جون ستاينبيك:صوت الأرض والقَسَاوات - عبد الرزاق السومري

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تقديم:
يرى كثيرٌ من الدّارسين أنّ الرواية الأمريكيّة لم تحقّق خصوصيتها الفنّية والغرضيّة(Thématique) إلاّ في فترات مُتأخّرة ويعتبرون ما سبق تلك الحقبة من محاولات لا تخرج عن كونها مجرّد امتداد للأدب الأنقليزي بناءً على كون أمريكا كانت عبارة عن مجموعة من المستعمرات البريطانيّة وبالتّالي يعسُر الفصل في البدايات بين الموروث الأدبي الأنقليزي والموروث الأمريكي.

   في الحقبة الاستعماريّة كانت تُهيمن الكتابات الدينيّة والتّوثيقيّة المُتأثّرة بظاهرة "التطهيريّة"(Puritanisme) المسيحيّة والحاملة لتصوّرات أخلاقية ودينية وسياسيّة .وقد تُفسّر ظاهرة الفردانيّة والصفويّة الأمريكيّة انطلاقاً من هذه المعطيات الدّينية والتّاريخية. وستُترجم التّطهيريّة المسيحيّة أدبيّاً وفلسفيّاً في بروز تيّار "الفلسفة المُتعالية" (transcendantalisme) والقائمة على فكرة جوهريّة مُفادها أنّ الخير  متأصّل في الطبيعة والبشر في حين أن مؤسسات المجتمع تُفسدُ هذا النّقاء والطّهارة، وبالتّالي أفضل حالة يكون عليها الفرد هو بالتّعويل على ذاته والحفاظ على استقلاليته. هذه الفردانيّة المُتعالية تنبني على اعتقاد كون كلّ فرد يحملُ في داخله قبساً من الروح العليا الإلهيّة.

أدبيًّا سنرى ظلال هذا التّفكير في أدب البطولات والمُغامرات والأسفار والرحلات في سبيل البحث عن الحُلم والفردوس المفقود. هي مرحلة مثّلتها بامتياز  كتابات هنري وادزورث لونغفيلو (ت1882)( Henry Wadsworth Longfellow) مثل :"رحلة بول ريفير" و"الأسطورة الذهبيّة" The golden Legend والروائي هرمن مالفيل(ت1891)(Herman Melville) صاحب ملحمة"موبي ديك" ( Moby Dick)الشّهيرة التي أَجْلت فكرة صراع الخير والشرّ من خلال الصراع بين الحوت الأبيض والإنسان.

وستؤدّي فترة  الأحلام والتّسامي تدريجيّاً إلى اندلاع الحرب الأهليّة بين الجنوبيين والشّماليين ومن أبرز الأعمال  الّتي أذكتْ الصّراع ودفعتْ نحو مقاومة العبوديّة رواية"كوخ العمّ توم"(Uncle Tom's Cabin) للكاتبة هاريت بيتشر ستوف( Harriet Beecher Stove) وتقول الدراسات أنّ الرواية قد فعلتْ فعلها في إلغاء عقوبة الإعدام سنة 1850 وقال إبراهيم لنكولن عن الكاتبة:" إنّ تلك السيدة ضئيلة الحجم هي التي أشعلتْ الحرب في الحقيقة".

الحرب الأهلية الأمريكيّة ستفتح الطريق تدريجيّاً لبروز التيار الواقعي الاجتماعي من رحم ما يُسمّى بالأدب الجنوبي نراه على سبيل المثال في أعمال ويليام فوكنير(William Faulkner) وهنري جيمس(Henry James).

وفي مطلع القرن العشرين وتحديداً فترة ما بين الحربيْن ستشكّل الرواية الأمريكيّة انعطافاً جديداً من خلال بروز جيل جديد يسعى إلى كشف زيف الأسطورة الأمريكيّة والحُلم المزعوم،وضمن هذه المرحلة والسياق تتنزّل كتابات ستاينبيك وكالدويل(Erskine Preston Caldwell) وتُرجمت سينمائيّاً في أعمال "أوليفير ستون"[1] التي كشفت بعض المسكوت عنه في التّاريخ الأمريكي(حرب الفيتنام).

ستاينبيك وكسر الحُلم المزعوم:

وُلد جون ستاينبيك سنة 1902 بساليناس بولاية كاليفورنيا (تحدث كثيراً عن وادي ساليناس في كتاباته) من عائلة تجمع بين السلالة الألمانية والإرلنديّة. ومما رواه عن سيرته بإحدى الحوارات أنّه استلهم الكتابة من قصص والدته المعلّمة فتأثّر بالجريمة والعقاب لدوستوفسكي وملحمة الجنّة الضائعة أو الفردوس المفقود لجون ميلتون (Paradise Lost) وحكايات الملك آرتير وغيرها. درس علم الأحياء البحريّة في جامعة ستانفورد ولكنّه كان لا يُجري الامتحانات وخيّر التوقّف عن الدّراسة في سبيل حُلم أن يُصبح كاتباً. ولعلّ أصوله الريفيّة ونشأته وسط الماشية والآلات الزراعيّة قد نحتت في شخصيته علاقة حميميّة بالأرض ووسمت لاحقاً كتاباته فأطلق عليها النقّاد صفة "روايات الأرض" (les romans telluriques)[2] .

   وفي سبيل الحُلم،اختار مسار الصّحافة بوصفها الحقل المُناسب  لدخول عالم الأدباء فاشتغل في صحيفة(The American) ثمّ عاد إلى كاليفورنيا في سنة 1926 ليعمل حارساً للفيلاّت الفخمة للأثرياء الأمريكيين على بحيرة تاهوي(Tahoe) وهنا سيستثمر وقت الفراغ لكتابة أوّل رواية"كأس من ذهب" (Cup of Gold سنة 1929 وهي جامعة بين التّاريخ والمغامرات وتروي مآثر القرصان الشّهير "هنري مورغان" الذي استولى على بناما سنة 1670.) ولكنّها لم تَنل النّجاح المتوقّع.ثمّ جاءت رواية"بحر الكورتيز"(The Sea of Cortez) و"البحث عن إله مجهول"(To a God Unknown). ولكنّ الرّوايات الثّلاث مرّت في صمت ودون اهتمام يُذكر من القرّاء والنّاشرين وستكون ضربة البداية الحقيقيّة سنة 1935مع "شقّة تورتيلا" (Tortilla Flat) من صنف روايات مغامرات الجوّاليين(roman picaresque )[3]  كتبت بأسلوب ساخر وبها سيُعرف ستاينبيك كاتباً جديراً بالقراءة.(الكاتب الحقيقي ليس الذي يؤلّف الكتب بل من يمتلك قرّاءً). وتدور أحداث الرواية في ريف كاليفورنيا وتحديداً بمنطقة مونتيري(Monterey) زمن الحرب العالميّة الأولى وتروي مغامرات مجموعة من الشباب الريفيين يستمتعون بالحياة والنّبيذ في شقّة تورتيلاّ. تحوّلت الرواية إلى فيلم سنة 1942 واستعان المخرج فيكتور فليمينغ( Victor Fleming ) بستاينبيك ليجمع له متسوّلي قرية مونتيري لتقمّص شخصيات الرّواية.

   جامعاً بين الكتابة والصحافة اشتغل ستانبيك مراسلاً حربيّاً لصحيفة(New York Herald Tribune) أثناء الحرب العالميّة الثّانية وحرب الفيتنام واستطاع أن يُسلّط الأضواء في كتاباته على الصراع الاجتماعي والإضرابات في كاليفورنيا.

أصدر سنة 1932 "مراعي الفردوس"(Pastures of Heaven) وهي عبارة عن مجموعة أقاصيص مترابطة وتدور أحداثها في مونتوري بكاليفورنيا حيثُ يكتشفُ قبطان إسباني جمال الوادي المسمّى بمراعي الفردوس أثناء ملاحقته لعشرين عاملاً من الهنود الحُمر الذين ارتدّوا عن الدّين المسيحي واختفوا في المكان المذكور. وثمّة من يعتبر الرواية بداية نضجه الفنّي. غير أنّ رواية "فئران ورجال" 1937 ( Of Mice and Men)ذات الطّابع الاجتماعي النّفسي[4] هي التي ستفتح له طريق الشّهرة الحقيقيّة باعتبار تحويلها إلى مسرحيّة من قبل الكاتب جورج كوفمان وفوزها بجائزة الدّراما  ثمّ  تحوّلت مرّة أخرى إلى فيلم. وتحكي قصّة جورج ميلتون مزارع متشرّد وصديقه بطل الرّواية "لينيّ سمول" العملاق ولكنّه مختلّ ذهنيّا(تأخّر في النموّ الذّهني) والذي يعشق الأرانب ومُداعبة الأشياء النّاعمة وكأنّه لا يزالُ طفلاً رغم هيكله العملاق.

العنوان "فئرانٌ ورجالٌ" استوحاه الكاتب من بيتٍ للشّاعر الاسكتلندي يقول فيها:"أفضلُ الخُطط المُبرمة بين الرّجال والفئران لا تتحقّق عادةً" وهي تلخّص فكرة الرواية القائمة على الفشل المُسبق وانهيار الحُلم الأمريكي كما يستبق العنوان النهاية السّوداء التي سيلقاها البطل "ليني" بعد هروبه من المزرعة لأنّه داعب زوجة "كورلي" واعتصرها بين ضلوعه حتّى كسر عظامها وأُخذ الأمر على أنّه اغتصاب،رغم إشارات الرواية بكون "ليني" لا يستطيع التحكّم في رغباته واندفاعاته. مفتاح الرواية في رمزية النّهاية الغامضة لأنّ القتل جاء برصاصة من صديق "لينيّ" "جورج" ولا ندري هل هي رصاصة الرحمة لإنقاذ "ليني" من المعاناة أم رصاصة اليأس؟   سياق الرواية فترة الكساد الكبير نتيجة الأزمة الاقتصادية لسنة  1929 وما نجمَ من تفاقم البطالة والبؤس بسبب تفويت المُزارعين في أراضيهم نتيجة الجفاف وعدم القدرة على سداد الديون البنكيّة.  رغم السياق الواقعي الاجتماعي تتناول الرواية بعض الأبعاد النّفسية من قبيل مفهوم الصّداقة الذي يبرز من خلال الجمع بين جورج النّحيل الذكيّ وليني العملاق الأحمق والصداقة في الرواية بمفهومها النّفسي الفلسفي هي إحدى مسالك الخلاص من العزلة والضّياع: ضياع ليني المُطارد بسبب حماقاته وتشرّد جورج بحثاً عن الأمل في حياة كريمة بالإضافة إلى ذلك تطرح الرواية من الوجهة الفلسفية النفسيّة تصوّرا قاسياً وجذريّاً لمفهوم المسؤوليّة المُتمظهر في دور جورج الصديق والحامي والمسؤول عن "ليني" غير المسؤول عن رغباته وتصرفاته.

وجدير بالنّظر أنّ المِحور الّذي تنعقد عليه أغلب القضايا التي يعالجها ستانبيك في أغلب أعماله هي تعرية زيف الحُلم الأمريكي في أجلّ مظاهره وتهاوي القيم أمام شراسة الواقع ووحشيّة رأس المال.

في سنة 1962 نال جائزة نوبل عن سبعةٍ وعشرين كتاباً جامعة بين الرواية الواقعيّة والرومنسية والمجموعات القصصية. وجدير بالنظر أنّ عالم كتاباته يكاد ينحصر في وادي ساليناس أو بالساحل الخليجي من ولاية  بكاليفورنيا،وهو ما يذكّرنا تقريبا بالكاتب الإرلندي "جويس" الذي لم تُفارق كتاباته مدينة "دوبلن" وقال عنها في إحدى المحاورات:"سأظلّ أكتُب دوبلن حتّى وإن اختفت من على وجه الأرض أمكن بناؤها حجرةً حجرةً من صفحات كتابي"

رواية "اللؤلؤة" والحُلم الذي تحوّل إلى كابوس:

تقول إحدى فصول الرواية:"البلدة إنّها شيء شبيه بحيوان المستعمرات،للبلدة جهازٌ عصبيٌّ ورأسٌ وكتفان وقدمان...البلدةُ تنهضُ بذبذبات هذا الخبر:عثر كينو على جوهرة العالم"[5].

بهذا الخبر تبدأ رحلة الصيّاد المكسيكي كينو في تحقيق الحلم بعد أن عثر على اللؤلؤة بوصفها هدية من السّماء واستجابة لدعاء الربّ. اللؤلؤة ستكون ضمانا للمستقبل والدّواء الشّافي للإهانات لكن اللؤلؤة التي أيقظت الأحلام أيقظت في نفس الوقت الأرواح الشّريرة والأنفس المطبوعة على الجشع والكراهية. تبدأ رحلة بيع اللؤلؤة بالثّمن الذي يليق بها وتبدأ معها رحلة الشّقاء،يُسافر كينو مع زوجته جوانا وابنه الرضيع كويوتيتو إلى العاصمة لبيع اللؤلؤة فيتعرّضُ لمحاولة قتل ويضطرّ في إطار الدّفاع عن نفسه لقتل رجُلٍ يحترقُ كوخه ويتحطّم زورق الصيد الذي ورثه عن أبيه ويغرقُ في هستيريا اللعنات التي أصابته بسبب اللؤلؤة.يجدُ نفسه فجأة مُطارداً يترصّده اللصوص والمُجرمون . بعد أيّام يعود إلى القرية وهو يحمل جثّة ابنه الذي قُتل بالرصاص و بعد أن فقد كلّ شيء،يصعدُ إلى التلّ المُطلّ على المُحيط ثمّ يرمي باللؤلؤة في البحر من جديد ويتلاشى الحلمُ وتصمتُ الموسيقى إلى الأبد.

صدرت الرواية سنة 1947 وقد اقتبسها من حكاية شعبيّة مكسيكيّة قديمة،تدور أحداثها على خليج كاليفورنيا.ولعلّ بنيتها السردية الحلقية (انتهت بمثل ما ابتدأت به) كافية لكشف المنحى القيمي العبثي للرواية إذْ تذكّرنا بالقول المأثور عن رحلة"البحث عن قيم أصيلة وحقيقية في ظلّ قيم اجتماعية زائفة".
قِيل إنّ الكاتب السّنغالي سومبان عثمان في رواية "الحوالة"[6] قد تأثّر بـ"لؤلؤة" ستانبيك ولذلك نجدُ تشابهاً غريباً في البنية الحدثيّة وسيرورة السّرد والقضايا المُعالجة.
تحوّلت الرواية في نفس سنة النّشر1947 إلى فيلم بالعنوان الأصلي "The pearl" للمخرج المكسيكي ألفريد زاكاريا وفي نسخة أخرى"La perla" للمخرج المكسيكي أيضا إيميليو فرنانديز.

"عناقيد الغضب " وتبدّد معالم الحُلم والأمل:

قال عنها المخرج جون فورد:"لو لم يكتب ستانبيك سوى رواية عناقيد الغضب لكان كافياً لنستفيق على سراب الحُلم القديم". وقال عنها كاتبها:"لقد فعلتُ كلّ ما في وسعي لأحطّم أعصاب القارئ إلى أقصى حدّ،ذلك أنّني لا أريده أن يكون راضياً".

 الرواية  The Grapes of Wrath   صدرت سنة 1939 ونحت الكاتب عنوانها باقتراح من زوجته"كارول" في إشارة إلى قصيدة للشاعرة الأمريكيّة Julia Ward Howe بعنوان "معركة النّشيد من أجل الجمهوريّة" والتي تقول إحدى مقاطعها:

"لقد رأت عيناي مَجد مجيء الرَبّ
تدوس قدماه أجنّة الكروم حيثُ تستكنّ عناقيدُ الغَضب"

   العُنوان وما يحمله من فائض استعاري ستُستلهمُ منه القصائد ولوحات الرسم والأغاني والأفلام ولمَ لا أسماء الحروب[7] والانتفاضات.

   تستوقفنا الجملة الأولى في فاتحة الرواية وهي تقول:"سقطت الأمطار الأخيرة على الأرض الحمراء على جانب من الأرض الرماديّة في ريف أوكلاهوما برفق،ولم تنفذ إلى أعماق التّربة المتشقّقة"[8]. وككلّ البدايات[9]،بإمكاننا عبر التّكثيف أن نقرأ أحداثاً مستكنّة في فواتح الفصل الأوّل من الرّواية ونعيش لحظة أفق الانتظار (L’horizon d’attente) من خلال سياقٍ محفوف بالأسئلة والألغاز. والأمطار التي لم تروِ الأرض ولم تنفذ إلى الأعماق تضعنا في السياق العام للرواية وهو الجفاف المستمرّ و المحاصيل التّي أتلفتها عواصف الرمال (Dust Bowl)وهو ما سيجبر فلاّحي أوكلاهوما على التفريط في أراضيهم بأسعارٍ بخسة لسدّ القروض البنكيّة. بيد أنّ أملاً ما يلوح في الأرض البعيدة(كاليفورنيا) ،أرض الجنّة والخلاص ومن الأمل تبدأ رحلة السّفر  والهجرة الجماعيّة بحثاً عن فُرص العمل والحياة الكريمة.

بداية من الفصل الثّاني يتركّز السّرد عبر التّبئير على عائلة جواد وتحديدا توم الخارج من السّجن وقد التقى بالواعظ "جيم كاسي" وقرّرا الرحيل إلى كاليفورنيا بعد أن وجدا أوكلاهوما خراباً وقفاراً. تبدأ رحلة الأمل إلى الأرض الموعودة في الغرب فيأخذ توم جواد الطريق 66 وهنا تبدأ المعاناة تتفاقم في شكل ميلودراما تصل إلى ذروتها في النّهاية،يموت الجدّ والجدّة تعباً وعطشاً في الطريق عند عبور الصحراء،وتُغادر كوني الأسرة في حين تواصل البقية الرّحيل وعند الوصول تبدأ قصصٌ أخرى من المعاناة وينكشفُ السّرابُ الخادعُ. تُدرك عائلة جواد أنّهم لن يكسبوا شيئاً بسبب كثرة العمال المُهاجرين ويقضون العيش في المخيمات ويتبدّد الأمل نهائيّاً عندما يجد توم جواد نفسه مُطاردا بسبب جريمة قتل فيختفي أياما في حقول القطن ثمّ يقول وداعاً لوالدته وقد وعدها بالدفاع عن المظلومين حيثما كانوا فيُخاطبها:" سأكون في الجوار. في الظلام. سأكون في كل مكان تستطيعين النّظر إليه. أينما كان هناك قتال لكي يتمكن الجياع من الأكل. سأكون هناك. أينما تواجد شرطي يضرب رجلاً. سأكون هناك".

   مثل هذه الجُمل في الرواية كانت رسائل حمراء مُنذرة ألّبت الصحافة اليمينيّة على الكاتب وعارضت الرواية بمنطق المبالغة والتّشويه.

غير أنّ النهاية التي لم تهضمها ذائقة بعض النقاد وقتئذ ورأوا فيها تصعيداً دراميّاً Dramatisation مُبالغا جاءت وكأنّها صفعة صادمة لتُجهز نهائيّا على الحلم الأمريكي المزعوم:"داهمت الأمطار الكوخ الذي يأوي إليه عائلة جواد في المخيّم،وكانت روزا شارون في حالة مخاض وقد أنجبت طفلاً ميّتاً ولكنّ الماء غمر المكان  فلجؤوا إلى حظيرة مُجاورة وهنا تُفاجئ العائلة بوجود صبيّ وعجوز نحيل يحتضر من الجوع والمرض فتُخرج روزا ثديها يقطر حليبا وتُلقمه إلى الشيخ لتُعيد إليه بعض أنفاس الحياة"[10].

رأى الدّارسون أنّ النّهاية مستوحاة من الأساطير القديمة وتحديداً من حكاية الصّدقة الرومانيّة[11](Caritas romana) وتروي قصّة الفتاة "بيرو" التي كانت تُرضعُ أباها سرّا في السّجن كلّما زارته بعد أن حُكم عليه بالإعدام جوعاً ثمّ نجدُ تنويعات مشابهة لنفس الحكاية في أساطير أخرى ونقرأ تأويلات عديدة للمشهد الأخير الذي انغلقت به الرواية منها أنّ الكاتب تلاعب بالقيم بواسطة المُحاكاة الساخرة في سبيل الإعلاء من منزلة الأمّ وإعلاء الوازع الإنساني على حساب الدّين والأخلاق والمواضعات.

   ربّما منزلة الرواية في عصرها تعود إلى تعرية الحقيقة القاسية كما يقولون وكشف زيف الحُلم وأكذوبة الألدورادو[12] ( eldorado) كما في الأسطورة القديمة. ولذلك تباينت المواقف في تصنيف "عناقيد الغضب" بين الواقعيّة الاشتراكية والواقعيّة الاجتماعيّة رغم أنّ الكاتب نفسه قال في إحدى إجاباته عن تأثير  الماركسيّة في كتاباته:"رواياتي تقوم على قضايات ذات صلة بالإصلاحات الاجتماعيّة ولا شأن لها بالشّعارات السياسيّة،إنّها قصص الإنسان ولا غير"

(My novels on the theme of social reforms are not political treaties, but they are first and foremost human stories)

الجملة الذهبيّة في الرواية والتي تتكرّر بصيغ مختلفة هي:
" "السّماءُ تتعاظمُ سواداً والمَطرُ يخفُّ"  The sky grew darker and the rain thickened"

وقد رأى فيها كثيرون[13] استشرافاً للحرب الموشكة على الانفجار والمستكنّة في الأفق وأوّلوا الجملة باعتبارها الأكثر انسجاما مع رمزية العنوان : فالغضب المكبوت والمتراكم مثل العناقيد سينفجر حتماً وسيعصف الطوفان بكلّ شيء.

   ورغم حصول الرواية على جائزة بوليتزر[14]  في سنة 1940 إلاّ أنّها أحدثت صدمةً وتعرّضت إلى حملة تشويه من صحافة اليمين متهمّة الكاتب بالمبالغة والتزيّد ومنعت بعض المؤسسات التعليميّة تداول الرواية وهو ما زاد في شهرتها وطلبها إذْ بلغ معدّل الشراءات 2500 نسخة يوميّاً واعتبرت من ضمن الكلاسيكيات العالمية شأنها شأن"الجريمة والعقاب" و"الحرب والسلام" و"لمن تقرع الأجراس".

   وتُشكّل العنْونة ظاهرة لافتة في أعمال ستاينبيك إذْ عادة ما ينحتُ التّسمية من قصائد قديمة أو أقوال مأثورة مثلما فعل في رواية  The Winter of Our Discontent(1961) والتي اقتبس عنوانها من السّطريْن الأوّليْن لمسرحيّة شكسبير "ريتشارد الثّالث" حيثُ يقول: " Now is the winter of our discontent / Made glorious summer by this sun [or son] of York"."

   ولا نروم الخوض هنا في اختلافات الترجمة للرواية بين سميرة عزّام التي عرّبتها تحت عنوان"حين فقدنا الرضا" ومحمود مسعود بعنوان"شتاء الأحزان" وفي نسخة ثالثة بعنوان"شتاء السّخط" للمصري نور الدين مصطفى.

   وتنعقد محاور الرواية على تحوّل شخصيّة إيثان ذي الأصول الأرستقراطيّة من النّزاهة إلى الفساد والتّحيّل بعد أن فقد والده ثروته وصار إيثان يعملُ بقّالاً. تدفعه أطماع زوجته ماري إلى التحيّل والسّرقة أملاً في استعادة ثروته فيُخطط لسرقة المصرف البنكي ثمّ يدسّ أكذوبة حول صديقه الإيطالي مارولو بكونه مُهاجراً غير شرعيّ فيُرحّل هذا الأخير ويفوز إيثان بمتجره على أساس أنّه أمين وجدير بالثقة وتتوالى عمليات التحيّل واللصوصيّة والصفقات السريّة وفي الفصل الواحد والعشرين من الرواية يُفاجئنا الساردُ باحتفال  زوجة إيثان في البيت بفوز ابنها في مسابقة أدبيّة وقد فاجأ الأمرُ كذلك الأب إيثان فيدخلُ على ابنه ويُخاطبه:

"لم يُتح لي الانفعال الذي نحنُ فيه أن أقول لك كمْ أنا فخورٌ بك يا بُنيّ " ثمّ يُواصل:"وأصارحُك بأنّي لم أكنْ أعتقدُ أنّك تُجيدُ الكتابة...وإنّي مُندهشٌ بقدر ما أنا مسرورٌ،متى ستقرأ مقالتك على النّاس؟"

تُرسل طائرة خاصّة لنقل الابن الفائز وتُقرأ المقالة بعنوان:"أحبّ أمريكا" وتتناقلها القنوات التلفزية بيد أنّ الأب الثريّ الذي بإمكانه شراء كلّ شيء يجدُ نفسه عاجزاً عن طمس الفضيحة المتمثّلة في المقال المسروق من خطابٍ قديم لهنري كلاي وآخرين وعند مواجهة ابنه ''ألن" بالحقيقة يكتشف أنّه لا يشعر بأيّ ذنبٍ ويقول له:"أنّ الجميع يغشّون ويكذبون" يعتزمُ الانتحار في الأخير غير أنّ ابنته تدسّ له طلسم(تعويذة) في جيبه وتنتهي الرواية بجملة مُلغزة تقول:" وخبا الضّياءُ وانطفأت الشّعلة".

في "أفول القَمر"[15](The Moon Is Down)  أيضاً استلهم العنوان من حوار  في مسرحية ماكبث لشكسبير  في سياق التّحضير من قبل القائد الاسكتلندي لاغتيال الملك "دوكان" والجلوس على عرشه فيجري الحوار التالي:" « How goes the night, boy? »" « The moon is down; I have not heard the clock. » 

أين نحنُ من الليل أيّها الصبيّ؟ فيُجيب: لقد أفلَ القمر ولم أسمع السّاعة قد دقّتْ بعدُ .

الرواية تحكي قصة هجوم جيشٍ غازٍ على بلدة ساحليّة واندلاع المقاومة وقد تأوّل النقاد الرواية بكونها إشارة إلى النّازية التي أطبقت الظّلام على الشّعوب لا سيما وأنّ الرواية قد وُزّعت خلسة في عديد البلدان الأروبيّة المحتلّة من الفاشيّة ثمّ تُرجمت إلى الفرنسية تحت عنوان"ليالي سوداء".

ستانبيك والسّينما:

كتب ستاينبيك سيناريوهات عديدة للسينما من أهمّها الفيلم الشهير "فيفا زاباتا" للمخرج إيليا كازان وتدور الحكاية حول قائد ثورة الفلاحين في المكسيك "إيميليانو زاباتا" سنة 1910 ضدّ الدّيكتاتور "بروفيريو دياز" ثمّ كتب أيضاً "زورق النّجاة"LifeBoat[16] للمخرج ألفريد هيتشكوك و"المُهر الأحمر" The red Pony  وقد أخرجه "لويس ميلسوين".

   ولو توقّفنا قليلا عند "عناقيد الغضب" المُحوّلة إلى السينما بإخراج "جون فورد" وبطولة هنري فوندا وجون كارادين لألفينا تغييراً بين الرواية والفيلم إذْ حذف المخرج النّهاية القاسية والتي لم تتقبلها الذائقة الأمريكية في ذلك الوقت وهي مشهد روزا التي تُلقِمُ ثدييها إلى العجوز الذي يحتضرُ جوعاً وابتدع  "جون فورد" نهاية أخرى متفائلة تُظهر الأمّ وهي تركب الشاحنة أملاً في رحلة جديد لاستعادة الحُلم.

وعندما اشترى المنتج "داريل زانوك" حقوق الرواية لتحويلها إلى فيلم أرسل مُتحرّين(Des détectives ) لمعاينة الأحياء الفقيرة والمتضررة بالبطالة و الفقر من الكساد الاقتصادي للتأكّد إن كان ستاينبيك قد بالغ وأفرط في الوصف،بيد أنّ التقارير التي وصلته مع الصّور قالت أنّ "الكاتب لم ينقل الحقيقة كما هي بل لطّف يعضها  وأخفى الكثير منها".

وما بعد "العناقيد" :

إذا كان عنوان الرواية قد نُحت من مقطع لقصيدة قديمة فإنّ متْنها الفنيّ قد تناسلت منه عديد الإبداعات الفنيّة في شتّى الاختصاصات فرُسمت لوحات كثيرة تُمثّل مشهد المرأة المُرضعة في آخر الرواية وكتب المغنّي وعازف الغيتار الأمريكي أغنية"The Ballad of Tom Joad"[17] بعد أن شاهد الفيلم وأصدر المغنّي بروس سبرنقستر ألبوم سنة 1995"The Ghost of Tom Joad" ويقول في مقطعه الأوّل:

رجالٌ يرحلون على طول الطّريق
ذاهبون إلى مكانٍ ما حيثُ لا رِجعةَ أبداً

أمّا تعليميّا فبُرمجت الرّواية في مقرّرات دراسيّة لبلدان عديدة واتّخذت منها أسناداً لاجتياز المناظرات.
قال ستانبيك في خطابه على إثر فوزه بجائزة نوبل للآداب سنة 1962:"الأدبُ لا يكتبه القلّة للقلّة،وصُنّاع الأدب عليهم مسؤوليات وواجبات كبرى،أهمّها تبديدُ الظّلام،وتطهيرُ النّفس،والتّأكيد على طاقة الإنسان والإشادة بقدراته من مُنطلق الإيمان بقُوى البشريّة الخلاّقة الّتي سوف تبقى وتصمد وتسود..."[18].

 

[1]  من أشهر أعماله: Platoon  و Born on the Fourth of July

[2]  نُحيل هنا على دراسة بالأنقليزيّة تناولت أعمال الكاتب تحت عنوان :جون ستاينبيك،صوت الأرض : John Steinbeck,the voice of the land.Keith Ferrell

[3]   Picaro   بالإسبانية تعني "البائس أو المتشرد" ونجد ترجمات عديدة لهذا الجنس الأدبي منها الرواية الشطارية أو الرواية الصعلوكية أو رواية المتشردين، وهي جنس نشأ في إسبانيا في القرن السادس عشر ويقوم عادة على رواية مغامرات الأبطال البائسين والمُتشردين

[4]  وُضعت الرواية ضمن المقرّر الدراسي الأمريكي والأنقليزي إضافة إلى رواية"اللؤلؤة".

[5]  رواية"اللؤلؤة" لجون ستاينبيك تعريب يوسف إبراهيم الجهماني،دمشق،دار حوران للطباعة والنّشر،الطبعة الأولى 1999، ص29

[6]  تنهضُ رواية"الحوالة" على جملة يكررها البطل إبراهيم دينغ وهي:" مضيعة للوقت أن تقول للناس الحقيقة في هذه الأيام" ثمّ تبدأ رحلة المعاناة في صرف الحوالة التي وصلته من فرنسا وهو لا يملك بطاقة هويّة.

[7]  عناقيد الغضب هو الاسم الرمزي الذي أطلقه الاحتلال الإسرائيلي على الهجوم العسكري الخاطف على لبنان سنة1996

[8]  عناقيد الغضب. جون ستاينبيك،ترجمة سعد زهران،مصر ،دار الشروق،2008.ص5.

[9]  من البدايات الفنيّة المثيرة لأفق انتظار القارئ نذكر على سبيل المثال:" إبريل ،شهر الغبار والأكاذيب" في رواية "ثرثرة فوق النيل" لنجيب محفوظ وبداية "الجريمة والعقاب" لدستوفسكي وهو يقول على لسان الراوي:"في الأيّام الأولى من شهر تموز...خرج شابٌّ مع نهاية الأصيل،خرج من الغرفة الصغيرة التي كان يسكنها في زقاق س...واتّجه نحو جسر ك...بطيء الخطى كأنّه كان مُتردّداً"

[10]  اعتمدنا الترجمة والتّعليق عن النصّ الأصلي بالأنقليزية

[11]  La charité Romaine

[12]  في الأسطورة الإسبانيّة القديمة هي أرض خرافية يوجد بها الذهب والأحجار الكريمة وليس من الغريب طبعاً أن تُسمّى بعض مقاطعات كاليفورنيا بالألدورادو.

[13] في إطار التناول السوسيولوجي والتاريخي للرواية نُحيل على المقال التالي : Silhol Robert. Les Raisins de la colère et l’histoire : conditions sociologiques de production. In: Revue Française d'Etudes Américaines, N°53, août 1992. Séquelles de guerres. pp. 281-292;

[14]  جائزة بوليتزر (بالإنجليزية: Pulitzer Prize)‏ هي مجموعة من الجوائز والمنح تقدمها سنويا جامعة كولومبيا بنيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية في مجالات الخدمة العامة والصحافة والآداب والموسيقى

[15]  نجد ترجمات عربية مختلفة للرواية من قبيل: "حين فقدنا القمر"  و"في مغيب القمر" أو "ثمّ غاب القمر" لحسين مؤنس وغيرها.

[16]  اقتبس عنه صلاح أبو سيف فيلم "البداية" بطولة جميل راتب.

[17]  في البداية "البالاد" نصّ سردي يُنشد على خلفيّة موسيقيّة ويتكوّن من 13 سطراً في القرن التاسع عشر صار يعني شكل بطيء من موسيقي وأغاني الحبّ الشعبيّة.

[18]  ترجمة شخصية من فيديو خطاب ستاينبيك المنشور على موقع " The Nobel prize ". الرابط: https://www.nobelprize.org /prizes/literature/1962/ steinbeck/prize-presentation/

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة