كن رجلا – قصة : أحمد السبكي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاسرمت الشمس أشعتها الحارقة ، عم سكون تام أرجاء القرية ....يحق لك أيتها الطبيعة أن تفخري بجبروتك ، يحق لك أن تشعري بكامل الرضا ...ألست من أعجز هذا البشري المتباهي بذكائه ، لينسل خانعا ويخر راكعا ، مفضلا الانكماش والاحتماء من مزاح أشعة شمسك الوهاجة مع جلده المتهالك ؟
-   كن رجلا يا ولدي .... عبارة أطلقها الأب العجوز وهو يودع ابنه ، بعد أن أنهى تعليمه بالقرية ، عبارة بليغة موجزة  أجمل فيها الأب كل مكنوناته ، ربما لأنه لم يكن مستعدا بما فيه الكفاية لساعة الفراق هاته.
-    سأحاول يا أبي ، يرد الفتى وهو يجمع حقيبته ويملأ جيوب قميصه بثميرات لوز وجوز، دستها الأم بين ثيابه في غفلة من إخوته الصغار .
-    لا تعد خائبا ...ليس أقل من الشهادة الكبيرة .
-    أجل يا أبي ...يكررها وهو يسابق الحافلة الوحيدة التي تصل القرية بالعالم الخارجي .
لاحقه الأب بعينيه الذابلتين ، حتى توارى عن الأنظار ، رمق السماء بنظرة توسل ، ثم ثمتم ببعض الكلمات التي لا يعرف كنهها سواه ، كان يعلم بأن ابنه الذي تربى منذ طفولته على قيم الرجولة والاعتماد على النفس ، يمكنه أن يصير شيئا ما .

مرت السنون بسرعة البرق ، اجتاز خلالها الابن نصف دربه الشائك ،...لابد من صبر أكبر من أجل إتمام الباقي ...هكذا نبس وهو يتذكر بفخر ممزوج بالتأثر تضحيات أبيه ، كان مستعدا لتقديم حياته مقابل تحقيق طموحات والده .
أوشكت الدراسة أن تضع أوزارها ..إنها السنة النهائية ، سنة التخرج وللنجاح فيها طعم آخر ، بدا حلم الأب وشيك التحقق لذا بذل الابن جهدا مضاعفا ....فجأة توقف كل شيء ، لقد انقضى العام ..أخيرا حصل على الشهادة الموعودة ...استغرب الابن كثيرا عندما لم يلحظ الفرحة المنتظرة على محيا زملائه الناجحين ، استفسر عن الأمر ويا ليته لم يفعل ، لقد سمع وابلا من ضحكات السخرية وسيلا من التعليقات الجارحة ،  تأكد له إثرها أنه ليس رجل هذا الزمان ، تأكد أن أحلام الماضي ضحك على الذقون ، وآمال المستقبل ذر رماد في العيون .
لا يمكن لأي تأنيب أن يخفف حالته النفسية المتأزمة ،... أيمكن أن تكون خطواتي السابقة كلها متجهة بصورة محتومة ومشؤومة صوب الجحيم .
كتم الابن صرخة آتية من الأعماق ، لن يكسب شيئا من التأسي والتشكي ، انه يعرف حق المعرفة أن مجرد البكاء بصوت عال اعتراف  علني بالهزيمة .
شعر بقواه بدأت تفلت منه ، ...أيعقل أنني أضعت عشرين عاما في العبث واللاجدوى ؟ يدمدم الابن وهو يفترش بقايا كرتون أمام مركز تشغيل الكفاءات .
داعب رأسه وهو يتذكر والده الذي أشاع في القرية أن ابنه البكر أصبح شيئا كبيرا .....مسكين أبي ..مضى زمنك وزمني ..كيف لم تنتبه إلى أننا في زمن الغاب  ؟ لم لم تكن قطا من القطط السمان  ،لأرفل معك في الديباج والحرير،  وتجنبني هذا الدرب العسير ؟
إنها مجرد أوهام ..ابتسم ابتسامة بلهاء تشبه كثيرا سعادة المهلوسين .
أبي الحبيب ...خيبت ظنك ،  لم يدعوني أصبح رجلا كما تمنيت..
بعد طول انتظار..أصبح الابن يفقد شيئا فشيئا كل ما يمكن أن يربطه بهذه الحياة ، صار أبله تماما ، انتابته اختلالات عقلية فظيعة ، ناجمة عن هوة عميقة من اليأس سكنت قلبه منذ تخرجه المشؤوم .
لم يسعفه إيمانه في بعث بذرة أمل جديدة ، ما عاد يطلب من هذه الدنيا سوى الرحيل ..لم يستطع المسكين طرد روح العطالة التي لازمته ، أعياه التنقل وأضناه السؤال ، أنساه المشي الكثير متعة الجلوس ، كانت عزيمته تصطدم بكل شيء ولا يحصل في النهاية على أي شيء .
في دوامة الألم المستفز ، أحس الابن بعدم النفع ، سيطر عليه السخط فبدأ يطلق الضحكة تلو الأخرى ، ترك لسانه يتدلى ومعه سيلان من اللعاب ...لم أصبح رجلا... لم أكن يوما رجلا ...اذا كان ثمة مسؤول عن هذا  ، فلست أنا بالتأكيد ..هذا كل ما أريد قوله يا أبي ....
أحمد السبكي المغرب

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة