إنشائية القِيَم في ليليات رمادة لواسيني الأعرج: تسريد الوباء على إيقاع الموسيقى – د. عبد الباقي جريدي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

مقدمة :
تبدو الرواية المنجزة مؤخرا للرّوائي الجزائري واسيني الأعرج  الموسومة بـــــــ ليليات رمادة من بين النُّصوص التي تثير أكثر من إشكال، فبالإضافة إلى نسختها الرّقمية المُتَاحَة على شبكة التّواصل الاجتماعي التي كُتِبَت مُنَجَّمَة ومصحُوبة بتعليقات القُراء فإن النّص الذي صدر حديثا -  سيصدُرُ قريبا عن دار الآداب اللبنانية في مطلع شهر أكتوبر- [1] قد تغير كثيرا عن نسخته المُنجَّمة ليتحول في بنائه ونهايته وأشكال تفاعله .

و يُحيلُ  النّص الرّوائي أساسًا من خلال عمليَّات تراكُميَّة مُتنوِّعة على دلالات وقيم مُختلفة ترسم ملامح النّص وتفضح عُمقه الإيديولوجي الذي يحتاجُ إلى إنعام وتفحُّص لكشف ما يحمله من أفكار. ولكنّ هذه الأفكار تظلّ دائما محكومة بما يُحيلُ عليه النّص المحايث أو العتبات هي رؤى  حمّالة للدَّلالات والمعاني كاشفة لمنظُومة القيم يصدر عنها النّص .إذ لا يُمكن قراءة الواقع من منظور واحد .هو أشبه بمُفترق طرق للمعايير والقيم المتداخلة والمتشابكة ....ويتمثّلُ دور الروائي في تفكيك وتفصيل هذه التَّقاطعات واختزالها إلى عناصرها العميقة والأساسيّة  . [2]

الموسيقى قيمة ثابتة و هندسة بناء وتشكيل :

قامت ليليات رمادة على شاكلة عديد النّصوص الرّوائية لواسيني الأعرج على استدعاء الفنون وخاصة الموسيقى إذ بنيت في عناصرها الداخلية والفصلية على إيقاعات الموسيقار العالمي  فريديريك فرانسوا شوبان ( Frédéric François Chopin)‏فقد بني السّارد نظام ليليّاته على إيقاعات  ترتبط بالموسيقى وتستدعي بشكل من الأشكال ليليّات شُوبان وهو استدعاء مداره مقطوعات موسُومة بنفس الاسم " ليليات شوبان "وهي مقطوعات عزف منفرد على البيانو عددها إحدى وعشرين معزُوفة عزفها ما بين 1827/1864 .

هذه الأوبة بالزّمن وبالنّص إلى  فضاءات المُوسيقى العالميّة وما يُمكن أن تُحيل عليه من دَلاَلَات ومَعَانٍ تنفتحُ على العزف وعلى آلة البيانو والعوالم الرُّومانسيَّة الحالمة لموسيقى شُوبان وخاصّة في ليليّاته تسم النص بطابع مميز وترفده بإيقاعات جديدة تجعل النّص في حاجة إلى العودة إلى المقطوعات ليكتمل المشهد .وهو ما يجعل العلاقة  متينة ومتمكّنة  بين ( السرد / العزف ، الرواية / الموسيقى ، واسيني/ شوبان ...) إذ يتحدّث واسيني دائما عن هذه العلاقة المكينة بين الرّواية والفُنُون يقُول في هكذا تحدّث واسيني الأعرج  ” أحببتُ الموسيقى والفن وظلاّ يُشكّلان خلفيّة أساسيّة لكتاباتي التي احترفتها شيئا فشيئا …المُوسيقى إلى اليوم هي في أعماقي" [3].

وهو ما يطرح جملة من الأسئلة والإشكاليّات وتحديدا. علاقة الرّواية بالمُوسيقى في أدب واسيني الأعرج عامّة و بالفنون السّمعية والبصرية .فقد ظل صاحبها مسكونا بهذا الهاجس يحضر بشكل جلي في استدعائه للفنون إذْ يتواصل مع هذا النّص شغفُ الكاتب بالموسيقى بدْءا بالعناوين الفرعية .

والطّريف أنّ صاحب النّص يُرفق مع كل ليلة عنوانا فرعيا هو في الأصل إحالة على مقطوعات موسيقية مُرقمة  لم يعتمدها مُجرّد خلفيّة للنّص ولكنْ أزعُمُ ومن الزّعم التّأكيد أنّ المُوسيقى مثلت إيقاعا رئيسيا للعمل الروائي ليس يخلو من مغامرة من لا يحذر مآزقها لا يمكنه أن يأمن الوقوع في مزالقها  .وكأنّ النّص لا يكتمل إلا بالتّفاعل مع هذه الوسائط والاستماع إلى ليليات شوبان موسيقى تصويرية للنص المكتوب.

ورغم أنّ الكثير من الدِّراسات إنْ لَمْ نَقُل أغْلَبها تعتَبِرُ المُوسِيقَى فنّا زَمنيّا لاَ عَلاَقَةَ لَهُ بِالفَضَاء السردي وبعملية الكتابة  في حين تؤكّد الدّراسات الحديثة خِلافا لذلك .

وتبدُو العَلاقةُ بيْن المُوسِيقَى والرّواية عَلاَقَة مَتِينَة وَمُتَشَعِّبة. فـــــــــــ” مُنْذُ بِضْعِ سَنَوَات بَدَأَ النَّقدُ يَتَعَرَّفُ إلَى قِيمَةِ العَمَل الخَيَاليِّ فِي ارْتِيَاد أَبْعَاد الزَّمَن ، وَإِلى العَلاَقَات الوَثِيقَة بَيْنَ فَنّ الرِّوَايَة وَفنّ المُوسِيقَى الذي ينتشرُ هُو أَيْضًا في المَدَى والزّمن وأبعاده ….أكثر المشاكل المُوسيقيّة لها ما يُقابلُها في العَمَل الخَيَالي ، وأنّ البناء المُوسيقي له أيضا تطبيقاته الخياليّة " .[4]

فيسعفه بإمكانيّات قرائيّة جديدة تبني روابط وعلاقات تسم النّص بالتّعدد الصّوتي البولُوفوني الذي يسم النص بمنظومة من القيم من قبيل .الحُرية ، الحب ، الالتزام ، التّضحية ، الإصرار والمُقاومة .

  • قراءة في العنوان ."رمادة "الموت والوباء .

اتخذت الرواية من اسم رمادة عنوانا رئيسيّا وهو ما يشدّ النّص مُنذ البداية إلى أهمّية العنوان لا يقتصرُ دورُه على الجانب الفنّي فحسب ُ بل له كذلك أبعادٌ تجاريّة وتسويقيّة " فالعنوان للكتاب كالإسم للشّيء ، به يُعرَفُ وبفضله ِيُتداولُ ، يُشارُ به إليه ، ويدُلّ به عليه ، يحملُ وسم كتابهِ ، وفي نفس الوقت يسمه العنوان – بإيجاز يناسبُ البداية – علامة ليست من الكتاب جُعلت له ، لكي تدُلّ عليه " [5].    

ولا تقتصرُ وظيفةُ العنوان عامّةً والعنوان الرّوائي بصفة خاصّة على مُجرّد التّسمية أو التعّيين .وإنّما يضطلعُ العِنوان بالوظيفة الإغرائيّة ( التي يسْعَى من خلالها الكاتبُ إيقاعَ المُتلقيِّ في حبائلِ النّص وتسهيل عَمَليّة التّرويج ) والتّواصلية  (باعتبار القيمة المركزيّة  للعنوان . فهو على اختزاله يكتسبُ كثافة دلاليّة عالية. ممّا يُحقِّقُ التّواصل ويُيسّرُ عمليّة الإبلاغ أكثر ما يُمكنُ من المعنى بين الباثّ والمُتقبّل) والتّداوليّة ( التي تجعلُ من العنوان مجالاً مُشتركًا يختزلُ النَّص ويُحيلُ عليه باعتبارهِ فضاءً تواصُلياًّ لحظةَ مُباشرةِ المُعاين للعنوان وتأثُّره به بمثابة خطاب مُوجّهٍ تسكنهُ أكثر من غاية تحكمُه سياقات تخاطبيّة مُحدّدة  ) .

وهو ما يبعثُ في النّفسِ الرّغبةَ في الكشف عمّا وراء العنوان ،لأنَّ العنوان ليس سوى عتبةٍ من عتبات البناءِ . وعلى المُتقبِّلِ أنْ يمُرَّ بها إلى المِعمارِ الكاملِ للنَّص وأنْ يتفطّنَ إلى مزالقِ العنوان . فمنْ لا يتفطّنُ إلى العتبةِ الكُبرى يتعثَّرُ بها ويظلُّ خارجَ النّص على حدّ عبارة سعيد يقطين[6].

فللعنوانِ مكانةٌ خطيرةٌ ومُميَّزة ٌفهو بمثابةِ الوجهِ الذي يُطالعُ بهِ الكتابُ مُريديه وهو أشبهُ بالغُرّة على الجبين ،لأنّهُ أوّلُ ما يظهرُ من الكتابِ .

وقد أحال العنوان  على الشخصية الرّئيسيّة في النّص تنهضُ في الحقيقة بدور مزدوج نقل الأحداث والمشاركة فيها .ليتسم النص بالسّرد الذاتي المحكوم بنبرة الشّخصية الناقلة لرؤاها وتصوراتها. فرمادة إشارة إلى عالم الأمراض والأوبئة واستدعاء لعام الرماد في تراثنا العربي والإسلامي فقد جاء في طبقات ابن السعد " في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقعت بالمدينة وما حولها من القرى مجاعة شديدة، وكان ذلك في 18هـ بعد عودة الناس من الحج، فحبس المطر من السماء وأجدبت الأرض، وهلكت الماشية، واستمرت هذه المجاعة تسعة أشهر، حتى صارت الأرض سوداء فشبهت بالرماد " [7].

وتُقدّم الشخصية نفسها في الصّفحة السّابعة قائلة " لمن لا يعرفني، أنا رمادة. لا يهم اسم أبي ولا جدي. الأول قتلني بسكينة الجهل واليقين الصارم، الثاني سجنني  في تاريخ لم يفدني في شيء. صَبُورة كما العيدان القديمة. صلبة كالحديد. "ص[8]

وتسعفنا المعاجم  وخاصة القديمة  بعديد المعاني التي تصل الرِّواية بدْءا بالعنوان بدلالات الموت والفناء والهلاك فقد جاء في اللّسان " الرمادة الهلاك... وعام الرَّمادة: معروف سُمّي بذلك لأَنّ الناس والأَموال هلكوا فيه كثيراً؛ وقيل: هو لجدب تتابع فصيّر الأَرض والشَّجر مثل لون الرماد، والأَول أَجود؛ وقيل: هي أعوام جَدْب تتابعت على الناس في أَيام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه وفي حديث عمر "

منذ البدء ينفتح النص على دلالات الأوبئة والمجاعات والكوارث الإنسانية ليحيل على زمن الكورونا الذي شكل فضاء للكتابة والتدوين باعتباره زمنا حرجا هو الزمن الحقيقي الذي كُتب فيه النص زمن الموجة الأولى من وباء كوفيد 19حيث اضطر الناس للبقاء في البيوت فلم يكن من الكاتب إلا أن يستعين بالكتابة وسيلة للمقاومة والتفاعل مع القراء .
التصدير. قيمة الحرية :

"لا أنتظر شيئا، ولا أخاف من شيء، فأنا حر."    

نيكوس كزانتزاكي

يُمثّل التّصدير  ( Epigraphe )في الرّواية ظاهرة مُتواترة ومُطّردة خاصّة في أعمال واسيني الأعرج. وهو ما يَسِمُ النّص بحواريّة تجعلُ من فضاءات الكتابة فضاءات مُتداخلة .فنصُّ التّصدير طيّع بالضّرورة ينقادُ إلى المتن يعضُده ويفي ببعض حاجاته .ففضاء التصدير يُحيل على الآخر غربياّ كان أو عربيّا شعرا أو نثرا .ذلك أنّ التصدير يرتبط بظاهرة التناصّ ارتباطا وثيقا فــــــ" التّصدير بقدرما يعزز النّص ويخرجه من عزلته ويضفي عليه دينامية وأبعادا جديدة ، يحملنا إلى النّص الأصل وكيفية هجرته من سياقه إلى سياق جديد وزمنية مختلفة .وما من شكّ أنّ هنالك دوافع تجعلُ المؤلّف ينتقي شاهدا بعينه ويصلهُ بعالمه ،فالانتقاء في حدّ ذاته يعكسُ رؤية وموقفا فكريّا وجماليّا تشي به عمليّة الاختيار ، اختيار شواهد دون غيرها .وهي عملية صعبة فيها ما في الكتابة من عنت ، وألم واستحضار ،وإرهاف السّمع إلى خطابات تستجيب للنّص وتتفاعل معه ، وتحاوره بطريقة صريحة ـوخفيّة ،وبهذا فإنّ النص يُحيلنا على الآخر الذي يسكن الذّات ويجعلها تنفتح على الوجود المُشترك وعلى النصوص التي تحيط بها وتحاصرها. بل إنّ التصدير يفترض وُجود عناصر مُختلفة ، ونعني به صاحب التصدير (Epigraphé) ومرسله (Epigrapheur) ومتلقّيه (Epigraphaire) وهي وإن تعدّدت تظلّ تنسج حوارا في ما بينها ." [9]

  نص التصدير يُحيلُ على مفهُوم الحُرّية مضمُونا يؤسّس لقيمة مركزية وهو مفهوم مُشترك وعام موصُول بالفلسفة خاصّة الوجودية منها و" المهم في قضية الحرية هو أن تبقى دائما موضوع نقاش بوصفها نابعة من ضرورة حياتية ، لا بوصفها تساؤلا أكاديميا .مهما تنوَّعت الحُرِّية ، كشعارٍ وكمفهُوم وكسلُوك ، يبقى البحثُ في أيِّ مُستوى من هذه المستويات الثلَّاثة ، وسيلةً لتعميق الوعي بمسألة الحُرية والاحتفاظ بها ، الوعي بقضيَّة الحُرية هو منبع الحُرّية "[10] .

و يبدو الحديث  عن إنشائية القيم في النّص الرّوائي من قبيل الحُرية  وهي من بين المباحث التي لا تخلو من مخاطر موصولة بالمبالغة في التأويل أو اختزال النّص إلى  مُجرَّد أفكار ولكن الأمر أبعد من ذلك وأعمق خاصة إذا ارتبطت هذه المعاني بمظهر من مظاهر النص وخاصة تلك الموصولة بمنظومة القيم الإيجابية في النص هذا من حيث مضمون التّصدير أما فيما يتعلق بصاحب التصدير فإنّ النص يُحيل على الكاتب اليوناني الكبير نيكوس كازنتازاكي (Níkos Kazantzákis) 18 )فبراير  ( 1883 توفى 26) أكتوبر  ( 1957 الذي انتصر للحُرّية وحَارَبَ التَّصوُّرات السائدة للعقائد والأديان ومن بين أعماله الشهيرة الحرية أو الموت حيث يرسم فضاءات تنتصر للحرية وتعلي من شأنها من خلال التركيز على مضامين  تُعبِّر عن هذه السّمة القِيميّة المرتبطة بنظام الرُّؤى والتًّصورات الإيجابيَّة ما جعلت منه محكوما بأبعاد ودلالات تكشفُ ما تُبشّر به هذه النّصُوص من منظومة قيم ودلالات هي في الحقيقة لا تقع خارج فضاءاتها. فالفضاء الرّوائي إنّما هو فضاء دلالي  حامل لقيم ، هذه القيم التي يحملها الخيال تُبرز أهمِّية البُعد الإيديُولُوجي في التَّفاعل بين النَّص والقارئ.  ومن ناحية أخرى يحملُ كُلّ نَصِّ وجهة نظر ( رؤيا) -  وهي موجِّهة دائما – ولا يمكن للقارئ أن يستصفي المعنى دُون أن يحدّد ويصدر أحكاما"[11] .

 فالتصدير  بمثابة نواة يستقطبُ جميع عناصر المُكوّن القصصيّ فيؤثّر فيه ويشُدُّه إليه لتُوجِّه النّص عبر اختزاله في شكل لافتة بارزة تستقطب كل الأبعاد الدلاليّة والمضمُونية تُحيلُ على منظُومة القيم الفنّية والجمالية يصدُرُ عنها الكاتب في شكل عتبة نصية دالة  .ومن خلال تأمُّلنا لرواية رمادة في نسختها الورقية لاحظنا قيام المتْن الرّوائيّ بالإضافة إلى العتبات على دلالات الإصرار والمُقاومة رغم قساوة الواقع وإحباطاته وقد تجسّد هذا المعنى من خلال رصدنا للحالات النّفسيَّة التي تنتابُ بعض الشّخصيَّات.وهو ما يُمكن أن يبني لنا جُسُورا دلاليَّة وفضائيَّة تشدّ النص وعتباته بعضها البعض من خلال تواتر جملة من المضامين . لعلّ أهمها:

الإصرار والمقاومة.

 منظومة القيم ليست  دلالة جاهزة معطاة سلفا. ولكنّها مسار دلاليٌّ يتشكّلُ عبر نفاذنا إلى عمق النّص. فهو " سيرورة لإنتاج الدّلالة ونمط في تداولها واستهلاكها إنَّها تصوُّرٌ مُتكامِلٌ للعالم " [12] .ولكنّ هذه الدَّلالة تظلُّ محكُومَة بعَوَاملِ التَّعدّد. "  فالنّص عندما يتخلّص من إرغامات المحفل المُبدع يُصبحُ في حِلّ من أمره ، ويُسلّم حينها نفسه لحركيّة تأويل لا تتوقّف عند حدّ بعينه " [13] . وعند رصدنا لفضاءات رواية رمادة  تبدو مُفعمة بمعاني الإصرار والمقاومة .فشخصيّة رمادة  شخصيّة مقاومة ومُتمرّدة تظهر في خطابها تجاه حبيبها شادي فالنص منذ البداية يبدأ بدلالات..طافحة بمعاني المواجهة والشجاعة

" حبيبي... شادي.

من أين أبدأ هذا الحنين وكيف أتغلب عليه؟ كيف أكتبك وأكتبني أمامك وأنا أقاوم موتا أصبح حقيقتنا الوحيدة؟ ليليات شوبان، ترفعني نحو سمائك، لكنها غير كافية لإنقاذي من قلق الغياب " .ص5

تبدو الموسيقى كذلك وسيلة من وسائل المقاومة والإصرار على الحياة من خلال استدعاء ليليات شوبان في لحظة تقاطع واضح بين إيقاع النص الروائي وإيقاع ليليات شوبان فإذا بالموسيقى تتحول إلى وسيلة من وسائل المقاومة تقول " كما الكثيرات والكثيرين، قررت أن لا أمنحني لهذا القاتل السري، بسهولة. ألا أسعده بموتي." . ص7

. يمتدّ الفضاء الرّوائي ليؤكّد أنّهُ فضاء محكوم بمعاني الإصرار والمُقاومة. مُقاومة رمادة  للموت والمرض وللوباء  وهو ما وسم الفضاءات في الرّواية ببعدها النَّقدي الذي يرصُد التّحولات في المجتمع .يفضح ويُعرّي مُمارسات الحُكَّام الجُدُد الذين لا يقلّ ظُلمهم عن ظُلم العصابات رغم هذا الظُّلم تظلّ سمة البطولة راسخة في شخصيّة رمادة  نظرا إلى إصرارها على الصُّمود والمُقاومة .وهي السِّمة الغالبة التي طبعت فضاءات الرّواية .

فكوفيلاند المدينة فضاء لصمود السُّكان وكُلّ من يؤمُّها بسبب قسوة الطّبيعة .وتاريخها الحافل بالوباء والمرض دليل على قُدرتها على الثبات والصمود يقول في بداية النص " قبل أن تموت كوفيلاند ممزقة إلى أجزاء صغيرة، كانت مثالا للحياة والاستمرار.قاومت كل الأوبئة منذ القرن الميلادي الأول، وما تزال مستمرة في قتالها حتى اليوم استعارت هذه المدينة أسماءها التاريخية المتتالية، من الأوبئة والمحن " ص3

هذه الدّلالات التي قامت على معاني الإصرار والمقاومة تشكَّلت سرديّا في طبيعة الشخصيات وملامح الفضاء بطريقة مُختلفة ورغم انتماء الرِّواية إلى أزمنة افتراضية متخيلة فإنها تحيل على قيم الرفض والصلابة و المقاومة حيث ترفض السّاردة الهرب من الوباء يُصرّ على الحُضور. وترفضُ الانصياع لرغبات زوجها ووالدها اللذان يشبهان في ملامحهما "حُرَّاس النّوايا ّ من الإسلاميِّين فتقاوم المدّ السّلفي بالفنّ والعلم والحرية والحب  ( الموسيقى والبحث العلمي  ).

هذا التّمثيل جعل الرّواية محكُومَة بعُمْقٍ دَلاَلِي ورمزي يكشفُ صَلاَبَة شخصيّة رمادة بإصرارها على المُقاومة وعن رفضها باعتماد الذكاء والتسامح في رسم العلاقات والتعلق بمن تحب .

ويرسم السارد من خلال تصرف بعض  الشّخصيات ملامح مُجتمع يرفضُ التَّحوُّلات الطّارئة بالحفاظ على نمط مجتمعيّ سائد جابه الجماعات المُتطرفة بالرَّفض والمُقاومة انتصارا لقيم الحرية تقول متحدثة عن والدها الذي ذاقت منه وبتصرفاته  "  تضاعف تطرف والدي أكثر يوم التحق بالحركة الإسلامية المتطرفة التي احتلت المدن والقرى بزبانيتها وأنبيائها الجدد. ثم انتقل تطرفه إلى العائلة بشكل آمر وعدواني. لم يكن راضيا عن كونه أبا للبنات، قبل مجيء بكر،" ص 21.

فصورة الأب في الرّواية تُعرضُ بحرفيَّة عالية لترسم ملامح شخصيّة قاسية ومُدمِّرة وتفتح النّص على إمكانيّات قرائية خصبة موصولة في جوانب منها بإشكالية السلطة الأبوية والبنية البطركية المتحكمة في الشعوب والضاغطة من أجل قتل الحرية وكل نفس إبداعي هنا يظهر ذكاء رمادة في التعامل مع سلطة أبوية آثرت نفسها بسلاسة ومرونة.

 وهي سمة  تذكرنا بأدب المحنة زمن العشرية السوداء  في الجزائر خاصّة .رغم أنّ النّص لا يعُودُ إلى فضاءات مرجعية فاضحة  فكوفيلاند مكان متخيل يمكن أن يكون في أي عاصمة أو مدينة عربية اكتوت بالإرهاب وقعت تحت نيره  . ويُمثّلُ الإرهاب وما يُحيلُ عليه من دلالات معجميَّة حافّة مثل الرّهبة والخوف والفزع والتَّطرُّف والوعد والتَّوعّد والعُنف والقَتْل والاغتيال والانغلاق والغلوُّ والمبالغة والتَّوعّد والإفراط والتّخويف .وهي أفعال مادّية مباشرة تؤثّر في المسار السّردي أو حتَّى عن طريق الرّمز فضاء حاضنا لكُلِّ هذه الدّلالات. هَوى يتحكّم في المسارات السّرديّة لنص رمادة . وتستدعي الرِّواية في المقابل حقُول هَوَوِيَّة مواجهة من قبيل الحبّ والحُرية ، والجنس ، التّعلق ، والسّعادة ، والانفراج ، والمحبّة والحياة ، والأمل هذا التَّشابك مع هوى الإرهاب يجعل قُطْب التَّجاذب بين الأهواء مُحدّدا لطبيعة الصّراع بين ذوات مختلفة في أهوائها انقسمت فيها إلى صنفين، ذوات متسامحة مُحبّة ومُقبلة على الحياة يأسرها الجمال ويسكنها الودّ والاحترام والتّعايش ( رمادة ، شادي ، بكر.هبري... "  أخي بكر كان جميلا وعاشقا للحياة والرقص والبنات ص22،...) ،وذوات بشعة متطرّفة تُجرّم الغير وتهدّدهم. هذا هو مدار التوتّر والصّراع بين الأهواء( الأب ، الزوج كريم، حميدو الشاب.أفراد العصابة .... ).

 ، رغم عُمق الجُرح وقُوَّة التّأثير. ويظهر الإصرار أشدّ في شخصية الأخ " بكر " تنكشف شيئا فشيئا لترسم ملامح جيل مغامر رافض للظلم واستغلال النفوذ بالإيمان بقيم الوطنية والإيثار وخاصة بعد اغتيال الدكتور هبري الذي أوشك أن ينهي أبحاثه ويهدد الشركات الكبرى "فقد امتدت يد الغدر صباح اليوم، في الساعة السادسة والنصف، بالضبط، إلى البروفيسور هبري، وهو يستعد للالتحاق بعمله. فقد هجم عليه أربعة افراد لم يتركوا له أي فرصة للهرب. قاوم بمحفظته والكتب التي كانت في يده، لكنها لم تكن كافية. 15 رصاصة، 9 ملمتر، من سلاح إيطالي بريتا 92 .خمس رصاصات قاتلة، 3 في الرأس، واحدة في القلب، وأخرى في الرقبة. البقية موزعة على كامل الجسد."ص397  .

رغم قتامة المشهد ظلت الشخصيات محافظة على صمودها ورباطة جأشها وتمكن بكر من تفكيك أهم عصابة  في ترويج المخدرات والسيطرة على الثروات  .

ومن بين القيم كذلك

الحبّ خيط ناظم :

الحب في رمادة عنصر مؤسّس لإنشائية الخطاب يسري في النّص سريان الدّم في العُرُوق فيشدّ أوصاله ويمده بالمعاني والدلالات من خلال الرسائل التي ترسلها رمادة لحبيبها شادي غير أنه ورغم اعتماده خطابا مركزيا في النص من خلال التعلق المرضي الأسطوري بين رمادة وشادي ليتحول الحب إلى مناسبة لطرح قضايا أكثر تشعبا وإرباكا من قبيل التضحية والصفح والغفران وقد غلبت على مطالع الرواية مع بداية كل ليلة رسالة عاشقة تبعث بها رمادة إلى حبيبها شادي الذي أنهكه المرض تقول:

 "كيفك أنت حبيبي في هذا اليوم؟ بعدك كل شيء مات فجأة، وكأنك كنتَ كل الأشياء، حتى الأكثر صغرا ودقة  أدرك الآن كم كنتَ مهما وأساسيا في حياتي على الرغم من أن ما جمعنا لا يتجاوز ليلة كبيرة بحجم عمر، ولحظات هاربة، مخطوفة هنا وهناك، لها لذتها وجمالها، ومع ذلك فأنت تغمرني وحضورك طغى على كل شيء في" ص25.

الحب والجمال والإخلاص والذوق الرفيع  مُقابل انتشار البشاعة وانحطاط قيم الجمال والإبداع .وهو ما جعل الحب خيطا ناظما يصل عناصر النص ويبني أهم تفاصيله فيتجاوز مُجرّد كونه مجرد موضوع مُكوّن للذّات وعُنصر مؤسّسً لملامح الشّخصيّة في ذاتها وفي طبيعة علاقاتها .ولكن الحب في النص لم يمنع من أن يرسم ملامح مجتمع موبوء بطبيعته أنهكه المرض والفساد وانتهازية بعض الأشخاص  ليتحول إلى ذريعة لطرح مجموعة من القضايا الاجتماعية والحضارية والعقدية .إذ تطمح ُ الشخصيات إلى الاعتماد على الحب قيمة مفارقة ومجالا للحرية المتدفقة مع سيرورة النص الروائي. وهو بشكل من الأشكال استعادة لهذه التيمة الضّاربة بجذورها في الآداب العالمية وقد مثل استدعاؤها وتطويرها من حالات فردية إلى لعبة تشويق وفضاء قيمي لطرح ومساءلة عديد الإشكاليات والقضايا من قبيل المقاومة الإصرار الحرية والتسامح وغيره .

 على سبيل الخاتمة :

تبدو العلاقة بين الذات المنشئة للعمل الفنّي وحالتها النّفسية والانفعاليّة وخاصّة منها تلك الوضعيّات المؤلمة الموصُولة بالوباء والصّراع والألم تتحوّل إلى آثار فنّية  لأنّ الجَمَال ليس مصدره بواعث الإنجاز بقدر ما يتمثَّل في طبيعة الموضوع المُنجز .والفن ليس التّعبير الجميلُ عَنْ موضُوع جَمِيلٍ وإنَّما هو التَّعبيرُ الجميلُ عن أيّ موضُوع .ويزداد الأمر تعقيدا مع الوباء باعتبارها موضوعا مَعِيشا.فالقبح سواء في المشاعر أو الأحاسيس أو في مُمَارسة الشّخصيَّات يزيد من عسر المهمة. ليصبح الحديث عن جمالية القبيح باعتبارها راهن الكتابة وموضوعها في آن من مرض وموت وانكسار وخوف متوجس من الإصابة  بالمرض المتربص بنا في كلّ لحظة وحين .

 فعلاقة الذات الكاتبة( المؤلف ) برمادة وبالمدينة الموبوءة تبدو على قتامتها منبع المعنى في النَّص فيتَحول المكان إلى جرح ينزف وتحوله الكتابة إلى حالة وجدانية وعاطفية وليس مجرد مسرحا تتحرك فيه الشخصيات لأنه موصول بالزمن ومنظومة القيم والحدث .هو شبكة تتشكل من خلال نسيج علاقات وذاك سر من أسرار الكتابة.

ففي زمن الوباء تنتهي الرواية نهاية مفتوحة وبين لذة تقبل وخيبة انتظار يولد النص دون أن يُروى الظمأ . ...رغم القبح والأحزان والانكسارات والحروب والاغتيال والإرهاب  يظل النص محكوما بنبرة تفاؤل أمام قتامة الواقع والحياة المهددة بهذا المرض الذي تحكّم في الإنسان الحديث وتوهم أنه قد سيطر على الطبيعة يوجهها أنى شاء وكيف شاء .ولكن هيهات !!!!!! .

 د. عبد الباقي جريدي .باحث من تونس .

 

[1] : نسخة رقمية  خصني بها الكاتب هدية قبل صدور النص في طبعته الورقية .

[2] :Philippe Hamon .Texte et idéologie,. Paris.P.U.F.1984. p. 220

[3]: الرّياحي (كمال) ، هكذا تحدث واسيني الأعرج ،: دونكيشوت الرواية العربية ، تونس ، الشركة التونسية للنشر وتتنمية ،فنون التسفير ،2009. ص16.

[4] :   بوتور (ميشال) ، بحوث في الرواية الجديدة، ص 40.

[5] : محمد فكري الجزّار، العنوان وسيميوطيقا الاتصال الأدبي، القاهرة ، الهيئة المصريّة العامة للكتاب ،1998،ص 15.

[6] : مقدمة كتاب  عتبات :  عبد الحق بالعابد بقلم سعيد يقطين ص 15.

[7]   : ابن سعد: الطبقات 3/310 من رواية الواقدي.

[8]  : ليليات رمادة ص7 .

: رضا بن حميد، عتبات النّص في حدّث أبو هريرة قال ،الجزائر ، مجلة ،الخطاب ، العدد 18، 2014، ص29.[9]

: عبد الله العروي ،مفهوم الحرية ، المغرب ، المركز الثقافي العربي .2015.ط5ص 9..[10]

11 :Vincent Jouve. Poetique des valeurs .: Paris.P.U.F.coll « Ecriture »2001 .p.9 

[12] : سعيد بنكراد ، السيميائيّات والتّأويل ، مدخل لسيميائيّات ش.س.بورس، الدّار البيضاء ، المغرب ، المركز الثقافي العربي، 2005، ص27،

[13] : المرجع نفسه ،ص 33.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة