تنظرُ إليَّ باستغرابٍ تارةً، وتارة أخرى بإشفاقٍ حاد، وكأنها تلومني على أوقاتي التي أقضيها سجيناً بين دفّتي كتاب، أو صفحات جريدة، فهيَ لا تقرأ، أو بالأحرى لا تقرأ بالقدر الذي يُصنّفُها في خانة القارئات، وحين أسألها عن أشهَرِ من كتبوا وتركوا آثاراً بعد رحيلهم لا تذبلُ ولا تُمحا، تعرفهم بسيماهم واحداً واحداً، وقد تحفظُ بعض مؤلفاتهم وتستظهرُ شيئا من سيرتهم الذاتية، فأجدني مستغرباً لا أملكُ لذلك تأويلا.
فهي كالفراشة الطائرة، لا تكادُ تبرحُ مكاناً حتى تنتقل إلى غيره في لهفةٍ وحنين، ولا تقضي من الوقت في قراءة عابرةٍ بين السطور مثلما تسرحُ حواسها أمام التلفاز أزمانا طويلة، دون أن يُصيبها لفحٌ من عناءٍ أو مَلل، ودون أن تحتفظ في ذاكرتها بما يستحقُّ البقاء، فالذي يقرأُ لا ينسى، فكيفَ يَنسى مَنْ
حَديثُه من قلبٍ إلى قلب، ومن وجدانٍ إلى وجدان، ليس كمنْ يُشاهدُ ثم يَرمي كل ما شاهدهُ وراء ظهره.
وهي لا تحبُّ الشِّعر، ولا أفهمُ ذلك، وليس من سبيلٍ إلى أن تُحبَّه فيما بعد، وكأن الشِّعر بحكمته وبيانه ظل عاجزاً على أسرِ قلبها وإخضاع ذوقها رغم أن فؤادَها مليءٌ بالحب، والحب لا يفارقُ الشِّعر إذا الْتقيا، أو بالأحرى.. هما معاً إلى الأبد. وهي لا تَغوصُ في بحار الأدب ولا تُناجيه، إلاّ مِن بعض ما مرَّ عليها في سنوات الدراسة الأولى مرورَ الكرام، وهي تتذكَّرُه جيداً وتُنْكره، وتحنُّ إليه وتَنساه، وتُحدّثني عنه حديثاً طويلا بلا طعم.
فلا تزهرُ القراءة بعلاقة حبٍّ من طرفٍ واحد، ولا تصحُّ أن تكون كذلك، فلُغَة الحبِّ لا تُسمى لغةً إلا إذا كان الوِصالُ من جِهتيه كاملاً بين المُحبّين، غيرَ منقطعٍ ولا ناقص، حتى ولو تولَّدت هذه اللغة من نبضاتِ القَلب، ووحيِ العُشّاق، وهمساتِ النُّفوس، تظلُّ رغم صَمتها من سحرِ لغاتِ الحب، ولو غابتْ فيها الحروف والحركات.
وأكاد أُشفقُ على حالِها كونها لا تقرأ، وأتفهّمُ أنَّ الحياة قد سَرقتْ منا لحظاتٍ جميلة، وأفراحاً عديدة، وقذَفتنا في متاهاتٍ لا نكاد نتنفّسُ فيها بالقدر الذي نُحسُّ فيه بوُجودنا وانتماءنا لهذا العالم الفسيح، نبحثُ عن أنفسنا فلا نجدها، نسيرُ وكأنّنا نصّعدُ في السماء، لا نبلغُ ما نصبو إليه أو يُتخيّل لنا ذلك، ورغم كل هذا، كيف أيها الإنسان أن لا تقرأ لتستفيد، فتضم عقلاً إلى عقل، وأملاً إلى أمل، وحياةً إلى حياة، تُنسيكَ محاسنُ حياةٍ نوائب أخرى، وتنسيكَ نوائبها ما أنت عليه من كبرياءٍ وانكسار، فتهذّبُ نفسك، وتَعرفُ بها قَدْرك، وتَرنو إلى حقيقة كنتَ تجهلُها قبل عَهدكَ بالقراءة، فتَعتدلُ مقادير الأشياء في عقلك، وتتبدّد الهمومُ كما تنقشعُ الغيوم، كنتُ أقول لها ذلك على مَضض، كما أقولُه لكم على ارتياح، وقد قلتُه لنفسي من قبلُ وقالوه لِي فاقتنَعتُ ورضيتْ، وما بلغ منها الرضا والاقتناع مبلغا أبدا ولا هزَّ شعرةً واحدة من خاطِرها.
لَكَم أهوى أن تُرافقينني إلى قممِ الطبيعة، نتذوّقُ فلسفة الكون، نغترفُ من كنوز التراث ودُرَر اللغة، نَرتوي من مَعاني الفنون والجمال، نغوصُ في حكايات ألف ليلة وليلة، فننسلخُ من واقعنا لنُقبلَ على عوالم حاضرة نعيشُ فيها ما نعيش، ثم نُعرّج على عوالم أخرى من نَسج الخيال ننسى فيها ما عِشناه، وما كان وما ينبغي أن يكون، ويستمرُّ هذا المَعاش ما دامت صلتُنا بالحرف قائمة، وعُهدتنا بالقراءة باقية، إلى أن يفنى المداد من الأرض فتنتهي الحياةُ وتذهب ريحُها.
لكنها تأبى وتخاف، وليس خوفها هذا إلا من كُرهٍ تأصّل منذ أول لقاءٍ لها بالكتاب، كان لقاءً رهيبا فيه من البكاء والصراخ ما فيه، جَعله مُريدوه هكذا حتى ينسُجَ الخوفُ خيوطَ الرعب في عروق التربية، ويأكل من شخصية المُتعلّم كما يأكلُ السّوسُ الخشب، ويزعزعُ من ثقته بنفسه فلا يبغضُ شيئا بعد ذلك أشدّ من بغضه للكتاب، فيهجرهُ في حياته إلى مَماته، ثم إنّكِ من كل هذا وذاك، كالطفلة المدلّلة تأبى أن تتعلَّمَ مبادئ القراءة والكتابة، وتخجل من أن تُروّضَ لسانَها على مَخارج الحروف وأبَجديات الكلام، فتنصرف قانعةً إلى عالمها ولُعبها كما تريد لهذا العالم أن يكون.. بِمحض إرادَتها..
وإني لأشهد الله أني رغم كل هذا.. لا ألومُك