ديوان " تراتيل الجمار الخابية " لعبد الله فراجي وأفق الإبداع الشعري - عبد النبي بزاز

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

"تراتيل الجمار الخابية" ديوان شعري للشاعر عبد الله فراجي يرسم أفقا شعريا بملامح متنوعة، ومعالم متعددة تؤسس لأواليات نهج إبداعي يمتلك مقومات الخلق والابتكار، وناصية الاستشراف المتفرد بما يخلق من امتدادات ، وما يجترح من فعل استشراف لمسا حات بكر، وأكمات مسكونة بالدهشة والألق عبر اكتشاف مضيء ، واستجلاء مبين. مما يطرح صعوبة الإحاطة بجوانب المجموعة الشعرية، والغوص في ثنايا مكوناتها ، وسبر خبايا بنيتها الإبداعية ، وأبعادها الدلالية والجمالية.
ولعل ما يميز نصوص الديوان هو طابع التنويع والتكثيف على عدة مستويات يمكن مقاربتها، حصريا، في الغنى اللغوي ، وتعدد الموضوعات. فلغته منتقاة، بدقة وعناية ، للتعبير عن رؤية شعرية مسكونة بهاجس تغيير ينشد إرساء لبنات تجربة إبداعية مختلفة الأشكال والمقصديات : "وطفقت تبحر في عوالم من ضباب غامر" 54 . لغة تمتح من معجم تراثي عميق الأبعاد والمرامي باستخدام مفردات من قبيل ( مزن، سغب، مدام، جمانة ،دنان ، قشيب ، رضاب...) لتجاور لغة حداثية باستعمالات غير مألوفة في سياق انزياحي مثل ( أتوجسها، تموسق ، يشكلني...) بل يتفاعلان ، يتقاطعان ، يتصالبان ، يتماهيان لتشكيل وحدة داخل جوقة شعرية تقوم على إيقاع داخلي وخارجي عبر صور تنتأ تمظهراتها في نصوص المجموعة لتخلع عليها طابعا جماليا ورمزيا ينهل من مرجعيات تاريخية موزعة على أمكنة بحمولات حضارية وثقافية ك ( بغداد ، ودمشق ، وبابل ، والقدس ، وبيروت ، ومكناسة) مقرونة بشخوص ينخرطون في زمن توهج فكري وقيمي ومعرفي بما نحتوه من بصمات ظلت منقوشة في سجل التراث الإنساني مثل ( الحجاج، المسيح، الحلاج، قيس ، ليلى ،السندباد، أوليس، صلاح الدين ، دون كشوط ، عمر) لخلق متن شعري متواشج الخيوط، متلاحم العرى ، متناغم الأصوات.

شخصيات ورموز تستلهم منهم أنا الشاعر زخما خبا وميضه ، وخفت إشعاعه ، وذوت نضارته بتوالي الانكسارات ، وتجدد الإخفاقات : " وأنا المصلوب على بوابة بغداد الثكلى ، وأنا المخصي أشاهد كل خيول صلاح الدين تردت في البيداء، وما عادت من رحلتها" 73، أسماء تنخرط بألقها التاريخي والقيمي والفكري الباذخ في نسيج النصوص لتضفي عليها عمقا تعبيريا و دلاليا : " أنا قيس، أنا عمر ولي شمس ولي قمر، وها جرح على جسدي، أنا الحلاج لا أغفو" 95/96 بشعرنة انوجادها داخل سياق النصوص لتغدو جزءا من منظومتها الإبداعية، وصوتا من جوقتها الإيقاعية واللغوية لتتناوب مع أنا الشاعر في تصوير تفاصيل راهن تعتوره الإخفاقات والنكسات : " وأنا المصلوب على فرس عرجاء بباب القدس أصلي .. في صحراء الوهم أرى ظلي.. وأرى قمري.."72 وضع ، رغم ما يحفه من خيبات وانكسارات ، تغمره روح شعرية مجللة بنفحات رومانسية : " نقشت وجهي قمرا مهجورا في محراب العشق بلا ذكرى، رسمتني سطوتها شجرا، حجرا.."74 ، حيث يتم استحضار مكونات طبيعية من قبيل : القمر ، والشجر ، والحجر لإغناء نسغ النصوص بصور تشرعها على آفاق أكثر رحابة وعمقا وامتدادا حيث تتوحد أنا الشاعر بأسماء ذات حمولات تاريخية وحضارية وفكرية لأشخاص وأمكنة وعناصر طبيعية وكونية لتشكيل جوقة شعرية متناغمة اللون والشكل والجرس.
ولا تخلو مقاطع الديوان من طابع رومانسي يمنحها تنويعا يضاعف من منسوب زخمها الإبداعي ، ويوسع دائرة تشكلاته ، وأنماط تجلياته وتمظهراته: " وقد قبلت كل شقائق النعمان ، كل الآس والريحان ، والورد المعطر والزهور" 100 ، بالإضافة إلى رسم صور مجازية تنبض جمالية ورمزية وإيحاءا: " صلواتك الجذلى على صحف الردى" 71، وفي : " رسمتني سطوتها شجرا" 74 ، صور تمتح من نبع الطبيعة الغني، وتنهل من معينها الغزير: " زفراتي سنبلة تتراقص في لفحات الشمس" 63، مع التوسل بأشكال تعبيرية تثري رصيدها الإبداعي ، وتنوع مقصدياته الدلالية، وآفاق أنماطه الخلاقة كالحلم الذي أثرى نسيج النصوص ، وعمق رؤاها وأبعادها: "حلمي تمدد في الهباء .. حلمي تعدد في يدي .. حلمي على كتفي ثمالة عاشق.. حلمي يعرج في مدارات المدائن والقرى.." 92 ، حلم صيره الشاعر أداة لتطويع استعصاء زمن ممعن في التمنع والانفلات بفتح آفاق ترسم التغيير، وترهص بالتبدل . والسؤال الذي تكرر في العديد من مقاطع الديوان بحمولات من مكابدة ديدنها الجلد والإصرار في صيغته السيزيفية المنبعثة من رماد التاريخ الإنساني السحيق: " كم صخرة صرت تقاوم يا سيزيف. ولم تسقط؟ كم وهما أغشى ليلك حين حلمت بطلعتها؟" 9. ومما يضفي على النصوص نزعة العمق ، وسمة التعدد إغناءها برموز ذات منحى أسطوري يستند لمرجعية كونية من التراث الإنساني كأوليس وما يجلله من هالة أسطورية يزخر بها الموروث الإغريقي الغني بأساطيره التي تعج ببطولات خارقة ومثيرة ، وأحداث جسيمة مبهرة: " أوليس جئت تقاوم الشهب التي ركنت على وجه السماء بنارها .. جئت وفوق رأسك حامت العقبان ترقب لحظة الموت الرهيب..." 50، وسرعان ما تتحول حالة الرهبة النازعة ،بجسارة، نحو المجاهل المريبة المحفوفة بألغام المخاطر والمهالك إلى توق من وجد وعشق : " أوليس قد جاءت بك الأمواج من لجج لترشف عطرها ، ودنوت منها في خشوع كلما جادت عليك بعشقها ... قبلت نور جبينها، عانقتها..." 53، ليغوص في لجة هيام عارم يطفح ولها وغراما. والسندباد الذي يجسد رمزية تراثية لمحكيات مسكونة بهاجس الإثارة والتشويق عبر سيرورة نسق قصصي يتجاذبه هوس الأهواء والانزياحات: " كالسندباد إذا تكسر زنده .. وفي دجى الأمواج يبحث عن مراكب للخلاص من النوائب والردى، متجاسرا .. متمردا .. متجددا.." 55، فالسندباد يمتشق روح المجابهة والتحدي لخوض غمار الأهوال وما يستدعيه من ركوب للمخاطر ، ومجابهة للصعاب بعزم خارق ، وهمة جمة.
ونصوص الديوان غنية برمزية شخوصها وأمكنتها التي تمتلك إشعاعا تاريخيا وحضاريا وفكريا وقيميا في سجل الموروث الكوني بمختلف تجلياته وأبعاده . رموز تستلزم مقاربة مستفيضة وشاملة للإحاطة بطرائق ومسلكيات توظيفها جماليا ودلاليا في مجموعة شعرية تغري بالقراءة انطلاقا من عنوانها المشكل من مفردات تستدعي تفكيكها لغويا وتعبيريا كمدخل لمقاربة نصوص تزخر بزخم إيقاعي وجمالي ومعجمي يشكل نصوصا تتسع لتتكثف عبر مقاطع مرقمة تتواشج في توليفة تغوص في امتدادات متعددة الآفاق ، متنوعة المرامي والمقصديات يستعصي مواكبة انزياحاتها ، وتحديد مآلاتها لما تخلقه من صور وما تبتكره من حالات بحمولات إيقاعية ولغوية ودلالية موسومة بالعمق والتنوع والغنى .كما أن لوحة الغلاف تستدعي غوصا في تشكيلها اللوني والرمزي كعتبة مختزلة لنصوص الديوان عبر إيحاءاتها المنيرة ، ومكوناتها المعبرة.
ويبقى ديوان " تراتيل الجمار الخابية " للشاعر عبد الله فراجي تجربة شعرية بأفق إبداعي مختلف ومتفرد لما خلقه ، وابتكره من أساليب تعبيرية أضفت على نصوص المجموعة نزعة من عمق ورحابة وانفتاح.

عبد النبي بزاز

ــ تراتيل الجمار الخابية ( شعر)
ــ عبد الله فراجي
ــ مطبعة بلال / فاس 2018

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟