دون التمكن من إصلاح ما يجب إصلاحه، لأول مرة في حياتي خشيت الموت.. خفن من الانتهاء الكلي والغياب التام عن هذا العالم.. تذكرت قولة كان يرددها علينا أحد أساتذة الفلسفة، كون أن سؤال الموت هو محرك الحياة.. وبما أني طبيبة نفسانية ولست فيلسوفة، فقد آثرت العودة إلى السؤال الأول الذي أحسست أحدا يصرخ في دواخلي قائلا:
    ــ هل فعلا أنت مذنبة؟
قالها في المرة الأولى، ثم الثانية فالثالثة حيث اختلط صراخه بالصدى الذي يعيد كل شيء، نظرت إلى المرآة فلم أجد أحدا من البشر غيري، كنت سيدة العالم بلا منازع.. فتحت نافذة السيارة ثم صرخت بوري بصوت عالٍ، صوت أخرجت من خلاله كل ما كان عالقا:
    ــ أنا مذنبة.. أنا خائنة.. وأنا المرأة التي تعترف بشجاعة بهاته الخيانة..
    ــ وما طبيعة خيانتك يا هذه؟
لم يكن السؤال نابعا إلا من دواخلي.. هناك شخص عاش معي منذ ولادتي، يسكن في.. يحاورني وأحاوره.. يقنعني في بعض الأحيان، وقد أتمرد عليه أيضا في أحيان أخرى.. وعندما أجد أني لم أكن على صواب، يخاطبني مؤنبا بهدوء كبير جدا، طالبا مني عدم العودة إلى هكذا فعل، نتحاور مع بعضنا البعض دوما.. أكرهه في بعض الأحيان وأحبه في أحيان أخرى، أما هو فلم يسبق أن اعترف لي بمشاعره نحوي، لكنه على الأرجح يحبني طالما يمنعني من خوض المغامرات.. هكذا وجدتني غير قادرة على الابتعاد عن كل الكائنات الممكنة منها وغير الممكنة.. صحيح أني نجحت في الفرار من قبضة المدينة، وما خلفه الإنسان من مفارقات لم أستطع فهمها أو تحليلها، لهذا كان لا بد من أن أفاتحه في كل شيء، وأبوح له بما كان يعرف وما لم يعرف من قبل، وما يجب أن يعرفه أيضا، وإن كان يسكنني ويلازمني دوما..
كانت الشمس تسير نحو الانزلاق بعيدا في ذلك الأفق القصي هناك، كل الأشياء الجميلة نمارسها في الليل بدل النهار، من البوح إلى اتخاذ القرار، ومن ممارسة ما حرمته الثقافة إلى النوم في هدوء.. وأنا بدوري كلما عدت إلى تلك العلبة إلا وأجد أن حياتي كانت مقسمة إلى قسمين حسب تعاقب الليل والنهار، كم كذبت في الأول، كم خنت أو بالأحرى هكذا يبدو لي، وكم استطعت تجميل ما لا يمكن تجميله، أما في النهار فقد أتقنت لعب دور المناضلة الكبيرة، صحيح أني كنت مقتنعة بمبادئي وبأفكاري، كم سجنت من أجلها دون تقديم ولو تنازل وحيد، وكم قدمت الغالي والنفيس في سبيل تحقيق ما يجب تحقيقه، على العموم أعلم علم اليقين أني بقدر ما كنت قادرة على الصمود بقدر ما كنت قادرة في نفس الوقت على ارتكاب عديد الأشياء مع سبق الإصرار والترصد، وفي كامل قواي العقلية والبدنية..
في تلك اللحظة خاطبني توأمي الذي يسكنني وبدون مقدمات كعادته:
ــ ما سبب هاته الازدواجية وهذا الانفصام؟
كان هذا الشخص الذي لن أعرفه إذا التقيت به في الواقع، هو أكثر الأشخاص الذين أبدو معهم عارية تماما، لا مقدمات ولا تصنع.. لا مراوغات، ولا تضليل، لهذا فقد أجبته بكل عفوية:
    ــ لازلت لم أفهم نفسي بعد، كم نجحت في علاج عديد المرضى الذين يأتون إلى عيادتي، لكني لم أستطع لحد الساعة تقديم المساعدة لي..
قاطعني قائلا وهو يبتسم:
    ــ مطرب الحي الذي لا يطرب..
    ــ أو ربما الجزار الذي يتعشى بالجزر..
    ــ على العموم، أعرف أني مريضة جدا، وأعرف أنواع كل الأمراض التي تسكنني، أغلبها أريده أن يبقى ساكنا في أوصالي، فقد تعايشت معه وأحببته كثيرا، وقليل منه إذا أردت أن أزيله فَبِرَمْشَةِ عين أفعل..
ضحك مرة أخرى بهدوئه المعتاد ثم خاطبني قائلا:
    ــ  هذا هو الآخر مرض من الصعب علاجه.
    ــ أعرف ذلك..
    ــ وبما انك تعرفين ذلك وترضين به، لماذا قررت أن تقومي بهاته الفكرة الغريبة، أن تعتزلي الناس، وأن تفري من المدينة..
    ــ إنه جبن وهروب..
    ــ الشجاعة هي أن نعلن على جبننا وهروبنا أمام الملأ، أو نسيت وأنت السيدة النبيهة، أنه في كل إنسان مهما كبر شأنه أو صغر، جانب جبان فيه؟
    ــ أعرف هذا وأعرف أكثر منه..
    ــ إذن لماذا قررت الهروب أيتها الفاهمة؟
ترددت في أن أجيبه، صمت هو الآخر.. من الصعب أن نتكلم لأحد لا نعرف شكله ولا نعرف عنه أي شيء، في حين أنه يعرف عنا كل شيء، وبما أنه يتقن فن الخطابة جيدا، فقد غير الموضوع عندما قال:
ــ هل تعلمين أن الاشياء التي تهربين منها جاءت معك إلى هذا المكان القصي، وتأكدي تمام التأكد أنك لو ذهبت إلى مجرة أندروميدا فإنك ستجدين نفسك تحملين ما أنت تريدين التخلص منه.
ــ كلامك صحيح تماما..
لم يبد أي اعتزاز بنفسه أمام هذا الاعتراف، بقدر ما سألني بدهاء:
    ــ لماذا قررت بالضبط أن تنفذي هاته الرغبة الآن..
    ــ لقد ثقلت علي كل الأماكن..
    ــ بسبب الوحدة، أم بسبب مطاردة الماضي لك.
    ــ هما معا
صمت برهة ثم أمرني قائلا:
    ــ أوقفي السيارة وترجلي منها.
    ــ وما الغاية من ذلك؟
    ــ أوقفيها ثم ستعرفين بعد ذلك..
قلت له بحزم:
    ــ تعرف حساسيتي الكبيرة من الأوامر، ومن الأسئلة البوليسية كذلك..
أجابني بهدوء:
    ــ أنا لست من البوليس، أنا هنا لأحاورك.
بعد ذلك أوقفت السيارة، ثم خرجت مستسلمة، فإذا بي أمام صمت يطن الآذان، كان الليل يسدل أولى خيوطه، والسماء البعيدة هناك يسير لونها الأزرق نحو الأفول تاركا مكانه للسواد.. كل شيء أسود، وكل الأشياء ستلبس هذا اللون قريبا، أعجبني المنظر كثيرا، فما كان مني إلا أن تناولت سيجارة، داعبتها أولا ثم أشعلتها بسرعة كأني أسابق الزمن، انتظرته يخاطبني لكنه اختفى فجأة، التفت يمنة ويسرة أبحث عنه، حمقاء أنا أم ماذا؟ أبحث عن شيء غير موجود..
    ضحك بهدوء قائلا:
    ــ تبحثين عن شيء داخلك؟
    ــ خلتك اختفيت.
    ــ لا يمكن ذلك، لأننا أمام فرصة قد لا تتكرر مرة أخرى..
    ــ هل أسمي هذا تهديدا؟
    ــ بالعكس..
    ــ إذن وباختصار أخبرني عن غايتك من كل ذلك..
    ــ غايتي هي أن تجيبيني بكل صراحة.. وإن كنت أعرف كل شيء.
    ــ إذن فلماذا تريد أن تعرف شيئا أنت أعرف به مني.
    ــ لقد عرفته من خلالي.. في حين أرغب في معرفته من خلالك أنت..
    ــ خائفة..
    ــ بل قولي جبانة..
    ــ هما معا..
صمت ثم اختفى، بحث عنه في دواخلي فلم أعثر عليه، نقبت عليه بين تضاعيف الذكريات، لا أثر له كأنه لم يكن، تهت في الزمن دون جدوى، غضبه يحيرني فيزيدني ارتباطا به.. ووجوده يربكني لأنه يعرف كيف يروضني كأني قطة وديعة في يده، هذا إذا كانت له يد..
    ــ أين أنت؟
    ــ أنا هو أنت!
    ــ ومن أنا؟!
صمت مطولا ثم أجابني:
    ــ دعينا من هذا اللعب بالكلمات.
    ــ إذن مالذي يشغلك من كل هذا؟
    ــ يشغلني شيء يجب أن أذكرك به، أريدك أن تحدثيني عنه، لصالحك ولصالح التاريخ.
    ــ ما هو هذا الشيء.
    ــ أي شيء تريدين قوله..
    ــ هل تحسبني مريضة في سرير عيادتك أم ماذا؟
    ــ لا هذا ولا ذاك، أما إذا رفضت فإن الأمر سيان..
ابتلعت ريقي ثم وجدتني محاطة بالرغبة في البوح، ولما لا، إنه لن يفشي ما سأقوله والذي بقي لغزا محيرا للعديد من الر فاق في الحزب قبل وبعد اعتزالي السياسة، هكذا وجدتها فرصة ممتعة لأخرج ما علق في داخلي، تناولت سيجارة أخرى، أشعلتها ثم قلت له بصوت صامت جدا:
    ــ اسأل أولا؟ 
بدون مقدمات قال:
    ــ لماذا خنت زوجك مع صديقه؟
ابتسمت قائلة:
    ــ وهل تسمي ذلك خيانة؟
    ــ وهل ترضين أن ينام زوجك وصديقتك في سرير واحد طيلة الليل؟
    ــ .........

ــ الاعتراف الأول:

    حدث هذا الأمر سنة 1989 عندما كنت مسؤولة عن العلاقات الخارجية في الحزب، حيث كثرت المهمات فوجدتني أحاول بداية الأمر، التوفيق بين حياتي الزوجية وحياتي المهنية ثم حياتي الحزبية، كان الأمر مرهقا كثيرا، لهذا وجدتني أضحي بوقتي الخاص لصالح الحزب.. كان خليل يتفهم الأمر بما أنه مناضل هو الآخر في نفس الإطار، وإن كان يمتعض أحيانا فقد كنت أتودد له دون أن يفاتح أحدنا الموضوع.. ذات يوم كلفنا أنا وخليل زوجي وصديقنا المشترك محمود معتصم بصياغة مذكرة حول وضعية المرأة الراهنة، وبعد أن وزعنا المهام، كان كل واحد منا يشتغل بمفرده ثم يقدم ما كتبه إلى الآخرين وهكذا دواليك.. ذات يوم اتصل بي محمود معتذرا عن موعد كنا قد ضربناه في مقر الحزب، وذلك بداعي انهماكه في ملف معقد، لدرجة أنه سيبيت في المكتب الذي يشتغل فيه كمحام، لهذا خيرني بين تأجيل اللقاء أو الالتحاق به في المكتب، وبما أن الزمن كان يداهمنا فقد قررت أن أتوجه إليه للتو، عندما فتح لي باب مكتبه رأيت آثار العياء بادية عليه، ناقشنا هذا الأمر مطولا، وحكيت له بدوري صعوبة توفيقي بين البيت والعمل والحزب... بعد ذلك مباشرة شرعنا في الاشتغال.. كنت كلما نظرت إلى محمود ألاحظه يمرر عينيه من فمي إلى صدري، ومن عيني على عنقي، أحسست بشيء يخبؤه، دون أن أجرأ على البوح به، سأكون صريحة جدا لأقول أن محمود كان يثيرني غموضه، بقدر ما كنت معجبة بأناقته وذوقه الرفيع، كم تخيلتني بين أحضانه دون أن أمنح لمخيلتي إتمام ذلك.. طردت كل هذا الأمر ثم أصغينا لبعضنا البعض إلى أن أتممنا عمل هذا اليوم، وعند الإعلان عن مغادرتي، أمسك بيدي ثم خاطبني بكل أدب:
    ــ لا يمكن أن تأتي إلى مكتبي دون أن أعزمك على شرب شيء ما..
أبعدت يدي برفق ثم خاطبته:
    ــ الداعي للإزعاج يا محمود مادمت منغمسا جدا في الملف المعلوم..
    ــ فلنعتبرها فترة استراحة قصيرة..
ابتسمت دلالة الإيجاب، لأجده يعرض علي قائمة من أنواع المشروبات، سألته إن كان يملك مكتبا للمحاماة أو بارا يعرض خدماته على الزبناء، ابتسم بطريقة راقتني كثيرا ثم قرر أن يعزمني على شرب كأس من الكونياك، وافقت في الحين دون مقدمات، وبعد أن عاد لتوه، ناولني كأسا فاخرا على شرفي، لدرجة أنه ما إن مده إلى وهممت بشربه حتى نفذت إلى انفي رائحة عطره الرفيع، شربنا دون أن يكلم أحدنا الآخر، ولما هممت باستئذانه أوقفني برفق، ثم اقترب مني وأنا جامدة لا أحرك ساكنا، همس في أذني بضع كلمات فسرت قشعريرة في كل أنحاء جسدي، بعد ذلك أطبق شفته على شفتي.. كنت كلما تحسست شفتيه إلا ويمتزج في فمي مذاق رضابه بما تبقى من مذاق الكونياك، فجأة مر وجه خليل من أمامي، فوجدتني بين نارين من الصعب الانفلات منهما، نار اللذة المؤجلة من جهة، ونار الواجب من جهة أخرى، أزحته عني برفق ثم استأذنت الذهاب دون أن يقول لي أي شيء..
    لما عدت إلى المنزل وجدتني في حالة نفسية جد مضطربة، وجدت خليل في مكتبه منغمسا في التقرير، لكنه ما إن حتى رآني انشرح صدره ثم اتجه نحوي، وبينما مد وجهه كي يقبلني أدرت شفتي ثم انصرفت نحو الحمام.. تأملت وجهي مطولا في المرآة.. فأحسستني كارهة إياه تماما، أما إذا أردت أن أكون صريحة مع نفسي فلا شك أن لحظة تقبيله لي كانت جد ممتعة.. فجأة وجدتني أستحضر ما حدث بيننا، كان الأمر غاية في الانشراح وإن حدث في رمشة عين.. دعكت وجهي بعدها ثم أدرت الصنبور لغسل وجهي.. كان خليل في هاته اللحظة يطرق باب الحمام متسائلا عن حالتي التي بدت له غريبة، وبينما لم أجد عبارة واحدة للرد عليه، كان الصمت ملاذي الأوحد، لكنه ما إن لم يستقبل سوى هاته اللامبالاة وهذا التجاهل حتى ازداد طرق الباب، صراحة أعرف عناد خليل جيدا، وبما أني لست في مزاج مناسب لمجاراته، فقد توجهت ثم فتحت له الباب، كان يلهث بقوة من شدة فورانه وغضبه، حينها لم أجد بدا في عناقه ثم البكاء بشدة على صدره، ولما استفسرني عن سبب ذلك لم يجدني آذانا صاغية، بقدر ما كان الصمت عنواني الأول والأخير، عندها أيقظني من غفوتي حين قال لي بهدوء:
    ــ أعرف سبب توترك هذا..
جمد الدم في عروقي، وأحسستني على شفا حفرة من السقوط مغشية علي، أمسك وجهي بكلتا يديه حتى أحسسته ينسحق، ثم أضاف قائلا:
    ــ أنت تعانين من ضغط العمل في العيادة وفي الحزب وفي البيت كذلك، لهذا أقترح عليك أنه مباشرة بعد الانتهاء من الصياغة النهائية للمذكرة، ستأخذين لنفسك إجازة ثم نسافر إلى باريس.
أومأت له برأسي إيجابا ثم عانقته بشدة، لكن ما إن أغمضت عيني حتى رأيته مرة أخرى يعصر جسدي ويمرر لسانه على عنقي، ثم يقضم أذني بمقدمة أسنانه.. دفعت خليل بقوة طالبة منه الانصراف، وكعادته في مثل هاته المواقف، وقف مشدوها بداية ثم أجابني بصوت بارد:
    ــ لك ذلك يا نجوى..
لما فتحت عيني في ذلك المكان القصي، انتبهت إلى الظلام الذي حل بالمكان، بدا لي العالم غريبا بسواده المعتم هذا، شعرت ببعض الخوف من شيء ما لا أعرف طبيعته، قد يكون وحشا أو شخصا تائها مثلي، وقد تكون نفسي، أو ربما الارتياب والرهبة من العدم المجهول.. بيد أني استجمعت قواي فور أن خاطبني هذا الكائن الذي يسكنني قائلا:
ــ هل أنت راضية على هذا الذي اقترفته؟
ــ ...........
ــ السكوت علامة الرضى..
ــ وهل هذا من شأنك.. ثم من أعطاك الإذن لتحاكم الآخرين..
ضحك مرة أخرى بهدوءه ثم أجابني قائلا:
    ــ لي الحق في محاكمة شخص واحد هو أنت.. ولا يمكن إلا أن أكون دوما حاضرا في كل قراراتك، قد أكون شرا لا بد منه، كما يمكن أن أكون خيرا لا بد منه..
صمت مرة أخرى ثم أعقب مستدركا:
    ــ لا تجبريني أن أطرح سؤال هل يمكن أن تستمري في العيش بدوني..
وكمن أصيب بالصمم لم أجد بدا من التسليم وعدم الخوض معه، مانحة إياه حرية قول ما يشاء..بعدها أعاد سؤاله الأول، فما كنت إلا طيعة في يده عندما أجبته:
    ــ لقد عشت محنة التردد.. صحيح أني أحببت خليل، لكني كنت أيضا معجبة بمحمود.. سؤال الخيانة من دونها أجدني غير قادرة على الإجابة عليه، المشكل أني لو ضبطت خليل بين أحضان امرأة أخرى ستقام الدنيا ولن تقعد..
    ــ أنت أنانية إذن..
    ــ إنها طبيعة الإنسان..
    ــ .....
    ــ أين اختفيت؟
    ــ ....
    نظرت إلى أعلى فبدت لي السماء المرصعة بالنجوم عالما قائما بذاته، منعزلا عن قيم المجتمع وأفكاره الصماء، مستمتعا بحريته غير المعهودة هنا في هذه الأرض العليلة، ولكي أطرد عني وحشة المكان، أشعلت سيجارة ثم فتحت باب السيارة متناولة قنينة جعة عساها تطفئ هاته النار المتأججة.. بعد أن لفظت دخان سيجارتي وجدتني أغمض عيني مستأنفة هاته الصلاة التي كان علي القيام بها قبل الآن بكثير.

الاعتراف الثاني:

    هكذا وبعد الحادثة المعلومة ألفيتني شاردة الذهن طوال الوقت، فقط العمل وحده كان بمثابة الملاذ الذي ينسيني شيئا ما.. وفي تلك الأثناء كذلك قرر خليل مقاطعتي، كان كلامنا جد مقتضب يدور فقط حول ضروريات البيت، أما ما عداه فقد اختفى تماما كأنه لم يكن سابقا، وهو ما زاد الطين بلة، لدرجة أنه خطر ببالي في أكثر من مرة مصارحة خليل، لكن عواقب ذلك كانت ستكون أكثر وخامة من هذا الذي يحدث الآن، أما المشكل الثاني فقد كان يكمن في سقوطي ضحية الندم والرغبة المتجددة في نفس الوقت، كنت أتمنى أن يتصل بي محمود أو أن التقي به، وفي نفس الوقت كان قلبي يختلج كلما استحضرت ذلك خاصة إذا كنت برفقة صديقه خليل.. وبما أن الأمور تسير دوما على عكس ما أتوقع، فقد حدث أن جلس خليل بجانبي، ثم قال لي دون أن ينظر إلى وجهي:
    ــ سيزورنا محمود خلال هذا المساء، فقد عزمته على العشاء وأعتقد انه سيبيت عندنا الليلة..
    ــ ......
    ــ لا تظنيه توددا، إنما هو إخبار ليس إلا..
    ــ حسنا..
    وفي ذلك المساء جاء محمود يحمل معه ورودا وقنينة نبيذ فاخرة.. صراحة لم أعرف سبب حمله الورود، هل هو ترحم على شيء ما؟ أم أنه إعلان لبداية شيء أعرف دلالته مسبقا، كنت منشرحة بقدومه وفي نفس الوقت أحسستني مرتبكة، وقد زاد هذا الارتباك عندما جلسنا نرتشف القهوة معا، حيث استفسر خليل قائلا، دون أن يكف عن النظر إلي:
    ــ هل نجوى بخير يا خليل..
أجابه خليل باقتضاب:
    ــ لك أن تسألها، أليست صديقتك؟
لما تلفظ بهاته العبارة أحسست بقلبي يكاد يخرج من صدري، فيما حافظ محمود على هدوءه الذي حسدته عليه، نظرا إلي معا فأحسست بارتباك جراء ذلك، إذ ما كان من حل سوى ارتداء عباءة الطبيب النفسي.. تصنعت أيضا ببرود ثم خاطبتهم معا:
ــ أنا بألف خير في كل حال من الأحوال..
ثم وجهت الكلام بعد ذلك إلى محمود:
ــ شكرا على الاهتمام..
بعد العشاء مباشرة توجهنا نحو الصالون، كان العطر الذي يضعه محمود هو نفس العطر الذي وضعه خلال اليوم المعلوم، هكذا تمكن من حملي نحو تلك اللحظة بالذات، أحسست برعشة تدب في أوصالي خاصة بعد شربي الرشفة الأولى من النبيذ الذي أحضره، أما خليل فقد جاء بالتقارير التي كتبناها سابقا، ثم وفي جدية كبيرة أخذ الكلمة منوها بالعمل الذي قمنا به، وفي النفس الآن مشيرا إلى ضيق المدة الزمنية المتبقية، كنت شاردة عنهم متظاهرة بحسن الاستماع.. وبعد أن عرض خليل مختلف الجوانب المحيطة بالمذكرة فاجأنا بأنه أتمم المهمة التي أنيط بها، بعدها سأل محمود عن أحوال واجبه، فما كان من هذا الأخير إلا أن تناول ملفا من محفظته ثم قدمه لنا.. بعدها صب النبيذ في كؤوسنا ثم حمله بيده مشيرا لنا إلى القيام بنفس الأمر، قائلا في الآن ذاته:
ــ نخب الانتصار يا رفاق.
ارتطمت الكؤوس فيما بينها، وبينما أنهينا شرب ما كان فيها، استفزني محمود بسؤال لم أكن أنتظره:
ــ وأنت يا نجوى هل انتهيت من واجبك؟
لم أجد أي شيء أقوله، لكن خليل استدرك الأمر ثم خاطب محمود ببراعة:
ــ بطبيعة الحال أتممته وإن أصيبت بوعكة صحية..
 ثم وبطريقة مذهلة أخرج من محفظته ملفا واضعا إياه على الطاولة.. تنفست الصعداء فيما استرخى الإثنان بفعل تأثير الخمرة على الجسد المنهك، أما خليل فقد وجدها فرصة سانحة لجلب الكونياك الذي كان يحبه كثيرا.. لما بقيت رفقة محمود في الصالون تفاجأت إلى أنه لم يكلمني أبدا، مما أثار حفيظتي، تمنيت لم أقوم بصفعه يمنة ويسرة، بل إني قمت بذلك في خيالي.. بعدها بقليل أقبل خليل يحمل معه كؤوسا جديدة، معلنا بداية سهرة سنشربها بنخب النجاح المنتظر، هكذا وجدنا أنفسنا بين الحلم واليقظة، بين صرخة الذاكرة وانفلاتات اللذة المشتركة.. وبعد أن قضينا وقتا طويلا نناقش أحوال الحزب كان خليل يعب الكأس تلو الأخرى إلى أن ثقل كلامه، كان خليل يشرب كثيرا في لحظتين، لحظة الفرح بتحقيق شيء ما، ولحظة توتره وغضبه الشديد، تساءلت في نفسي قائلة:
ــ هل خليل الآن يشعر بالفرح أن أنه غاضب؟
قبل أن أتمم سؤالي هذا انتبهت إلى صوت خليل يخبرنا بتثاقل كبير قائلا:
ــ أأشششعر بالننووم... تصصصبحوون عل..
    بعد أن ذهب خليل صوب غرفة النوم وجدتني رفقة محمود وجها لوجه، كان صامتا كأنه لا يرغب في قول أي شيء، بينما كنت أرغب في أن يتكلم، أن يقول شيئا ما.. صراحة تمكن من الظفر بي عندما أتقن فن التجاهل، فلم أجد بدا من أخذ المبادرة قائلة بصوت حازم:
    ــ لقد تأكدت من حقارتك الآن..
    ــ .........
    ــ هل تتجاهلني..
تناول كأسا ثم رفعه إلى أعلى وشربه دفعة واحدة، حدق في مليا دون أن ينبس ببنت شفة، ثم قال بصوت هادئ:
    ــ أين تتجلى حقارتي؟
    وبدون أن ألجم نفسي ألفيتني انتفضت متوجهة نحوه، كان هادئا جدا، لكن وبينما رفعت يدي لصفعه ألفيتني أمام جسد ضخم حيث انتفض بسرعة مهولة ثم أمسك يدي بأصابعه لدرجة أحسستها تُعصر بفرط قوة الضغط.. التقت أعيننا لأول مرة حيث قرأت فيه لغة الجرأة على كل شيء، على اقتحام حدود المحرم إلى جانب التمنع على ارتكابه.. لما تيقنت من أن الأمور هادئة تماما وأن خليل يغط في سبات عميق.. اقتربنا من بعضنا البعض إلى أن غصنا تماما في إحساس قلما شعرت به..
    انتبهت إلى السيجارة تحرق أصابعي، كانت قد وصلت إلى نهايتها دون أن أنعم بمذاقها الذي يحلو التلذذ به في هذا الليل البهيج، وحدها السيجارة من استطاعت أن تبقى معي طوال هاته المدة التي قضيتها في هاته الحياة، أدخن بنهم كي أستقبل يوما جديدا، ثم أدخن بلذة اعتباطية كي أودع يوما انفلت من حياتي دون عودة.. وحدها الأيام من استطاعت أن تشهد عن الذي فات وأفل، أحس بندم شديد دون أن أعلن عنه، صحيح أني أبدو للناس إنسانة محظوظة وناجحة في حياتها، لكني أرى في نفسي الإخفاق والفشل في كل شيء يخصني، وحده عملي كنت ناجحة فيه.. على العموم أرى أنه ليس من الأجدر الانغماس في هاته اللحظات على هاته الشاكلة.. فركت وجهي بأصابعي، ألقيت نظرة أخيرة على السماء الهادئة المرصعة بنجوم الخلود الأبدي، تساءلت بين قرارة نفسي عن وجود كائنات غيرنا في ذلك الفضاء المتسع جدا، ثم توجهت نحو السيارة، حيث الجلوس راحة ما بعدها راحة، وبعد أن أغلقت الباب وأشعلت الضوء تخيلتني كمن يفتض بكارة فتاة في قمة عذريتها، تبا لهاته التقنية اللعينة التي حجبت عني الاستمتاع والانخراط في منطق الطبيعة.. أغلقت عيني بسبابتي وإبهامي ثم غصت في ما لا يجب الغوص فيه، إذ بعد أن فاجأني مرة أخرى قائلا:
ــ ما الذي يمكن فهمه من كل هذا؟
أجبته بسرعة كأني على أهبة تلقي هذا السؤال:
ــ المستفاد من الذي حصل، هو أني وقفت بين بابين مجهولين، باب الاستجابة للذات من جهة، ثم باب الانصياع لأخلاق التضحيات البليدة من جهة ثانية..
صمتنا معا ثم أردفت بعدها قائلة:
ــ  le profane comme désir, comme besoin, et comme choix, peut devenir un anti-dieu, ou bien un dieu qui n’a aucun pouvoir sur ce monde
ــ هذا يعني أنك إلهة على نفسك إذن؟
ــ لا هذا ولا ذاك؟
ــ هل أنت نادمة؟
كان لهذا الشيء قدرة خارقة على طرح أسئلة محرجة دون الحاجة إلى مقدمات.
ــ لست نادمة بتاتا!
ــ حتى عندما ابتدعت تلك القصة..
لم أجد أية وسيلة لإيقاف هذا الشيء عند حده، سوى تناول مفاتيح السيارة، إذ ما إن شغلتها حتى انطلقت بسرعة هائلة كأني أحاول الانفلات من نفسي.. ثم سرت بعدها دون معرفة الموقع الذي أوجد فيه، لهذا وجدتها فرصة مواتية لاسترجاع ما قمت به..

الاعتراف الثالث:

منذ تلك الواقعة توترت علاقتي بخليل كثيرا، كان كل واحد منا ينام في غرفة من البيت، أو في أي موضع سوى النوم جنبا إلى جنب، حتى تلك العبارات المقتضبة التي كنا نتبادلها من حين لآخر اختفت ثم عوضناها بكتابة رسائل قصيرة وإلصاقها في الثلاجة، بل إن الأمر تطور أكثر فأكثر، عندما أصبح خليل يقضي معظم الليالي خارج البيت، صراحة أصبحت أحس ببرودة كبيرة تجاهه، وهو أيضا كان يحس بنفس الإحساس، كأن ما قمت به كان القشة التي كسرت ظهر البعير.. وبما أن خليل كتوم جدا فقد كان يخطط شيئا ما حدجته من خلال شروده وانشغاله، دون أن أجد سبيلا لبلوغه، لهذا كان لا بد أن أقوم برد فعل تجاه ما أعيشه، فما كان مني إلا أن استغليت الجفاء الذي حصل فجأة بين خليل ومحمود، لأقرر بعدها إكمال المغامرة، وهكذا أصبح مكتب محمود شقتي الثانية التي أقضي فيها ليالي متتابعة دون أن يسأل عني زوجي، صراحة لقد كنت سعيدة جدا رفقة محمود، خاصة وأنه تمكن من ملأ الفراغ الذي أشعر به، أن ترتبط بشخص دون قيود أفضل بكثير من الارتباط بشخص آخر باسم الأسرة والإخلاص.. لهذا وبينما باتت علاقتنا غير الشرعية حسب قانون الأخلاق تظهر إلى العلن بفعل اللقاءات المتكررة ــ خاصة وأن عديد المناضلين كانوا يترددون على مكتب محمود باعتباره قياديا بارزا في الحزب ــ، فقد كان لا بد من خلق أو ابتداع شيء ما لتمويه القيل والقال..
وذات يوم حدث أن اتصلت بي شقيقتي، مخبرة إياي بأنها ستزورني في البيت، لم أجد بديلا لأشارك خليل الكلام، حينها أخبرته بذلك، فما كان منه إلا أن رحب بالفكرة، ثم انصرف إلى مكتبه الذي لاحظت أنه تحول إلى معبد يسكنه طوال اليوم.. كان في الأمر سرا ربما سأكتشفه بعد حين.. ثم جاءت شقيقتي في عطلة نهاية الأسبوع، بدا خليل منشرحا كثيرا لقدومها أو ربما يمثل دور المرحب ليس إلا، وبعدما قضينا وقتا مطولا، اقترح خليل أن نشرب قليلا، وبعد أن لعبت الخمر بعقولنا بدأت شقيقتي تجهش باكية، لما سألناها عن السبب قالت أن زوجها يرغب في تطليقها بدعوى أن حياتهما باتت متوترة أكثر من ذي قبل.. نظرنا إلى بعضنا البعض أنا وخليل، فكانت هاته بمثابة الرسالة غير المباشرة، بيد أنه استدرك ذلك حين خاطب شقيقتي بكل ترحيب:
ــ البيت بيتك يمكن أن تبقي فيه وقت ما تشائين..
قالها ثم استأذن منصرفا إلى مكتبه، هكذا وجدنا أنفسنا أو بالأحرى وجدت نفسي مجبرة على النوم إلى جانبه والتظاهر أمام شقيقتي بأننا زوجين مثاليين.. صراحة لم أعرف هل ما قام به خليل ترحيب ومحالة تخفيف من الضغط الذي تعانيه شقيقتي، أم هو تاكتيك ودهاء للعب على حبل الترويض.. بعد أن أخبرت محمود بالأمر صمت برهة ثم أمسك بوجهي وأخبرني بحزم لم أعهده فيه:
    ــ هل أنت مستعدة للمغامرة؟
ابتلعت ريقي ثم أجبته مشدوهة:
    ــ بطبيعة الحال..
    ــ مهما كانت عواقبها؟
    ــ مهما كانت عواقبها..
وفي يوم غد، أخبرت شقيقتي بكل ما حصل، دون ان أحكي لها علاقتي بمحمود، لكن عندما سألتني عن سبب توتر العلاقة بيننا، ابتدعت قصة من خلالها أخبرتها بأننا عزمنا صديقة مشتركة تشتغل معنا في الحزب إلى العشاء، وبعد أن شربنا أحسست بتثاقل من خلاله ذهبت على النوم وتركتهما وحيدان، ثم استيقظت فجأة فإذا بي اسمع تأوهاتهما إلى اللحظات الأولى من الصباح.. أضفت لها أني تظاهرت بالنوم إلى أن انصرفت، وبقية القصة تعرفها طبعا.. بداية لم تصدق شقيقتي أن يقوم خليل بهذا الأمر، لكن تحت لعبي بالكلمات ألفيتها تسبه هو وزوجها وكل الرجال.. وبما أن خطتي الأولى حققت النجاح المنتظر انتقلت مباشرة إلى الخطة الثانية، إذ بعد تردد طويل قررت شقيقتي أن تقوم بها، صحيح أني استغليت حقدها على الرجال لأوقع بهما معا، وهكذا تم الأمر، إذ بعد أن اجتمع أعضاء الحزب خلال اجتماع مطول، وبينما هموا بإعلان بدايته وقفت أمام الملأ بشجاعة، فيم كان محمود يفرك ذقنه بيديه، ثم قلت لهم بحزم:
    ــ أيها المناضلون، لكم انتظرت فرصة لقاءنا كي أخبركم بشيء غاية في الأهمية، وهو أني ضبطت زوجي خليل ـ ثم أشرت إليه ـ يحاول اغتصاب شقيقتي التي جاءت إلى البيت، مستغلا توتر علاقتها بزوجها.. ساد صمت طويل من خلاله تحولت الثانية إلى يوم ثقيل بطيء جدا، كنت أسمع دقات قلوبهم فيم خليل بقي جامدا دون حراك، بعدها انتفض محمود صارخا بأعلى صوته بأنها خيانة لا يجب أن تغتفر، وأن حزبنا الثوري ذي المبادئ النبيلة لا يجب أن يسكت عن ذلك، ثم تدخل شخص ثان فثالث فرابع إلى أن عمت الجلبة والضوضاء، لكن الرياح ستجري على عكس المتوقع عندما انتفض عديد المناضلين يدافعون على خليل، مطالبين إياي بدليل واحد كي يؤخذ في حقه قرار الطرد، كان أمر الاستماع إلى شقيقتي بمثابة أمر إضافة الوقود في النار، لان ذلك سوف يجر عليها ويلات جديدة إذا ما علم زوجها بالأمر.. صمت بداية ثم قلت لهم متأسفة:
    ــ لقد اتخذتكم أكثر من رفاق، واعتبرتكم الحكم الذي وجب أن يحكم بالعدل، لكني للأسف أقف أمام أنذال وجبناء وسماسرة..
    قلت ذلك ثم انصرفت، فكان هذا آخر عهد لي بالحزب، وفي مكتب محمود أخبرني هذا الأخير أن الحزب مقسم إلى قسمين، منهم من ندد بذلك، ومنهم من طالب بالدليل القاطع، ثم أردف قائلا بأنه سينتقل إلى الخطة الموالية، ولما استفسرته عليها، أخبرني بأنه لن يبوح لي بأي شيء إلى أن تنجح الأمور.
    ثم انفصلنا أنا وخليل، وبما أن الشقة التي كنا نسكنها كانت في ملكه فقد ألفيتني مشردة، تارة أنام في مكتبي وتارة أخرى في مكتب خليل إلى أن قمت بشيء كان لا بد أن أقوم به مهما كانت عواقب ذلك..
    ثم بدأت السيارة تعطيني إشارة نفاذ البنزين، عجيب أمر كل ما يوجد، لأنه يبدأ ثم ينمو وأخيرا يذبل عوده ثم يتبخر كأنه لم يكن من قبل، هذه هي أحوال كل شيء.. بعد ذلك انحرفت بالسيارة مخرجة إياها عن الطريق، وبعد أن توقفت كان خيط الفجر يصعد من ذلك الأفق البعيد، مانحا بذلك الحياة من جديد لهذا العالم..
فاجأني صوته مرة أخرى
    ــ أريد أن أسمعك تقولين وتبوحين بما قمت به..
    ــ كنت مسؤولة عن جمعية تشتغل لأجل قضايا حقوق الإنسان، بل إني كنت على رأسها، وبما أن الأمر كذلك فقد تمكنت من استغلال بعض الثغرات في أحد التقارير المالية، لأحول ملايين السنتيمات لحسابي الخاص، والذي أضفته إلى بعض النقود التي ادخرتها للحاجة ثم اشتريت لي شقة جديدة، وهي الشقة التي أسكنها لحد الساعة وحيدة..
    ــ أنت مختلسة..
    ــ بل أنا التي جلبت الدعم إليها..
    ــ هذا يعني أنك لم تختلسي؟
    ــ أنا الأحق بها مادمت قررت ترك كل شيء..
    ــ وما الذي ستقولينه عن الذي حصل بعد ذلك، والأزمة التي تسببت فيها..
رفعت رأسي إلى السماء حيث آخر نجمة تسير نحو الأفول، ثم سافرت بعيني نحو أقصى ما يمكن أن أراه دون أن انبس ببنت شفة..

الاعتراف الرابع:

        في تلك الليلة الماطرة زارني محمود إلى شقتي الجديدة، وبعد أن أخذ نفسا عميقا قال لي بحماس:
    ــ اسمعي آخر الأخبار..
هكذا وجدتني أصغي إليه بتركيز:
    ــ لقد قرر خليل تقديم استقالته من الحزب..
    ــ ماذا؟
    ــ .....
    ــ ربما لا تعرف تعلقه بالإطار..
    ــ أنا أيضا صديقه وأعرف كل هذا..
    ــ لكن كيف تم ذلك، وما أسباب إقدامه على هذا الأمر..
صمت هنيهة ثم قال في حماس:
    ــ آه لو تعلمين حال الحزب الآن، فقد بات يغلي بمشاكله الداخلية، والتي من بينها قرار الطرد الذي اتخذ في حق خليل..
    ــ إذن هي ليست استقالة..
    ــ استقالة وطرد في نفس الآن، بقد كان خليل يعرف أن قرار الطرد سيؤخذ في حقه قريبا، لهذا أراد أن يتغذى بهم قبل أن يكون لهم وجبة عشاء، فتوصل الحزب بطلب الاستقالة في نفس الوقت الذي توصل خليل بقرار الطرد..
    ــ وما السبب في ذلك؟
    ــ لقد اتهم بأنه مخبر مندس في الحزب..
فغر فاهي وشعرت بصدمة كبيرة لم أجد بدا من التعبير عنها أمام محمود.. أما هو فقد اخذ وجهي بين يديه ثم همس في أذني قائلا:
    ــ الشوط الثاني من الخطة يا حبيبتي..
ثم تبخر بعدها ذلك اليوم، مثلما تتبخر أحلامنا الضائعة، وإن كنت أشك في فكرة اندساسه بيننا، خاصة من خلال طريقة انغماسه المطول في مكتبه، وغيابه الكبير عن البيت دون سابق إنذار، لكنه يبقى مجرد احتمال إلى جانب احتمالات أخرى بطبيعة الحال..
    ــ بماذا تحسين الآن؟
سألني صوتي الداخلي بهدوءه المعهود.
    ــ أحس أن التاريخ لم ينصفني..
    ــ هل أنت واثقة من ذلك؟
    ــ بطبيعة الحال..
    ــ ألست خائنة وكاذبة ومختلسة لأموال من يستحقها؟
    ــ بطبيعة الحال لا، وحدها الأخلاق الجامدة من تقول ذلك.
    ــ وأنت ما هي الأخلاق التي تحركك
    ــ ........
    ــ تكلمي وإلا ذكرتك بأشياء أخرى غابت عن ذهنك.
    ــ ........
لم أجبه وإنما بقيت شاخصة أتأمل السيارة التي توقفت عن الحركة إلى الأبد، حينها قررت بدوري أن أحدو حدوها، كي أغيب عن هذا الفضاء الذي احتواني رغما عنا، دون أن يستشير رغبتي الحقيقية..
 
 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة