ها قد بدأ الليل يسدل سجوفه ويرخي أستاره شيئا فشيئا، .وبدأت السماء تمطر مطرا ساجما سرعان ما انقلب إلى مطر غزير يسقط زخات زخات، والسحب واجمة مكفهرة عابسة الوجه، تنتقل في الفضاء عجلى كحمامة تطاردها الصقور، وأنت ما زلت تطل من النافذة على الشارع سابحا في همومك ومآسيك، تعتصر قلبَك أحزانُك، يهد اليأسُ وجدانَك ويمزق الأسى كيانَك، سارحا في سوانح أفكارك، منقادا لأوهامك، تخضب وجهك بدمع يغرورق من عينين كأنهما سيل جارف أو صنبور ماء ترك مفتوحا، ليلك بهيم وكل أوقاتك عصيبة، لا يعرف النوم إلى أجفانك سبيلا، تظل الليل كله أو بعضه تتأمل أرجاء المدينة الصاخبة وأضواءها القاتمة، وتسرح بخيالك في جوانح أفكارك. كنت دائما ما تطيل التفكير كأنك على أهبة أن تخرج للعالم بنظرية حول الكون، لكنك هذه المرة سئمت من طول تجوالك في تلك الغياهب التي لن تقذف بك إلا في عالم الشك والحيرة.
تغلق النافذة ثم تتراجع إلى الوراء، تستقر عيناك على صورة زجاجية لحبيبتك التي أخذها الموت منك كأنها لم تكن لك في يوم من الأيام، هذه الصورة التي علقتها على الحائط فكنت تجلس تحتها كلما عدت إلى قبوك، كالناسك المتعبد، وما إن يقع بصرك عليها حتى تذرف الدمعة تلو الدمعة، وتسلس العنان لنشيجك وزفراتك. تقترب منها وتزيلها من مكانها بحذر خشية أن توقعها لتمسح عنها ما علق بها من غبار، فقد مر زمن طويل على آخر مرة نظفتها فيها، ولكن رغم حذرك تبدأ يداك ترتجفان فتسقط الصورة من بينهما وتتشتت ندفها على الأرض.
ينفلت منك صوتك فتصيح ملء فيك: تلا
ـ " لا لا"..
يجف حلقك وتخر قواك فتلقي بنفسك على الأرض واهيا متضعضعا، تجمع شظايا صورة حبيبتك بيديك وتحضنها، ثم ما تلبث أن تلقي بها بعيدا في امتعاض، تقوم من مكانك، تتجه نحو الباب، تفتحه ثم تصكه بعنف صكة يضج بها مسمعك، تغادر منزلك مكتئبا لا تدري إلى أين ستكون وجهتك. تقرر في مفترق الطرق أن تتجه إلى المقبرة لتزور حبيبتك رغم الليل ورغم شدة القر التي كانت تملأ أطرافك التي تداعت لشدة ما مر عليها من مصائب الدهر ونوائبه. تدخل المقبرة متمايلا في مشيتك، مترنحا، والسيجارة في فمك تقتلها بسرعة رغم أنك تعلم أنها ستقتلك فيما بعد ببطء. تقترب من قبرها ترمي ما تبقى من سيجارتك أرضا وترفسها بقدمك، ترتمي على قبرها باكيا، شاكيا لها أوجاعك وأحزانك وما حل بك بعدها... تظل جالسا على حافة القبر ما يقارب الساعتين تندب حظك وتشكو همومك ومآسيك كأنك المفجوع الوحيد في هذه الحياة، ثم تغادر المقبرة بعدما ودعتها وقد قررت في نفسك قرارا.
اتجهت صوب البحر كاسف البال مأخوذا، عكفت هناك حتى خلا لك الشاطئ من كل أثر إنسان. ملت يمنة ويسرة ونظرت خلفك ولما لم تر أحدا انطلقت نحو موتك المحقق، يجرك إليه ماء البحر، وكلما هممت بالاستسلام للموت أدركتك الرغبة في الحياة، إنه حب البقاء يسيطر عليك فتقاوم الموت بشدة، وتصارع تلك الأمواج العاتية وتجالدها، لكنك لا تستطيع، فتستسلم لها وتترك المياه تفعل بك ما تشاء، تطفو بك على سطح المياه تارة وترسب بك إلى قاعه أخرى، وتتلقفك الموجة تلو الموجة، حتى إذا ما خارت قواك وتخاذلت طواك البحر في أحشائه كطي السجل للكتاب، ودفنك في أغواره حيا كما تدفن الموؤودة دفنا لا قيام معه أبدا، لتصير طعما مستساغا للأسماك ووحوش البحر، ثم يسكت عنك الماء كأن شيئا ثمة لم يكن، لتصبح في أقل من ساعة لحظة من لحظات التاريخ العابرة بعدما كنت حاكما يوما لإمبراطورية الحب الغادرة..