لوائح بعد صحو : (ما تعلّمته من منطق الخطاف) ـ نص : د.الحبيب النهدي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse03103ـ الصحو : رجوع إلى الاحساس بعد الغيبة بوارد قويّ
ـ اللوائح : هي ما يلوح من الأسرار الظاهرة من السمو من حال إلى حال
ـ '' توّفر الثقافة نقاط استناد خياليّة للحياة العمليّة، ونقاط استناد عمليّة للحياة الخياليّة'[1]''أنا لا أعرّف الجمالي  أنّه الصفة الخاصة بالأعمال الفنيّة بل أنّه نموذج علاقة إنسانية أكثر سعة''[2]
ـ جئتكم بخبر خطاف تخطفني خطابه فأردت أن أفهم قوّة منطقه ورغبت في رؤية المشهد بشاعريّة لأقرأ عليكم لائحة موّجهة للصحو[3] حتّى لا أبقى كنودا[4] أوجّه كلاما حراما أن لا يكون سلاما.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
قد يبدو لكم الأمر ايتاء بجديد ولكن دروسا سبق وأن تعلمتها من أمي واستحضرها الآن فهي التي تعاشر الطير وتتخاطب معه وكم مرة حوصر في زاوية من البيت فتحرره حيث أردت سجنه قائلة هو بشارة خير.وقد وجدت فيما تقوم به استمرار فكر ايحائي متماه مع البيئة.

لقد أتيت بعد غياب دام أسبوعين وهي مدة العطلة المدرسية فلما وجدت بيتي[5] امتلأ بحركة الخطاف. وزقزقاته التي تشابه رنين الأجراس  وها هي تحطّ وتطير ثمّ تعود تختبر ردود فعلي نحوها حتّى تثّبت عشها فهي تتلمس السكينة وترغب في الأمن ولما وجدت في المكان حرارة الاستئناس رامت حضوري لتتسلل  داخل غرفتي وكانت ترفرف ابتهاجا بقدومي.


جنحت ذاكرتي أو طارت في تلك اللحظة نحو عالم ''أكون فيه حيث لا أكون''[6] لما كنا صغارا نحتفل بتموجات الخطاف يخبّط الفضاء بجناحيه وكلما أمسكناه لن يسمح لنا أن نؤذيه بل كان علينا أن نبلّله بقليل من زيت الزيتون أو أن نخضب ساقيه أو ريش رأسه بالحنّاء لأننا كنا نسمع أمّهاتنا يقلن لنا على أنّه خطيفة النبيّ  وطائر الجنّة لندعه حرّا فهو لن يضر لا البشر ولا الشجر وهكذا ترسّخ في ذهني كيف أكتسب حسا بيئيا مليئا بالرموز تنعكس على سلمية أفعالي والرحمة التي تسكنني وأن الأشياء الأكثر حميمية نعطيها وجودا لتعطينا معاني تفتق طاقات الابداع لدينا وأننا لم نخلق عبثا ولهذا فإن هذه التنشئة العميقة بروح الكون تمثل قيمة ما لا قيمة ملموسة له وبذلك قد أحيت فيّ رغبة رصد أفعال الخطاف فكنت أخصص وقتا لأتأمل منطقه.

هكذا كتبت كثيرا وها انّي أنشر منه القليل فما أبلغ أن نفهم ألغاز الطبيعة فلعلّ فيها بعضا من النبي سليمان الذي علم منطق الطير والهدهد.فكأنّما جاءني منهما صدى: لقد انتصرت وتبا للمظالم والرذائل والتعسف وتبا للجهل واللامبالاة لتحمل أتعابك وتحمل الثبات في الحركة وتثبت الحركة في المكان بلا زمان أو ردّد بصوتك العالي إنما هو الكلّ الذي يحرك الذاكرة وهو أقوى من أن يحركها الزمن.فأتلقف الشاعريّة الفيّاضة التي ترجع صدى الذكريّات ولذلك ليس من الغرابة أن يخصّص باشلار كتابا خاصا عن ''شاعريّة المكان''[7] تجلّت لي معانيه عندما تابعت أفعال الخطاف ومنطقه وعرفت لماذا خصّص له فصلا للحديث عن العشّ لما فيه من رمزيّات.وهو الذي يرى أنّ أجمل الآثار التي تدوم قيمتها عبر المكان نعثر عليها في المنزل تؤسس قوّة الاندماج والروابط وبهذه المعاني امتلأ هذا المكان

ما أجمل ما شاهدت من مشهد خطاف كأني به اطمأن للمكان فشرع في بناء عشّه واشتدت حركته وكان نسق العمل سريعا فيه جهد وعناء فكان يرصف الطين ترصيفا فإذا انهار لطراوته احتار ولم يتوقف فإذا هو بعد يوم ممطر وفي غفلة منه حيث كنت أرصد من النافذة حركته فإذا هو يخلط القشّ بالطين ويثبته في زواية ضيقة بين اساسين حتّى اكتمل العشّ وجفّ وقوي فتجمعت فيه الخطاف لكن ما أدهشني وفتن لبّي هو احتفاله بالمكان الجديد حيث كان يرفرف حوله فخرجت استطلع الأمر فتجمعت حولي كأنّها تريد أن تعقد معي عهدا على أن لا أقرب من حرمة مسكنها الجديد.فكأنّما أشعل فيّ ملكة تفكيك رموز المشهد لأفصح وأوضح دلالات حميميّة المكان ودفئه وله قوله وانتهيت الى ان تذوق الجماليّة  يكمن في أن نكون في علاقة مع الآخر مهما كانت أشياء أم بشر نفيض شاعريّة ونوطّن المكان عندما نبدع أو نبلّغ فكرنا وإنّ السعادة ليس أن نكون في مأمن من المخاطر وإنّما أن يصمد الإنسان في قلب المخاطر هذا هو الاستقرار وهذا هو الحبّ الذي يولد البهجة والاحتفال. لقد كان للخطاف إيحاء ولوائح[8] جعلتني أصحو.وأقول بعد صمت طويل: ''أف للأولين لقد قالوا كلّ شيء'' ثم ابتلعت ريقا شائحا كحبّة دواء  مضيفا القول ''كلما رمت كتابة معنى وجدته عند غيري''[9]  ولكن فهمت بعدها أن كلّ واحد يقول معناه بطريقة مختلفة عن الآخر، والأرض لن تخرّ بالكتب ولنتذكّر دوما  ''إنّ الكتاب ليس لكاتب واحد وإنّما لعدد غير محدود من الكتاب''[10]  فهيا نطالع ونكتب ونملأ الفكر معاني  بل من الأفضل أن نمتلئ بكاملنا معاني ونشحن المكان والأشياء شاعريّة ودلالات. في متابعة كلّ تفاصيل ما تعلّمته من منطق الخطاف: الاستقرار/ الحركة/ البركة ومستعيدا قول أبي القاسم الشابي:
''سوف أتلو على الطيور أناشيدي   وأفضي لها بأشواقي ونفسي''

الهوامش:
[1]موران (ادغار) : روح الزمان الجزء الأول العصاب Névrose ترجمة انطوان حمصي وزارة الثقافة دمشق 1995 ص : 13
[2]نفس المرجع السابق ص : 85
[3]الجرجاني : التعريفات طباعة ونشر دار الشؤون الثقافية العامة آفاق عربية العراق بلا تاريخ الصحو : رجوع إلى الاحساس بعد الغيبة بوارد قويّ ص : 146
[4]نفس المرجع الكنود : هو الذي يعد المصائب وينسى المواهب ص : 105
[5]
[6]Cité par Gaston (Bachelard) : La poétique de l’espace Quadrige PUF 1957
[7]Ibid.
[8] الجرجاني : مرجع سابق الايحاء : القاء المعنى في النفس بخفاء وبسرعة
اللوائح : هي ما يلوح من الأسرار الظاهرة من السمو من حال إلى حال. ص : 147 
Résumé et synthèse de texte Armand Colin Paris 1984 p : 87[9]
[10]Ibid.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة