قراءة في رواية غرناطة لرضوى عاشور - عماد الدين محمد عويس عشماوي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

مقدمة
يمكن القول إن كل رواية هي تاريخ لاجتماع إنساني ما في زمان ما ولإنسان ما على نحو ما،  مع الأخذ في الاعتبار أن التاريخ يمكن محاكمة روايته والاشتباك معها ونقدها بل ونقضها بروايات أخرى مضادة لها، والواقع خير شاهد على ذلك، فكم من روايات تاريخية ظهر فسادها وكذبها بعد أن اكتشفت مصادر جديدة أو أعلن عن حقائق كانت مخفية.
أما الرواية فهي حكاية الروح والشعور والعقل والقلب والكلمة عن أفراح الإنسان وأتراحه، عن قوته وضعفه، عن أمله ويأسه، عن الإنسان بما هو إنسان بكل ما يحمله من مشاعر وأحاسيس وأفكار وأمال وآلام وأحلام فوق جسد يقوى حيناً ويضعف حيناً، وروح تطير حيناً وتهبط أخرى، ونفس تفرح حيناً وتحزن أحياناً، فالرواية هي الإنسان مجسداً لا تحاكم إلا لزمانها ومكانها وإنسانها، ولا تقيم إلا بمدى مقدرتها على حكي الإنسان كما هو، فلا تقدر على نقدها ولا نقضها رواية أخرى، فلكل رواية رونقها وخصوصيتها.

ومن ثم فإن رواية غرناطة رضوى عاشور التي بين أيدينا ليست هي غرناطة أمين معلوف في روايته "ليون الإفريقي" ، ولا هي غرناطة طارق علي في روايته "في ظلال الرمان"،  فلكل روايته ولكل غرناطته، لا نقد أو تناقض بينها لأنها حكايات وليست تاريخاً، ونبض قلوب وعقول ومشاعر وليست أحداثاً ووقائع، ما يميز إحداها عن الأخرى قدرتها على الوصول للروح تبهجها، وللنفس تستخرج مكنوناتها وهي تعبر بالعين وتقرأ باللسان كلماتها، فلا فضل لرواية على أخرى إلا بقدرتها على إبهاج أرواحنا والوصول بنا إلى أقصى طاقتنا النفسية رضاً وحبوراً عندما نعيد اكتشاف أنفسنا وتاريخنا وواقعنا بل واستشراف مستقبلنا من خلالها.

أولاً: الراوية والرواية

رضوى عاشور(1946-2014م) واحدة من أهم الروائيات العربيات في الربع الأخير من القرن الماضي، درست الآداب في جامعة القاهرة وحصلت منها على إجازة الماجستير،ثم حصلت على الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة ماساشوستس أمريكا، ثم عملت أستاذة جامعية في جامعة عين شمس.

أبدعت رضوى العديد من الروايات والدراسات النقدية الأدبية المتميزة، من أهمها: تقارير السيدة راء، ورأيت النخيل، وسراج، وقطعة من أوربا وفرج، والطنطورية، وأثقل من رضوى، والطريق إلى الخيمة الأخرى (دراسة في أعمال غسان كنفاني)، وصيادو الذاكرة، والتابع ينهض وغيرها.

وتعد روايتها ثلاثية غرناطة التي بين أيدينا من أهم الروايات التاريخية العربية في العقد الأخير من القرن الماضي. وقد كتبت رضوى تلك الرواية بعد أن رأت صورة المرأة العارية التي تبدأ بها الرواية ذات مساء شتائي وهي تتابع على شاشة التليفزيون قصف الطائرات لبغداد، ففتح المشهد باباً للذاكرة على قصف الطائرات الإسرائيلية لمصر ولبنان وفلسطين، رأت رضوى المرأة العارية تقترب وكأنها؛ أي رضوى، أبو جعفر الوراق في الرواية يشاهد في عريها موته، فاستبد بها الخوف وهي تسأل: "هل هو الموت الوشيك؟"،  وإن كان فأي علاقة تديرها إذن مع موتها؟ ومع السؤال داهمتها غرناطة فبدأت تقرأ وما لبثت أن بدأت بكتابة غرناطة كضرب من ضروب الدفاع عن النفس الذي تلجأ إليه المخلوقات بشكل غريزي حين يداهمها الخطر. وعلى امتداد 502 صفحة، تحكي رضوى عاشور قصة سقوط غرناطة آخر ممالك الأندلس كما عاشتها أسرة أبو جعفر الورّاق وأجيالها الثلاثة ومن يحيطون بهم من شخصيات الرواية.

ثانياً: نوع الرواية والفكرة الرئيسية فيها

تعد رواية غرناطة رواية تاريخية ملحمية تحاول أن تقدم حكاية سقوط واحدة من أشهر المدن الإسلامية في التاريخ من خلال المزج بين الأحداث السياسية والوقائع الاجتماعية. قدمت رضوى عاشور أجواء سقوط غرناطة من خلال رؤية الناس العاديين وكيف تبدلت حياتهم وانقلبت  كل أمورهم من خلال تتبع سيرة أسرة غرناطية هي أسرة أبو جعفر الوراق. ومع كون الرواية تاريخية لكنها "لا تعنى بتقديم التاريخ للقارئ بالدرجة الأولى، لأن وثائق التاريخ كفيلة بأداء هذه المهمة، وإنما تكمن قيمتها في مدى براعة الكاتبة في استغلال الحدث التاريخي واعتماده إطاراً ينطلق منه  لمعالجة قضية حية من قضايا مجتمعه الراهنة"[1].

تقول رضوى في خطاب ألقته بعنوان "لكلٍّ غرناطته" في إسبانيا بمناسبة صدور الترجمة الإسبانية لروايتها: "لم يكن شاغلي الكبراءُ أو الأمراء والبارز من الشخصيات التي سجّل التاريخ حكايتها بل شغلني "العاديون" من البشر: رجالٌ ونساءٌ، ورّاقون ونسّاجون، ومُعالِجون بالأعشاب، وعاملون في الحمّامات والأسواق وإنتاج الأطفال في البيوت، بشر لم يتّخذوا قرارات بحرب أو سلام وإن وقعت عليهم مقصلة زمانهم في الحرب والسلام[2]. ومن مجمل الموتيفات التي التقطتها المؤلفة، والعلاقات التي ربطت فيما بينها قدمت لنا العقدة في شكلها المتحقق مثيرة انتباه القارئ مأساوياً وجمالياً تجاه واقع تاريخي تم استدعاؤه من خلال بناء لغوي مترابط ويجنح في كثير من الأحيان إلى التصوير البياني بوصفه بدلاً عن لغة السرد المحايدة[3].

ثالثاً: ملخص الرواية

تقع الرواية في ثلاثة أقسام، القسم الأول: غرناطة، والقسم الثاني: مريمة، والقسم الثالث: الرحيل. يحكي القسم الأول "غرناطة" عن سقوط غرناطة وكيف عاش الجيل الأول من أسرة أبو جعفر بعد سقوط غرناطة وما تعرضوا له من نكبات، ويحكي الجزء الثاني "مريمة" تطورات حياة الجيل الثاني من الأسرة وكيف واجهوا التعذيب والتضييق والترحيل وكيف حاولوا الاحتيال على ذلك كله، ويحكي الجزء الثالث "الرحيل" قصة الجيل الثالث من الأسرة وما عانوه من التضييق ثم الإجبار على الرحيل، ومحاولات استرجاع الفردوس المفقود ثم الترحيل النهائي لكل العرب منها، والإصرار على البقاء رغم انسداد كل أبواب الأمل.

رابعاً: شخصيات رواية ثلاثية غرناطة

أبو جعفر الوراق المقيم البيازين في غرناطة ودكانه في حي الوراقين وزوجته وزوجة ابنه الوحيد الذي مات شاباً وحفيديه حسن وسليمة ونعيم وسعد اللذين يساعدان أبو جعفر في عمله. وأبو منصور صاحب الحمام في البيازين ومريمة زوجة حسن ابنة أحد المنشدين في المدينة وهشام ابن حسن ومريمة وعائشة زوجته ابنة سعد ومريمة وأخيراً علي ابن هشام وعائشة آخر أحفاد أبو جعفر، بالإضافة لبعض الشخصيات الأخرى التي تتفاعل مع أبطال الرواية ليحكوا جميعاً مأساة السقوط للمدينة والمجتمع وناسه في قبضة أعدائهم.

خامساً: النواحي الفنية في الرواية

استهلت ثلاثية غرناطة نصها بمشهد غريب رآه أبو جعفر الوراق، يجمع بين صورة الحقيقة وشبح الخيال، لامرأة عارية لتعبر عن مأساة سقوط غرناطة: " في ذلك اليوم رأى أبو جعفر امرأة عارية تنحدر في اتجاهه من أعلى الشارع كأنها تقصده. اقتربت المرأة أكثر فأيقن أنها لم تكن ماجنة ولا مخمورة، كانت صبية بالغة الحسن ميادة القد، ثدياها كأحقاق العاج، وشعرها الأسود مرسل يغطي كتفيها، وعيناها الواسعتان يزيدهما الحزن اتساعاً  في وجه شديد الشحوب"[4]. وتحكي الكاتبة على لسان الراوي كيف هرع إليها أبو جعفر يحاول سترها كتعبير عن ما قام به أهل غرناطة من محاولات يائسة للحفاظ على المدينة من السقوط، "وقام إلى المرأة وخلع ملفه الصوفي وأحاط بجسدها، وسألها عن اسمها ودارها، فلم يبد أنها رأته أو سمعته، تركها تواصل طريقها، وظل يتابع مشيتها الوئيدة"[5].

لكن ضعفهم وقلة حيلتهم التي تجسدت في هذا العجوز لم تصمد كثيراً ولم يصمد العجوز نفسه كثيرا فقد مات كمداً بعدما رأى النار تأكل الكتب: "عندما أعطى ظهره لحدرة ليصعد التلة بدت له الطريق الجبلية الصاعدة صعبة لا يقدر عليها. كانت ساقاه واهنتين بالكاد تحملانه وكأنه يحمل جذع شجرة ثقيلة لا طاقة لإنسان على حملها. يصعد ثم يتوقف ثم يعود يصعد. تعثرت قدماه وسقط على وجهه، تفصد من أنفه خيط دم رفيع وانجرحت ركبته. لم يلحظ ذلك. قام وواصل الصعود حتى وصل إلى ساحة مسجد البيازين الذي صار كنيسة سان سلفادور، وقعد على مصطبة حجرية وظل جالسا بلا حراك حتى غروب الشمس قبل أن يأوي أبو جعفر إلى فراشه، في تلك الليلة، قال لزوجته " سأموت عارياً ووحيداً لأن الله ليس له وجود ومات"[6].

وعلى منوال شخصية أبو جعفر حاولت المؤلفة أن تغوص في أعماق شخصيات الرواية لتعطينا مكنونات نفوسها وما يعتمل داخلها من مشاعر وأفكار وأحاسيس تعبر عن حال السقوط الذي يعانوه، فكل شخصية من شخصيات الرواية لديها رؤيتها الداخلية لحدث السقوط ولديها انشغالاتها وهمومها الصغيرة الجميلة التي تعبر عن حالات الإنسان المتعددة وعن كيفية مغالبته لهمومه ليقتنص ساعات فرحه وكيف تتغلب الحياة على الموت والجمال على القبح من خلال ما تتميز به تلك الشخصيات من تلقائية وطبيعية في عيشها للحياة.

فهي هي سليمة تلك الشخصية القوية الغريبة المحبة للعلم ربيبة أبي جعفر وتلميذته النجيبة تعلن عن مقاومتها لكل القبح والجهل الذي يحمله القشتاليون وينشرونه في بلد العلم والكتب والوراقين فتجهر بأعلى صوتها عندما حاكموها قائلة: "نعم أنا سليمة بنت جعفر، أنشأني رجل جليل يصنع الكتب، واحترق قلبه يوم شاهد حرق الكتب، فمضى في صمت نبيل، وأنا يا جدي صرخت ساعة التعذيب، صحيح، واختل مني العقل والبدن، لحظات يا جدي لحظات، ولكني لم أقل شيئًا تخجل منه. قرأت في الكتب كما علمتني، وطيَّبت أوجاع الناس ما استطعت، وحلمت يا جدي أن أهديك يومًا كتابًا أخطُّه بيدي وأودعه خلاصة ما قرأت وما لمست في الأبدان يداي. أردت، لولا سجن زمان يا جدي"[7].

وها هي مريمة تعبر ببساطة الإنسان الذي يراد له أن يقتلع من جذوره ويترك أرضه وبيته وتاريخه، فترفض وتقولها بكل تلقائية: "لا نرحل. الله أعلم بما في القلوب، والقلب لا يسكن إلا جسده، أعرف نفسي مريمة، وهذه ابنتي رقية، فهل يغير من الأمر كثيرا أن يحملني حكام البلد ورقة تشهد أن اسمي ماريا، وأن اسمها أنّا. لن أرحل لأن اللسان لا ينكر لغته ولا الوجه ملامحه"[8]. وعلى الرغم من ترحيل مريمة لكنها تأبى الرحيل بموتها في الطريق تعبيراً عن تمسكها بأرضها وحياتها.

وها هو علي آخر من تبقى من أسرة أبي جعفر يرفض الرحيل والترحيل ويترك الناس مشغولين بالاستعداد للرحيل ويولهم دبره مستقبلا مدينته الغالية، أو كما حكت لنا رضوى قائلة: "قام علي، أدار ظهره للبحر، وأسرع الخطو ثم هرول ثم ركض مبتعداً عن الشاطئ والصخب والزحام. التفت وراءه فأيقن أن أحداً لم يتبعه، فعاد يمشي بثبات وهدوء، يتوغل في الأرض، يتوغل في الأرض، يتمتم: لا وحشة في قبر مريمة"[9].

نجحت رضوى في بناء شخصيات الرواية وتعريفنا بها بشكل جذاب ومتدرج ومشوق فكل شخصية تظهر مكنونها وتكوينها مع مرور الصفحات وبشكل لا يتوقعه القارئ في الغالب، فهذا التصاعد الدرامي للأحداث يجعلك في قبضة الرواية لا تستطيع تركها حتى تنتهي منها، فإن قطعك حادث سرعان ما تعود إليها لتعرف ما فعلت شخصياتها التي تلازم روحك.

تركت رضوى كل شخوص الرواية يعبرون عن ذواتهم فجاءت حكاياتهم مقنعة حقيقية نلمسها ونراها في أنفسنا وفي من حولنا من الناس، لقد عبرت رضوى عن الإنسان في حالاته المختلفة: فرحاً وحزيناً، جاداً وهازلاً، متفائلاً ومتشائماً، قوياً وضعيفاً، وعبرت عن الإنسان كما هو في يومه وتقلبت نفسه وعقله ومشاعره. لم تتقمص رضوى أي شخصية من الشخصيات ولم تتطفل على حكايتها والتزمت النقل الأمين لما تحمله كل شخصية من مشاعر وأحاسيس، نعم اقتربت من كل شخصية لكنها لم تتحدث باسمها.

ومن خلال هذه الشخصيات الثرية النابضة بالحياة والتي تشبهنا تماماً نسجت رضوى حكايات كثيرة داخل الرواية، حكايات متداخلة تمتد من الحكاية الرئيسية، من سقوط غرناطة، لتحكي سقوط أهلها واحداً تلو الآخر، وصمود آخرين، وترحيل البعض، وتنصير آخرين، فالبطل هنا هو الإنسان وكيف يتكيف مع نكبات الزمان، الإنسان بكل ما له وما عليه، بكل قوته وضعفه وأمله ويأسه وتفاؤله وتشاؤمه، الإنسان بما هو عقل وروح وجسد وكل منهم له احتياجاته واهتياجاته  التي يعبر عنها كل إنسان بشكل متفرد يليق بشخصيته وبيئته وظروفه النفسية والاجتماعية التي وجد فيها وجاهد في التعايش معها.

وكما تداخلت الحكايات تداخل الزمان والمكان والإنسان في الرواية بشكل مثير حتى أن القارئ لا يستطيع أن يفلت من قبضة حضورهم جميعاً، فما إن تبكي على المكان حتى يفاجأك الإنسان بما يفرحك، وما إن تذكر الزمان وقسوته حتى يبهجك المكان بجماله وعراقته، نسيج رائع من الحكي تزينه لغة راقية تسمو بالزمان والمكان والإنسان من خلال الكلمة البسيطة والعميقة في آن.

الصراع  والخوف من السقوط ومن العدو ومن الموت ومن الرحيل ومن الترحيل ومن الفقد ومن الوحدة ومن المجهول هو هاجس الرواية، والراوية تنقل خوفها الذي من أجله كتبت الرواية من خلال خوف أهل البيازين بعد سقوط غرناطة: الخوف من الموت، والخوف من الترحيل، والخوف من التنصير، والخوف من الجهل المطبق على سماء المدينة وقلوب أبنائها، وكل ذلك من خلال حوار يتنوع بين بين المنولوج والديالوج، الحوار الداخلي والحوار الخارجي بين الشخصيات، ونهر من الأسئلة لا ساحل له ولا بر يحملنا إليه، يأخذنا سؤال إلى سؤال، وجواب إلى سؤال، في ترحال دائم بين الشخصيات الهائمة في دنيا الله تبحث عن سبيل للنجاة من مأساة لم تكن في الحسبان، وفي غمرة هذا كله تغمرك اللغة بحلاوتها وطلاوتها وقدرتها الفاتنة على النفاذ إلى شغاف قلبك تمسها مساً خفيفاً تارة وشديداً مرات فتشجيك وتثريك وتفرحك وتبكيك وتحيرك.

سادساً: حكايتي مع الرواية

أحببت الرواية كثيراً، وأبكتني الرواية مرات لا أتذكر عددها، لكني أتذكر دائماً كيف بكيت في كل مرة قرأتها، وأتذكر جيداً وكأنها الآن وأنا اكتب هذه السطور كيف بكيت بشدة مع أول مشاهد الرواية عندما رأيت المرأة العارية مع رضوى وأبو جعفر وحاولت أن أستر عريها وفشلت، كنت أرى ساعتها بغداد تسقط، وحلم العروبة يسقط، والقيم كلها تسقط، والساسة كلهم يسقطون، وكنت أعلم ساعتها أن علينا ألا نسقط. كنت أبكي مع رضوى أهل البيازين ونهر حدرة ومع بيوت غرناطة الحزينة في كل مشهد تصفه رضوى يحكي تفاصيل السقوط وما تخللها من آلام وعذابات للأروح والنفوس والأجساد التي تقاوم ما لا يقاوم.

كانت أجواء قراءتي لغرناطة ملبدة بغيوم الهزيمة الجديدة للعرب، هزيمتنا لأنفسنا عندما غزا صدام الكويت بدلاً من تحرير القدس، وجاء مغول العصر والقشتاليون الجدد إلى بلادنا بطائراتهم ودباباتهم وعسكرهم وقنابلهم وحربهم التي نشاهدها على الهواء، كانت روحي حزينة عندما امتدت يدي لتقرأ غرناطة ولتنفتح جروح مكتومة في قلب شاب حلم بالحرية والوحدة والكرامة فأفاق على كابوس الاحتلال الذي سمع عنه من الجدود وقرأ عنه في الكتب الدراسية وكتب التاريخ التي أدمن التجوال في صفحاتها يسألها وتجيبه عن أمته وتاريخها.

عندما بدأت قراءة الرواية في إحدى ليالي شتاء العام 1994م، وشاهدت تلك المرأة العارية تعبر أمام أبي جعفر بكيت كما لم أبك من قبل، انفجرت روحي تبكي على الفردوس المفقود في الأندلس وبغداد معاً، بكت عيني على ماض أضاعه الأجداد وحاضر يضيعه الجميع ساعتها وإلى الآن، لم استطع ترك الرواية حتى انتهيت منها منتظراً بلهفة مكلوم استكمال فتح كل جروحه، وكله أمل أن يجد عند نهاية الرواية شعاع ضوء يضيء نفق حاضرنا المظلم.

مر عام حتى صدرت مريمة والرحيل وكما غاصت في غرناطة روحي فعلت نفس الأمر معها، فقد أخدتنا رضوى عاشور في مريمة والرحيل إلى كل شبر في غرناطة وعرفتنا به وأبكتنا عليه وعلى أهلها وما عانون من عذابات التنصير والتهجير والتضييق وضروب الاحتيال التي ابتدعوها كي يظلوا مسلمين.

كتبت رضوى غرناطة ومريمة والرحيل وهي تحدق في صورتها في الزمان يتهددها الموت، وقرأتها أنا وكثير من أبناء جيلي ونحن نحدق في هزيمة لم تكن هزيمتنا وخيبة ليست خيبتنا تركها لنا الجيل الذي يسبقنا، كما تحدث يوماً ما سعد الله ونوس إلى ابنته ديمة عندما أهدى لها أعماله الكاملة قائلاً: "تركنا لكم الخيبات كاملة"، وكان علينا أن نكون مثل سعد وحسن وعلي أن نقف شامخين نحاول أن نرد الهزيمة بالنصر، وحاولنا وأفلحنا مرة لكن سرعان ما سقطنا، لكننا سنظل نحاول حتى نسلم الراية لمن بعدنا علهم يوماً يستردون كل فراديسنا المفقودة.

ليست غرناطة؛ كما تقول رضوى، حكاية موت واندثار، غرناطة حياة، بستان من المعاني المكنونة في باطن الأرض نذهب إليه عبر الحكاية، والمدهش أن الحكايات لا تنتهي، لا تنتهي ما دامت قابلة لأن تروى، وحكايتنا نحن العرب ما زالت مفتوحة النهايات نرويها من بعد رضوى أجيال وراء أجيال حتى نسترد روح الحياة في أنفسنا ومجتمعاتنا.

غرناطة رواية عصية على النسيان ستقرأها أجيال كثيرة اليوم وغداً حتى يندمل جرح السقوط، وساعتها سيقرأها جيل جديد مردداً مع علي "لا وحشة في قبر رضوى".

سلام على رضوى في العالمين

 

[1] السيد، شفيع. اتجاهات الرواية العربية. القاهرة: دار الفكر العربي، ط2، 1993م، ص30.

[2] عاشور، رضوى. في النقد التطبيقي: صيادو الذاكرة. بيروت: المركز الثقافي العربي، ط1، 2001م، ص242.

[3] أبو أحمد، حامد. مسيرة الرواية في مصر. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 2000م، ص 155.

[4] عاشور، رضوى. ثلاثية غرناطة. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة خاصة، 2003م، ص8.

[5] المصدر نفسه، ص8.

[6] المصدر نفسه، ص52.

[7] عاشور، رضوى. ثلاثية غرناطة، مصدر سابق، ص243-244.

[8] المصدر نفسه، ص122.

[9] عاشور، رضوى. ثلاثية غرناطة، مصدر سابق، ص502.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة