الاغتيال – قصة: الحسين لحفاوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ما إن أنتهيت من توقيع الإضبارة التي قدّمها لي ضابط ثلاثيني، يجلس خلف مكتب عريض لم يصنع لأجله، دون أن يكلف نفسه رفع رأسه للتحديق في عينيّ، حتى ضغط بيمناه على زر، فصلصل جرس في الخارج. حينها دخل رجلان يرتديان زيين عسكريين. كان أحدهما بدينا، يكاد بطنه يفجر إبزيم زناره، وجهه مدور، و حاجباه غليظان، حليق الشاربين. و كان الثاني نحيفا بشكل مفزع، بدا في ثيابه الفضفاضة كالذي يرتدي ملابس مضحكة. لم أُدم التحديق إليهما، و فجأة استند الضابط بيديه على المكتب، ويستوي واقفا: "خذا هذين الجرذين إلى الزنزانة حتى..." لم أتبين بقية الكلمات، إذ سرعان ما هجم عليّ الشرطيان وسحباني بعنف، ثم انصفق الباب بعنف اهتز له الرواق  الطويل الممتد.

نظرت إلى صاحبي فتراءى لي ضئيلا بحجم الخوف الذي سكنه. وقلت في نفسي آه لو تدري يا مفيد ما ينتظرنا. احتوانا نفق طويل نصف مظلم، سرنا فيه، ثم انعطفنا يمينا فاشتد الظلام الذي لم تكن تزيحه إلا الفتحات المعدة للتهوئة بين الفينة والأخرى، وكنت على ذلك الضوء الخافت المنبعث أتطلع إلى اللافتات المعلقة فوق الأبواب. كانت المكاتب على الجانبين موصدة الأبواب، ولم يكن يخطر على بال أحد ما كان يدون خلفها، فللغرف المعتمة دوما أسرارها، لم أقرأ أسماء، لكني قرأت ما يحيل على خطط  ووظائف، فالأسماء في هذا المكان الموحش الموحل سريعة التبدل والتغير، والكراسي في هذه المكاتب سرعان ما تضج بالجالسين فوقها، فتطردهم، ويُدْعون إلى مهمات أخطر أو أشد سرية، أو قد يحالون على شرف المهنة بصفة مبكرة، أو قد يُنهي اواحد منهم حياته برصاصة دون أن يترك وصية، فيظل موته لغزا مثلما كانت حياته في هذا القبو لغزا.
كنت أسير أنا ومفيد جنبا لجنب دون أن يكلم أحدنا الآخر أو أن يلتفت أحدنا للآخر، وكان الشرطي البدين يمشي أمامنا بخطاه الموقّعة وجسمه المترهل المتمايل يمنة ويسرة، محافظا على اتساع خطواته دون أن يكسر التناغم بين حركات يديه وقدميه. تساءلت "ترى كم مرة قطع هذا الشرطي هذا الممر جيئة وذهابا، وكم قد تلفظ فمه بألفاظ السب والشتم..." أيقظني الشرطي النحيف، الذي كان يمشي خلفنا دون أن نحس بوقع قدميه على البلاط، بنحنحته الرقيقة التي تكررت أكثر من مرة، والتي كانت كأنها صادرة من صدر شيخ ملقى كالهناة في زاوية غرفة مظلمة. كان يُصدر تلك النحنحات لا لشيء إلا ليذكّر صاحبه أنه يمشي خلفه بلا توقف.
طال المسير وكانت المسافة التي قطعناها بحجم عذاب العمر، فكرت في الهرب، لكن إلى أين، خفت إن أنا فعلت أن تلحقني رصاصة من مسدس أحد الرجلين. وفجأة اشتعلت الأضواء، هكذا دفعة واحدة، وحين حانت مني التفاتة إلى الشرطي ورائي، رأيته يضع يده على مسدسه في استعداد لما يمكن ان يطرأ.
كان مفيد يسير في صمت، وعينان محدقتان في  باب نهاية الممر التي ما إن بلغناه حتى استوقفنا الشرطي البدين، ثم سحب حزمة مفاتيح معلقة في نطاقه، بحث بينها عن مفتاح ذلك الباب، فعثر عليه دون مشقة، وبإحدى قدميه دفع الباب، فأز الحديد الصدئ ، واهتز الباب محدثا هديرا نتيجة الارتطام بالجدار. وكزني النحيل بعصاه البيضاء التي كانت في يده، ودون كلام أومأ لي بالدخول بإشارة من رأسه، أرفقها بابتسامة ماكرة كشفت عن ناب مذهبة علاها صدا الدخان. دخلت يتبعني مفيد، ثم انصفق الباب وبقينا في ظلمة قاتمة كظلمة القبور.
خيّم الصمت على المكان، ولم اعد أسمع سوى طقطقة أسنان مفيد، لم أدرِ أكان يرتجف من البرد أم من الخوف أم من كليهما، ولما ناديته، أجابني بهمهمة لم تُفصح عن حالته، أظنه كان يبكي في صمت، ويرتجف، لم أناده مرة أخرى، يكفيه ما كان فيه من خوف وألم.
الليل يتقد ببطء، وساعات الوحشة تبعث في النفس خوفا وفزعا. جفا النوم أعيننا. ومفيد هذا الرعديد يصر على صمته، ورائحة البول المنبعثة من الزوايا تزكم النفس، يُضاف إلى كل ذلك الجو الموحل زنوخة ورطوبة، وأصوات سكارى آخر الليل وتنهداتهم وصرخاتهم ومواويل متداخلة تعبر الجدار.  وفجأة جاءني صوت عذب يصدح ب " عدى ربيع العمر وإنت جيت متأخر كثير..." فارتسمت على الجدار أمامي صورة وجه ريتا، اخترقت الجدران وأتتني، ، وأضاءت بنور وجهها الزنزانة المعتمة، كان كل شيء معتما إلا هالة وجهها، تأملت شعرها الخرنوبي المرسل على كتفيها وعلى صدرها، وإذا حدقتُ في وجنتيها الموردتين وجبينها اللجين وعينيها الدعجاوين، أحسست أن كل شيء حولي صار مشعا. من أي الشقوق تسللت يا ريتا، وما الذي قادك إلى هذا المكان الموحش، كيف اخترقت ظلمة الليل والروح وتسللت بين حلم وحلم...أخرجي يا ريتا ودعيني لهمّي ولجراحات روحي أضمدها وحدي، أخشى عليك من هؤلاء الذين لا يرحمون، سيعمعنون في تعذيبي، ويغتصبوك أمام عيني، وسيطلقون عليّ رصاصة تخترق رأسي أو صدري إن أنا تصديت لهم، أخرجي وأريحيني...ريتا أيها النغم المنساب في صمت، المتفلت كالماء من بين الأصابع، أيها الثمر الذي نضج في غير أوان نضجه، ريتا أيها القدر الجميل المُساق إليّ. كم يلزمني من العمر كي أحبك، وكم يلزمني من العمر كي أشتاق إليك.
لعلع صوت المؤذن الصادح " الصلاة خير من النوم"، عن أي نوم تتحدث يا سيدي، ألهب السهر الجفون التي لم يكحلها النوم منذ ثمان وأربعين ساعة، جفاها النوم عنوة، فالنوم يهنأ به المستمتعون بالحياة الذي جعلوا من أيامهم ولياليهم أزمنة تتعاقب بلا خوف وبلا تردد. النوم يا سيدي تعتريه الأحلام، أما نومنا فلا أحلام فيه، نهابه، لا ندنو منه، ترهبنا كوابيسه المزعجة، تفزعنا حين رؤيتها،      ويؤلمنا البحث عن تفاسير لها، ونظل نلهث وراء رموزها طويلا، لكننا في الغالب لا نظفر بشيء، فكوابيسنا التي نراها في أحلامنا مخيفة، مرعبة، تتشابك فيها الأشياء وتتداخل، تطوّح بنا في أزمنة بعيدة، فنرى شهرزاد تتأبط ذراع شهريار يتجولان في القصر أمام الجواري الفاتنات المتلصصات من ثقوب الأبواب ليقتنصن قبلة يرسمها الملك المتجبر على خد هذه التي جردته من كل سيوفه.
أنهى المؤذن نداءه، فسكنت الحركة، فكأن كل شيء قد انغمس يصلي في خشوع. هدأ الكون كله سوى الزنزانة التي ضجت بشخير مفيد المدوي في تناغم. لقد هده التعب، فأسند جذعه للجدار ونام.
تُرى ما سيُفعل بنا، أسيران بين يديْ أعتى جنود الدنيا، لقد قاتلتهم، وتذوقت دم أحدهم، كان دما ثخنا، مقززا، نتنا، لم أفعل ذلك إلا قهرا. لمحته يوجه فوهة رشاشه نحو عجوز وابنتها، يرغمهما على التوقف، وبحربة سلاحه، شق ثوب الفتاة، فانكشف صدرها، مد يده يريد لمس جسدها، لكن سكيني سرعان ما انغرز في ظهره، استدار، عاجلته بطعنة في صدره وأخرى في رقبته. حدث كل شيء في سرعة رهيبة، لا أحد من المارة التفت، لم يحط بنا أحد، ترنح الجندي، حاول تشغيل رشاشه لكنه لم يقدر، سحبت السكين والدم يقطر منها، وبلساني لعقته، نعم لعقته، كان مقززا عفنا، فمججته. وفجأة  وصل الجنود وحاصروا المكان. كان مفيد، هذا الغر الذي لم أره من قبل، يحاول نزع خاتم ذهبي من إصبع الجندي المعفر بدمه. ألقوا علينا القبض، واقتادونا إلى الثكنة.
مفيد أيها الغر، لا تعلم ما ينتظرك، قد يُلبسوا الخاتم في أحد أصابعك، ثم نكاية فيك يقطعوا ذلك الإصبع، ويتركوك معطوبا، قد يخيروك في أي الأصابع كنت تنوي وضع الخاتم ليحرموك منه، فبأي إصبع ستتشهد في الصلاة إن هم اختاروا سبابتك، وكيف ستغيض زوجتك إن هم اقتلعوا وسطاك...ورّطت نفسك يا مفيد.  قلت له هذا الكلام، وكنت أظن أنه نائم، لكنه كان يتخذ زاوية يطمر فيها خوفه وارتباكه. وحين صمتُّ أجهش بالبكاء، وشخر، وتكوّم، وصمت إلى الأبد.
كانت زخات الرصاص تنهال على مسمعي، فقد كان الجنود في الخارج يتدربون على القتل والإعطاب، يبدؤون حياتهم الجديدة بالتخلص من بذرة الإنسانية المزروعة فيهم.
وعندما أضاءت شمس الصباح الكون والزنزانة، فُتح الباب، واقتادني جندي مدجج بالسلاح بعد أن أسمعني كل أنواع السب والشتم، وسلكت نفس الممر المظلم ذي الجدران الصماء والروائح العطنة، ودفعني بلا شفقة لأجد نفسي أمام عسكري ضج كتفاه بالأوسمة والنياشين التي روِّيت بدم الأبرياء من أبناء وطن جريح. فأصدر ضدي حكمه.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة