عدتُ إلى النهر، جلست عند ضفته وفتحت الكتاب لأقرأ ما تيسّر منه.
رميته جانبا -الكتاب- بعد بضع دقائق من مباشرتي له.. لم أعلم ما دفعني إلى ذلك؟ ربما لأني كنت مالّا..! على صفحة الماء طفت صورتكِ التي ارتسمت ذات صيف قائظ في ذاكرتي..
لا أدري هل كنتِ تبتسمين حين كنت أتأمَّل وجهكِ!؟ أم كنتِ زامّةً شفتيكِ فحرك الماءَ نسيمٌ رسم تلك الابتسامة التي تراءت لي!؟
عندما أتذكر تلك اللحظة ألعن السماءَ التي لم تجد وقتا أنسب لها، وأسوء لي، من تلك اللحظة التي كنت فيها أهُمُّ باحتضان صورتك..! أو ربما إن السماء كانت تعلم أنكِ ستحتضينني إلى الأبد..! فأشفقت علي..؟
أدخلت يدي في جيبي سروالي الأسود الأماميين، قذفت بقدمي اليمني زهرة، كانت هي الوحيدةُ هناك.. بعد بضع خطوات، بدا وكأني أسمع نحيبا.. التفت خلفي، فكان النحيب نحيبَ الزهرة الصفراء.. انتابني شعور بالذنب.. من عينيَّ تسربت عبرات رغما عني.. أدركت خلالها أنيَ هش كورق الشجر اليابسِ.. تقدمتُ نحوها وحملتها بلطف شديد..
نعم..! لقد كانت تكظم بكاءها، فيصدر نحيبا جارحا.. يصيب قلبي وكأنها وخزات الإبر..!
حملتها معي إلى الكوخ الخشبي الذي اشتريته من شيخٍ ملَّ من الحياة، فاختار التيه بديلا..
صحيح! لم أخبركِ..!
الشيخ لم يطلب أكثر من ثمن تذكرة القطار، لأنه كما قال لي:
- يا صديقي، أنا شيخ ومقصدي الذي أريد أن أتيه فيه يحتاج السير طويلا، وأنا لن أتحمل ضربة الشمس.. لذلك سأقصده بالقطار.
منحته ثمن التذكرة.. وأوصاني بالكوخ خيرا، رغم أنه باعه، مقابل تذكرة قطار، أوصاني به!
وعدته بأني سأعتني بكوخه، أقصد كوخي.. ثم ودعني واختفى بين أشجار الغابة..
عند حلول الصباح، ربما كانت السادسة صباحا.. ! سمعت صوت القطار.. كان صوتا مزعجا، لكني كنت سعيدا، لأن صديقي الشيخ، سيذهب لعيش تيهه.. فتساءلت مع نفسي:
- كيف استطاع أن يظل صديقي هذا وحيدا طيلة هذه المدة؟
فالناس تحكي بأنه أمضى زهاء الستين عاما هناك.. وأنه لم يكن له زوجة ولا صاحبة..!
وأنا أتأمل الزهرة المنكسرة في راحت يدي، وأسمع نحيبها.. إذ بي أسمع أزيزا يأتي من النافذة.. قمت من مكاني لأغلقها فرأيت بوابة صغيرة، خلف خزانةٍ كانت مخصصة لعديد الأشياء.. طبعا أنا لم ألمسها لأني وعدته.. وقفت لبعض الوقت أتأمل البوابة الصغيرة: ترى ما الذي يوجد خلفها؟ (تساءلت).
رحت أتناقش مع نفسي:
- صحيح أني وعدته.. لكن الكوخ كوخي، ويمكنني على الأقل أن أعرف ما الذي يوجد فيه.. !
- ولكنكَ وعدته.. ووعد الحر دين عليه، كما تعلم.. !
- نعم! وعدته، لكنه لم يطلب مني ألا أفعل شيئا، فقط أوصاني به.. !
حسمت أمري، وفتحت البوابة.. فصدمني ما رأت عيناي.. (يتبع)