يعود الكاتب الجزائري مبروك دريدي عبر عمله الروائي الصادر عام 2019 في 122 صفحة تحت عنوان "لامبيدوزا" إلى حقبة التسعينيات للقرن المنصرم، ويلحّ في طرح أسئلة عميقة حول الراهن والموقع من هذا العالم، كما ينبش في جانب آخر، في العلاقات التي دخلت سياق التداول الاجتماعي وحلّت مكان منظومة سلوك عريقة لها رصيد قيميّ محترم بين الجزائريين، وحاول دريدي عبر ظاهرة الفن إعطاء رؤية مختلفة جذريا عن الحلّ والخلاص في مجتمع عريق ينهشه المال والسياسة من جهة، والعنف والإرهاب من جهة أخرى.
تسعى رواية "لامبيدوزا" بوصفها عملا فنيا، للعودة إلى أسئلة تخصّ دور الفنّ ذاته في الحياة، بما يجعل الكاتب منافحًا في سبيل تشييد منطق قيميّ جديد، أو نفض الغبار عن منطق قيميّ قديم، سيزحف المال والسياسة والعنف في كل اتجاه ومن كل حدب وصوب لإنهاكه عبر فضاءات روايته، في إشارة إلى البُعد الروحي المتزن الذي أوشك على الاختفاء، تحت ضغط ظروف جدّ معقّدة، تلخّصها القوّة، ضمن ثلاثية؛ العنف الإرهابي، المال، والسلطة.
يفتح الروائيّ نقاشا مسكوتا عنه خلال فترة التسعينيات خصوصا، حول مكانة الفنّ في حياة الإنسان بوصفه مخلّصا وجوديا، ويدفع بالفكرة نحو مزيد من النضج عبر شخصيتين مهمتين في الرواية، إحداهما تقبل بمنطق الأمر الواقع وتحجز لها مكانا بين المال والسلطة، والثانية تتمرّد، لكنها تسيء اختيار المخرج، فتتورّط في الأعمال الإرهابية، لتكتشف الشخصيتان بأن الخيارين لم يمكّناهما من الوصول إلى ذاتهما التائهة والمفقودة في مسيرة البحث عنها لاسترجاعها، ومعها استرجاع الحياة ومعنى الوجود.
ويميّز الرواية مرحلتان، مرحلة نقطة البداية التي تتطرّق إلى الظروف العامة التي نشأ فيها أبطالها في حيّ شعبي شرق الجزائر، والمرحلة الثانية التي تكمن في الصراع بين طموحات الشخصيات وظروف محيطها، حيث أستاذ الرياضة البدنية حسان يدخل في صراع مع الحب والجماعات الإسلامية فيختلط عليه تديّنه، ثم يجد نفسه مطلوبا من طرف الأمن، وسليم وهو طبيب بيطري يحنّ إلى ذاته السابقة بعد أن دخل عالم المال والسياسة إشباعا لبراغماتيته، وجمال الذي يعشق الفن، ويحوّل الوجود عبر ريشته إلى فضاء رحب، يحتوي اغتراب صديقيه لاحقا.
تجري أحداث الرواية مكانا في حيّ المروج شرق الجزائر، وفي الجزائر العاصمة، كما نجد مشاهد منها في الصين، لتعود إلى أوروبا، وتحديدا فرنسا.. وهو ما يستفزّ القارئ لطرح تساؤل حول رمزية توظيفها وهي التي تربطها علاقات استعمارية بالجزائر، خاصة أنه أسقطها من نصّه الأول "في حضرة الماء"، بينما وظّفها في سياق نصّ يعالج اغتراب المواطن في العشرية الدموية، حيث لا لغة تعلو فوق لغة الرصاص وأخبار العنف والموت، وزمانا تجري الأحداث خلال فترة تسعينيات القرن المنصرم، إلى العقد الأول من القرن الواحد والعشرين.
يعتمد الكاتب في محطّات كثيرة على الأسلوب الاسترجاعي لسرد الأحداث، وأهم محطّة تتأزم فيها الأحدث هي تلك التي يشعر سليم وحسان فيها بأنهما سلكا طريقا خاطئة للبحث عن ذواتهما، فالسلطة والمال لم يفيدا سليم، والعنف لم يفد حسان بقدر ما ورّطه مع السلطة من جهة ومع نفسه التائهة المغتربة من جهة أخرى، وهنا تدخل تجربة جمال الروحية لتتوسّط لهذه المتاهة الوجودية بمخرج، يعبّر عن الذات أكثر من تعبيره عن العالم الخارجي، فتحصل المراجعة لذاتيهما.
يربط الكاتب الجزائر المعاصرة بماضيها ربطا وثيقا، فهو لا يعتبر الحاضر حلقة منفصلة، ونلمس ذلك في الإشارة إلى فرنسا بوصفها فضاءً من فضاءات النص، ويمتدّ هذا الحضور والتواصل مع أجيال الأسلاف عبر بروز قيمة التضحية من أجل الوطن، من خلال الإشارة إلى الجهاد ضدّ الاستعمار.
ترصد الرواية بالوصف أوجاع الوطن وتتطرّق إلى حلم الاستقرار، خاصّة في العشرية السوداء، كما تعالج ظاهرة الهجرة وتصفها بأنها خيار حتميّ بعد تأزم الوضع، وسيطرة المادة والاستغلال والاستبداد والعنف، لكن رغم هذه المسحة التشاؤمية، يخيّم التفاؤل على أجواء الرواية، حيث تبرز الأخوّة والصداقة لتحقيق الإنسانية.
تصنّف الرواية في ضوء مضمونها ومشروعها الفكري ضمن الأدب الاجتماعي، غير أن الكاتب تحرّر من الإطار الوظيفي التلقيني فيها، حيث جمع الواقعي بالرومنسي، كما نجح إلى حدود بعيدة جدّا في التأريخ، لا من حيث رصد الأحداث ومطابقتها للواقع، ولكن من حيث إعطاء الواقع أبعادا فنية ترتقي به إلى مستوى إبراز المرحلة التاريخية ومشكلاتها بمنظور يخضع لشروط الأدب، دون أن يخرج عن سياق الواقع.
تحاول الرواية أن تعطي إجابات في فضاء الخصوصية الجزائريّة لأسئلة من قبيل "لماذا تقدّم الغرب وتخلّفنا نحن؟" كما ترفع سقف التساؤل أحيانا إلى مستوى فلسفي من خلال طرح أسئلة من قبيل "ما الجدوى من أن نحيا فنيا؟"، ونعثر في الرواية على كمّ معرفي وعلميّ، لكنه مغلّف بقالب السرد، حيث نجد الإشارة إلى أن الأصل في الحياة هو الخير وليس الشرّ، كما أن المعالجة النفسية للخوف والحنين والصداقة توحي بمرجعية علمية يحتكم إليها الكاتب في بناء نصّه ويخفيها في نسيج سرده، ومن الأمور التي تلفت الانتباه في "لامبيدوزا" كسرها للصورة النمطية التي جرى تسويقها عن جوع الإنسان العربي للجنس، بل العكس من ذلك، سعت إلى بعث الجانب الروحي المتسامي، وما حبّ حسان لسعاد إلا دليلا على هذا التعالي والسموّ.
ولعب الروائي على الجانب النفسي كحيلة لإدماج القارئ وجعله ينخرط في الأحداث، حيث فسح المجال للخيال ليصنع القارئ لوحات ومشاهد بنفسه، كما لجأ إلى اللغة البيانية، لكن دون تعقيد أو تكلّف، وبعيدا عن الإطناب، وما يميّز الرواية هو سلاسة الانتقال بين الأحداث في سرد محبوك بعناية فائقة.
للإشارة مبروك دريدي روائي وناقد جزائري، يشغل منصب أستاذ النقد والأدب بجامعة سطيف في الجزائر، وقد صدرت له روايتان من قبل "في حضرة الماء" الحائزة على جائزة الشارقة للإبداع الروائي، ورواية "وادي الجن"، وصدرت طبعتها الأولى عن دار الجزائر تقرأ، وأخيرا "لامبيدوزا" عن دار فواصل بالجزائر، كما أنه حائز على جائزة طيب صالح في النقد عن كتابه "المكان في النص السردي العربي"، ونُشرت له مقالات نقدية في عدد من المجلاّت المحكّمة العربية.