كان الليل قد زحف بظلمته القاسية على الفضاء المكتوم الذي لا تكاد ترى فيه سوى السواد القاتم وأطياف المساء الهاربة، ولا تكاد تسمع فيه إلا أنفاس ريح باردة وحشرجة الإبل التي تجتر الكلأ الذي التقمته في النهار. بالجانب الآخر، تحت سماء مرصعة بعناقيد النجوم، بددَّ الطوارق هذه الظلمة بنارٍ كبيرة أوقدوها بالقرب من بئر مغطاة في قلب البيداء دفعاً للبرد القاسي الذي يسكن أطرافهم وأفئدتهم.
ما إن نالت أجسادهم بعض الدفء حتى بدأت قهقهاتهم تتعالى شيئا فشيئا وتخرق سكون الصحراء بأصوات مشتاقة للبوح والانعتاق. اتخذوا من الرمال فُرشاَ طيبة وبدأوا سهرتهم. الحق أنهم كانوا في أمس الحاجة لهذا السمر الذي يصيبون به عادة شيئا من الحُبور ينسيهم تيه السنين القاسية وطول المسافات البعيدة التي لازلت في انتظار خطاهم.
من بين كل تلك الوجوه الملثمة بالأوشحة يشد انتباهك وجهُ غلام صغير اسمه بركة كان يخدم الأهل الزرق برشاقة ووقار. كانت تتبدى عليه الكثير من الحماسة لكأن الذي يراه يحسبه في ريعان الشباب وهو الفتى الذي لم يبلغ الحلم بعد. في لحظة خاطفة، وضعَ وعاء الشاي على الأثافي ثم انصرف لجلب الماء من البئر العميقة، ثم أتى بقدرٍ كبير وأخذ يقشر حبات الكمأ بمدية الحديد التي لا تفارق حزامه، لكي يصنع عشاء للقوم.
الحقيقة أن السفر قد أنهكه، والعياء أخذ الكثير من طاقته، لكنه لا يملك اختيار الاستلقاء على جلد الماعز والخلود إلى النوم لينال بعض الراحة، فهو يجاهد النفس والروح ليحفظ ماء وجه عشيرته أمام القوم، ذلك أن جده هاشم هو الذي اختاره من بين أحفاده الثلاثين وأرسله للخروج في ركاب قافلة الشمال ليختبر شدته ويقيس بالبيداء والسفر صلابة عُوده، وعار عليه إن هو خذل الأهل وألقى بثقة الجد في عرض القفار.
بعد العشاء، جلس بركة وراء أهل القبيلة يسمع ملامحهم البطولية وأحجياتهم الأسطورية التي تتجاوز حدود خياله. لم يكن لديه ما يشارك به في هذه الجلسة التي تكبره بعقود طويلة، كان يكتفي بارتشاف كأس الشاي المعتق بالعلك والعنبر، ومتابعة أحاديثهم بدهشة بالغة وهو يحدق في ملامحهم المثقلة بأشعة الشمس الحارقة، بدماء الحروب الضارية، بأصوات مدنِ الشمال التي هم تواقون لمعانقتها. كانت الطوارق تتهافت للحديث بما تعرف إلا شيخ القبيلة الذي بدا كما لو أنه يستهجنهم، إذ كان يلقي بين الفينة والأخرى نظرة ازدراء عليهم لكأن الذي يحمله بين أضلعه أكبر من هذه الترهات التي لا تساوي شيئاً يذكر أمام تجاربه ومغامراته.
في لحظة ما، خرج كبير القبيلة عن صمته وطفق يحدث القوم عما في جعبته. استكان الجميع وخيم على المجلس وجوم. لا أحد من التجار أو الأعيان استطاع أن يقاطعه أو ينبس بشيءٍ إجلالا لسنه واحتراما لمكانته بين أهل الطوارق. قال الشيخ:
- إن الإنسان عاش في الصحراء جنباً إلى جنب سلالةِ الجان، ففي دماء كل صحراوي حرِّ تجري دماء خفية تعود إلى هذه المخلوقات التي خلقها الله من النار. وتبعا لذلك، فقد قُدر على كل صحراوي حرّ أن تتعقبه يد خفية تشده للبيداء وتمنعه من قطع الخطوة الأولى نحو الشمال.
تسارعت ضربات قلبِ الغلامِ بركة وطار من عينيه التعب إكباراً لما سمع. أضاف الشيخ بلغة الواثق مما يقول:
- لقد كان بين القومين عهد المحبة والوفاء، ذلك أنهم كانوا يَتَبايعونَ ويتصاهرون وعندما يدخل الأعداء إلى الفلاة يحاربُون معاً، لكن كل ذلك انتهى حينما قرر طارقي صحراوي أن يشق طريق الشمال لأول مرة. في تلك اللحظة انتهى العهد بين القومين، وضمر أهل الخفاء العداوة والشر لأهل البيداء. الجن لا يعاهدون من يغدر بالوطن ويتركه من وراءه. يقال إنه منذ ذلك الحين ما خرج رجل من الصحراء سالكاً طريقاً نحو المدن الشمالية إلا وآذوه ونكلوا به تنكيلا ماعدا قوم حملُوا في أيديهم مدية الحديد.
لحظتها تحسس الفتى المدية التي تنام في الحزام وقد أخذ الخوف ينتشر خلسة في جسده.
لما انقشع الغيهب وبانَ شيء من ضي النَّهار، جمع القوم أمتعتهم وشدَّوا الرحال من جديد. في الطريق، كانت الريح التي تحمل في عباءتها الغبار وحبات الحصى تعاكس مسارهم. زاد أرق الفتى، إذ كان يمشي متثاقلا ولا أحد كلف نفسه عناء الانتباه إلى حاله. في كل مرة كان يتذكر وصية جده فيحاول أن يهرجل، لكن الظمأ والعياء كانا له بالمرصاد. ولما كان في نهاية الركب لم يمضى سوى وقت قصير حتى ابتلع المدى القافلة برمتها وبقي وحيداً في الخلاء الخالي، في العراء العاري.
في لحظة ما استيأس وسقط أرضاً. بذلَ مجهوداً جباراً ليستبسل، لكن ما إن تحامل ليقف حتى سقط مرة أخرى وأسلم أمره للبيداء، استسلم لهذا السلطان الذي لا يغلب. لا يقهر. يغزو ولا يُغزى. فجأة، خيل له أنه محاطٌ بقبيلة الجن التي جاءت لتنال منه، كانوا يقتربون منه بسرعة البرق وما إن يضع يده على مدية الحديد حتى يبتعدوا، وما إن يغفل عنها حتى يعودوا إليه بسرعة لاهبة، ولازال كذلك، بين الحلم واليقظة، بين الخوف والرجاء، بين الحقيقة والوهم حتى سمع صوتاً غرائبيا يأتي من بعيد.
استبشر خيراً وظن أن القوم أتت لتنتشله من هذا العدم. نهض بتثاقلٍ شديد، واستمات كي يفتح مقلتيه المغلوبتين في أمرهما. لم يُبصر شيئاً سوى الريح التي توقظ رمال الصحراء من سباتها وتراقصهاَ على مرأى من السماء، وأشجار الطلح الهرمة. حدق من جديد فتبدى له طيف يتقدم نحوه بخطى متسارعة. تسارعت ضربات قلبه من جديد، وأخرج مدية الحديد من الحزام. أظهرها لهذا القادم وبدأ يترقب خروج المارد.
تمعن في هذا الشيء المتجه نحوه، وتبينه أمداً قبل أن يدرك بأنه حوار صغير عائد من جهة الشمال والدموع تنهمر غزيرة من عينيه. ترك ابتسامة تطوف على شفتيه وأعاد المدية إلى مكانها. فتح يديه على آخرهما ليحضن هذا العائد وشتى مشاعر تنتشر خلسة في داخله. لحظتها، التقط أنفاسه وأدرك بأنه ما عاد في/ من المنفى.
رشيد الهاشمي.