إعجاب - يحيى بن سلام المنذري

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاس يغوص في عينيها بشراهة . هي على ما يبدو قد لاحظت ذلك ، حتى أنها صارت مرتبكة بعض الشيء . . ذلك الارتباك الذي يتوارى وراء تعابير الوجه المختلفة. حين نظرت هي في عينيه لأول مرة تغيرت ملامح وجهها من قلق الانتظار إلى إسترخاء وترقب . ما الذي يدور في فكر كل واحد منهما. أتراهما الآن يتبادلان الإعجاب . ذهوله ناحيتها يدل أنه ذاب في كل شىء فيها، أما هي فلم تشكل دلائل واضحة سوى تلك النظرتين السريعتين اللتين رشقتاه بهما. وجهها مملوء بالخجل والاسئلة، بينما وجهه مملوء بالشراسة والمباغتة بتلك النظرات التي لم يقطعها إلا حينما يحدق في سقف المقهى. هناك غيري بالتأكيد من لاحظ أن هذين الاثنين يثيران الانتباه اليهما، خصوصا من جانبه هو، ومن المؤكد أيضا أن الأثنين لا يعرفان شعور بعضهما. قد يعتقد أنها غرمت به من خلال تلك النظرتين ، أو يعتقد أنها فقط حاولت معرفة سر نظراته المستمرة فيها. وقد تعتقد هي أنه هام فيها، أو تعتقد أنه مجرد عابث بنظر لكل النساء بنفس النظرات .
تنظر في ساعتها باستمرار. أتنتظر أحدا، ربما رؤيتها للساعة من قبيل العادة أو التسلية، وأنها لم تكن لتنتظر أي أحد. ولو كانت تنتظر أحدا، فمن يكون ، أيكون إحدى صديقاتها مثلا، أو زوجها، أو ربما حبيبها. إن كان انتظارها لزوجها فهو احتمال ضئيل ، فمن المفترض أنهما - هي وزوجها - يأتيان ويد كل واحد منهما تمسك بيد الآخر.. وأن يكونا حريصين على رسم الابتسامات لبعضهما البعض .. وبامكانها أن تناوله الأكل بيدها.
وإن كان إنتظارها لحبيب لها، فلا أعتقد أنه يتأخر عليها كل هذا الوقت ، والأرجح إذن أنها تنتظر صديقة لها.


الشخص الذي ذاب في عينيها ربما كان يعرفها قبل الان ، رآها في مكان ما. . وتبادلا الحديث .. ولكن الفراق طعن قلبيهما، وها هو يستعيد الآن صورتها متأملا تجديد معرفته بها. أو أنه يتفحصها نتيجة لوجود شبه ببنها وبين أحدى معارفه ، أو أنها تشبه إلى حد قريب أو بعيد حبيبة قد هجرها. ولكن أقرب الاحتمالات أنه قد أعجب بها منذ أن رآها لأول مرة.
وحين ابتسمت هي للنادل تضايق هو، أو هكذا استنتجت أنا، وكأن الغيرة إشتعلت فيه ، وأنه هو من كان يستحق إبتسامة مريحة من فمها الشهي .. وليس ذلك النادل .
كيف بالإمكان قراءة شعور الآخرين ، خصوصا أولئك من ليست لنا معرفة سابقة بهم ، ولم تربطنا وإياهم أي صلة، ولم نتبادل أي حديث . فقط من خلال رؤية أشكالهم ، والتفحص الدقيق لحركاتهم ونظراتهم وسلوكهم . هم بالطبع وجوه عابرة وكثيرة، القليل منهم قد يثير لدينا شيئا من التفكير والتأمل . . ربما لفترة وجيزة قياسها المدة الزمنية لرؤيتنا لهم ، إذ كلما طالت الرؤية أو المشاهدة طال التفكير والتأمل.
نظرت لساعاتها. دفعت الحساب وانصرفت ، ولم تلتفت وراءها. أما هو فبقي ساكنا في مقعده ، حتى استعاد هدوءه من ذلك المنظرالذي ذاب فيه " وأيضا دفع الحساب وانصرف . لا أعرف ان كان سوف يتبعها، أم أنه لا يكثرث بالمشهد الذي قلب فيه نظراته بدقة، ويتركه ، لعله يستعيده بامرأة أخرى تصادفه ، أم أنه حقا سوف يتبعها كي يبدأ معها قصة طويلة يذوقان معا فيها اللذة والعذاب . عموما غيابهما عن المقهى قطع تفكيري فيهما.
النصف الأول

عيناها رذاذ الصباح ، منذ أن جسلت على طاولتي وأنا أحدق فيهما. عيناها مذاق الحب ، فوجدت نفسى خارجا عن كل شىء، عيناها عظيمتان .. تغمضهما.. تقلب رموشهما السحرية بخفة، حينها أيقن أن ما ينقصني هو رؤيتها كل يوم . منظرها يبعث على  الراحة . . منظرها إستحال إلى بحيرة عذبة تمنيت أن استحم في مائها.
أحسست أن جميع الناس الجالسين قد فضحوا إعجابي بها.
يداها سلسلة قصائد شعرية.. يداها ناعمتان مثل ملمس الماء."
تمسدان شعر رأسها بطريقة الساحر حيى يثير سحره .. تمنيت أن أحفهما بيدي .. اقبلهما كي أتذوق طعم الحب وكل شىء لذيذ.
شفتاها حمراوان يعضان بعضهما البعض ويبعثان إشارات الشهوة، شعر رأسها ناعم كثيف يمهل حتى منتصف ظهرها، فستانها أبيض بزهور حمراء، حقيبتها حمراء، طلاء أظافرها أحمر، خداها تفاحتان تلمعان وسط حقل حنطي ناعم ، وأحد خديها يحمل شامة صغيرة، قرطاها حمراوان على شكل قلب ، ساعتها حمراء، حذاؤها أحمر.
كل رشفة من فمي لقهوتي أرسل نظرة تراودها. طاولتها لاتبعد كثيرا من أمامي . جاءها النادل مبتسما. ابتسمت هى له .
تمكنت من رؤية أسنانها البيضاء هذا النادل المحظوظ كسب ابتسامة ولن ينام ، أو لعله قد تعود على ذلك ، وأصبح كل يوم يحصد مئات من الابتسامات من أفواه العديدات من الجميلات ، ياله من محظوظ .. أحسده ، ثم جاءها بمثلجات مخلوطة بالفراولة،كي يتناسب على مايبدو مع أناقتها. هل عرفت أنها قد فجرتينابيع بهجتي .
كلا
منذ أن جلست لم ترسل لي سوى نظرتين ثمينتين مملوءتين بالخجل والسحر والغموض ، نظرتان انطلقتا مثل مطرتين عذبتين بللتا قلبي بالانتشاء، وبعثتا في رجفة وارتباكا. من المؤكد انها لاحظت اهتمامي بها. هل شعرت بالانزعاج ، وجهها لا يدل على ذلك . هل هي متزوجة، إن كانت كذلك فيالسعادة ذلك الزوج . ما هي طبائعها، عصبية، هادئة. ما هو اسمها. كيف هو صوتها، من المؤكد أنه ناعم يتناسب مع مذاق وجهها والذي شعرت أنه لذيذ، ماهي أفكارها، أتؤمن بالتمرد والجنون . لو تعرف أنها قد فجرت ينابيع بهجتي .
من يصدق أن ملاكا كهذا يصنع كل هذا العذاب . كيف أبادر بمحادثتها. اتراني سوف اقطع مسافات طويلة كي اصل اليها، هل ستواجهني أنهر شاقة أو جبال صلدة.. إذن علي ان أحيل كل شيء الى حطام وفتات لأجل عيونها. لأختلق إذن أي حديث ، لكن ، ربما تكون متزوجة، ربما لم تعجب بي ، وهناك دليل ، وهو أنها أهدتني فقط نظرتين قصيرتين منذ أن جلست ، وأيضا لم تحاول أن تبتسم لي ، ولكن ، ربما حياؤها يمنعها من كل ذلك . لو كانت تمتلك شيئا من الجنون .. فلسوف تتحرك من كرسيها.. وتتقدم ناحية طاولتي بهالة من السحر والحلم ، ولسوف تقول لي (أممكن أن أشاركك الجلوس. . فأنت على مايبدو بحاجة إلي ) .
حينها يصيبني شيء غريب لا أعرفه ، يجعلني أرتبك وأبتسم في نفس الوقت . سأقول لها. (بالطبع -. بالطبع .. بامكانك كل شيء يا حبيبتي ). ستحدق في ، ستغتبط ، ستضحك بغنج ، وستقول (حبيبتك !.. يالك من مجنون .. نحن لم نتكلم بعد). حينها سأهز رأسي بعنف ، وسأرفع يدي عاليا، وسأتجه نحو جميع الجالسين ، وسأصرخ بفرح .
أم أنني على الفور أكتب قصيدة لها، أتوجه ناحية طاولتها، وسوف أقول لها: (تقبلي مني هذه القصيدة). بالتأكيد سوف تتعجب . ستبتسم ربما أو ترتبك . وسوف تمد يدها لتأخذ القصيدة. ولكن هل قبل أن تأخذها سوف تقول : (القصيدة التي قرأتها من عينيك تكفي )، أم هل سوف تمزق القصيدة وتقذف بها في وجهي لأحمل نار الهزيمة. ولكن من يعلم ، ربما سوف تأخذها فعلا، وعندها ستقول : (شكرا . . سوف اقرأها) ، ولكن أتدعوني للجلوس ، أم أنها ترتبك وتدفع الحساب وتنصرف . وماذا سوف أقول لها في القصيدة. هل أقول لها أنك أميرة تفتهن تشيبي ، هل أقول لها ليتك تكونين شاعرة كي أرتوي من قصائد شعرك مثل خمرة الليل ، هل أقول لها أن كل نفس من أنفاسك هو مفتاح الجنة، هل أقول لها أنك لوحة فنية نادرة الوجود، هل أقول لها أني تفحصت كل شيء فيك بدقة.. ملابسك الفاخرة.. سحر عينيك .. وجهك العسلي . شامة خدك السحرية . . شفتيك القلقتين .
نادت على النادل أن يأتيها بالحساب . إذن سوف تترك مكانا لها في مخيلتي لفترة طويلة. حينما دفعت الحساب وانصرفت لم تحاول أن تلتفت كي تراني . اختفت مثل طيف يشبه قوس قزح ..
مثل حلم جميل قصير. . هل ستأتي مرة أخرى. قد أرى غيرها. لكن من منهن سوف تطلق في نفسي حنين سحرها. من سوف يبلل قلبي الحزين بالفرح .

النصف الثاني

عيناه شرستان ، منذ أن جلست على طاولتي - في انتظار صديقتي - وهو يحدق في بشراهة . عيناه تفضحاني ، فوجدتني ضائعة في صمت وترقب مثقلين . هل هي نظرات إعجاب ، هل هي نظرات تفحص لملابسى فقط . ولكن بالتأكيد هي ليست نظرات كره . يداه خشنتان ، إحداهما تمسك فنجان القهوة وترفعه إلى شفتيه اليابستين ، وكأن اليد الأخرى تمسك مصباحا كي يسقيني منه ضؤ عينيه المتوثبتين مثل صقر جائع . دشداشته البيضاء
جعلته وكأنه يمتطي سحابة سحرية ويقطع بها السماء بكبرياء الملوك . وجهه مثلث . لم (يحلق ) ذقنه جيدا، أو أنه قد (حلقه ) بالأمس ، وقد برز الان بشكل جذاب ، تمنيت ان يكتسي نقنه بلحية خفيفة كي اشعر بدفء حين رؤيتها.
حينما يحدق قليلا ناحية سقف المقهى المزخرف بالنقوش ، كنت أسرق له نظراتي المتفحصة في وجهه القاسى وعنقه الطويل الممتلىء، وإن أحسست أنه سوف ينزل رأسه ، أعرف على الفور أنه سوف ينظر ناحيتي ، لذلك وفي لحظة سريعة أنظر ناحية يدي أو ناحية ساعتي .
أكانه خلق في الظمأ. بي توق لأن أغيب وانتشي في حنان عينيه ، ذلك الحنان الممزوج بشيء من الشراسة الرجولية والتفحص الدقيق ، بي عطش لأن أذوب في قلبه . وبدون دراية أو وعي ، وفي لحظة أقل من ثانية نظرت في عينيه . إرتجف كل شيء في جسدي .اغتسلت براحة لذيذة. ساورنى شيء من الحياء، وربما شىء من الخوف جعلني متحفظة لرؤية عينيه مجددا. ويلي ، وكأن زلازل الكون استيقظت حولي .
جاءني النادل . كان ظريفا. ابتسمت له ، وكأني بذلك أشعلت  شيئا من الارتباك في الشخص المحدق في . طلبت مثلجات . بدات أتلمظها وأقارن لذتها مع لحظة رؤيتي لعينيه . هل أكون متوهمة.
ويلي ، ما الذي حدث ، ما الذي يسور في وأسي ، أو في رأسه .
بدأت مجددا في محاولة عبثية لاقتناص فرصة أخرى لرؤية عينيه ، اللتين لم تصمتا عن مطاردتي ، وفي محاولة أن ألصق نظراتي بنظراته كي أجدد طعم هذا الألتحام الغامض . ها أنا تأكدت أذن أنه قد خلق في الظمأ، وعلى كلانا ارواء الآخر. من هو ياترى، امتزوج هو، هل له أولاد، أم أنه لم يتزوج بعد، ماهي طبائعه ، عصبي ، هادىء. ماهو اسمه . كيف هو صوته ، من المؤكد أنه خشن يتناسب وقساوة وجهه ، خشونة وجنتيه ، وسامة عينيه وفمه .. ما هي أفكاره . أشقي هو.
عيناه مازالتا في حديث مستمر، وكأنهما تنادياني . إن كان معجبا فلماذا لا يتقدم ويكلمني ، ولكن ، لا، سوف ارتبك ، سوف يلاحظ الناس كل شىء. وها أنا أجد نفسي مرة أخرى انظر في عينيه اللتين تحدقان في عيني . هذه المرة لفترة أطول ، ولكنها أيضا أقل من ثانية، أحسست أنني أطير في الهواء، أنه يلفني بيديه ويحضنني . أيأتي ويكلمني ، لا أعتقد ذلك ، الناس هنا يلتهمون بعضهم البعض . اذن سوف يتبعني حينما أنصرف ، سوف يناديني ، ربما بالآنسة، سوف يقول لي : (لو تسمحين ). سأرتبك ، وسأقول له متعجبة : (نعم !). ثم يقول : (أنت جميلة جدا. . أحبك ). ماذا سوف يحدث عندئذ. هل سيغمى علي . كيف أتصرف . ربما كان شقيا ومجنونا، إذ يتبعني ، يقترب مني ، وفجأة دون مقدمات يمسك يدي . أرتجف ، يغرزني بنظرات حادة جميلة، أتدفأ بها، وبمسكة يده أنوب قلبي يرتجف . ماذا سوف أفعل حينئذ. لا أعرف .
ما هذه الافكار التي نبشت رأسي ، إنها نظراته التي حفزتها على ذلك . وعلى ما يبدو أنني انتظرت صديقتي أكثر من الوقت اللازم ، ولم تأت ، هممت لادفع الحساب . انصرفت ، ولسوف أرى إن كان سيتبعني أم لا .

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة