الحلْقة بين الإمتاع وصناعة الوعي الجماعي - عبد المطلب عبد الهادي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

   " الحكواتي كالطائر رزقه في لسانه " (*) 
 1 ـ االحكواتي..الحلايقي..(**)
       من بعيد لاح كشبح يتّكِئُ على عصا تَسنُد مِشيته.. على كتفه اليابس حمل كيسا أحنى ظهره، وقف لحظة ينظر إلى الساحة التي شهدت صولات جده وأبيه من بعده، يجُسّ نبض الأمكنة المباركة التي ستحضن الحلْقات..
بعناية العارف الحاذق اختار مكان حلْقته، وكمهندس طوبوغرافي محنّك، وقف يعبر ساحة وقوفه.. يرسم بعصاه حدود الدائرة، يوسّع مرة.. يُضيّق مرة.. يعد الخطوات مرات.. برجله يكشط حدود دائرته من الحجارة والأوراق وبقايا طعام..
حدّد المركز بدقة وبنظرة عارف.. وضع فيه زربية مُهترئة تآكلت جوانبها المطرّزة.. فوقها وضع حقيبة قديمة متهالكة.. فتح الحقيبة.. أخرج منها كتاب ألف ليلة وليلة، اصفرّت أوراقه وتمزّقت، وآلة " الكنبري " (***)..

بأصابع خطّتها التجاعيد بدأ يعزف ألحانا وبصوت مبحوح بدأ هادئا لتتصاعد نبرته وتشتد ليسمعها الداني والقاصي، إيذانا ببداية العرض، وانطلاق الفرجة..

حين أخذته الجذبة، رفع عقيرته بالغناء.. واختلط الصياح بالنقرات على الكنبري.. << وأمام دائرة تزداد اتساعا لحظة بعد أخرى، وقف جموع من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ، يركزون انتباههم حول حكايات الراوي/الممثل/ المؤلف.. >> (1) التي تنسابُ بين شفتيه كشلال هادر لا ينضُب صبيبه، وهو يحكي كأنه طبيب نفس يوزّع بلسماً حكايا بالجُرَع الكافية والشافية التي تُغيِّر الحال، من حال إلى حال، تكونت حلقته وأحاط به جمهوره من كل سن وشخصت عيونهم إليه.. سكت لحظة كأنه يلتقط أنفاسه.. نظر إلى الحلقة وقد اكتملت.. أحس حينها أن عليه أن يفتح للحكايات أسرارها ويتسيّد عالم الحكي..

وحده الراوي/الحكواتي، أولحْلايْقي، صانع لحظات الانشراح والتسلية عبر التلاعب بالكلام وسرعة البديهة، وذكاء الحركات والإشارات، لإيجاد فرجة تخلق الدهشة والإعجاب لاستفزاز الجمهور للمشاركة وتأدية "ثمن التذكرة"، الفرجة..

وحده الراوي/الحكواتي، أولحْلايْقي، يملك مفاتيح الحكايات وأسرارها، وحده يجْدل الحكيَ أشعارا وسِيَرًا مُتّكئا على البوح والمعاناة والألم والمعيش الذي يلج القلب سهلا وعن طواعية يشد انتباه الجمهور المحيط به، يحكي معاناتهم وآلامهم، لأنه ببساطة واحد، يتكبّد ما يتكبدون، يحكي لهم كأنه يحكي لنفسه قهره وكبته، بل، يعرض قلبه مفتوحا على الأمل والآلام..

وحده الراوي/الحكواتي، أولحْلايْقي، ممثل بارع، ومشخّصٌ قوي للأحداث وللشخصيات، ومقلد ممتاز للأصوات والحركات، فهو الشيخ والمرأة والطفل والحاكم والمحكوم والمهرج.. هو الواحد المتعدد..إنه ـ كما يُعرفه باتريس بافيس، << فنان يقبع على مفترق الفنون الأخرى، وحده على الخشبة، يروي قصته أو قصة ما/ متوجها مباشرة إلى الجمهور، ذاكرا أحداثا بالكلام أو بالحركة، ومؤديا شخصية أو أكثر مع ارتباطه الدائم بالنص... وفن الراوي نوع شعبي بامتياز، يتوجه إلى جمهور غير جمهور مسرح الإخراج، مع وسائل محدودة، وبصوت وأيد مكشوفة... يحرص أن يقتصر على مواجهة لا تتحول إلى إخراج متكلف مستخدما السبل جميعها...>>(2)، وموظفا خياله الفوضوي حيث يُطلق العنان لمخيلته، فيبتكر الأحداث في الحين، يأخذ من حلقته لقطات يجعلها استراحة حكيه، ويغوص في المواضيع يفك أسرارها بكل سهولة، في تواصل تام مع الجمهور المتعطش للحكايات المثيرة، مستخدما جميع آليات التواصل لديه، والتي يُتقنها، دون وعي منه بعلم التواصل،<< حيث لا يتعلق الأمر بالمجال اللفظي فقط،  من خلال العلاقات اللغوية بين المتكلمين والمنتمين إلى وضعية لغوية متجانسة، بل يهم كل الأنظمة التواصلية التي ترمي إلى التواصل والإبلاغ عبر كل القنوات والوسائل التواصلية المُحققة لذلك >>(3)، إذ، بعيدا عن كل تعقيد تواصلي، تكفي الحكواتي / الحلايقي، الكلمة، والنظرة والغمزة وسُرعة البديهة التي تضع المتفرج في حالة نوم مغناطيسي لذيذ .

الكنبري أو لُوتار، الأكسسوار الوحيد الذي يؤثث به الركح الدائري الذي تنصهر فيه الأحداث وعوالم الحكي، خارج تعقيدات الخشبة وتقنيات الإضاءة والقطع السينوغرافية وغيرها، لتظل الحلقة ميدانا للراوي / لحلايقي يصول ويجول صانعا فرجة مفتوحة غير خاضعة لتعقيدات الإخراج المسرحي التي تسعى إلى خلق فرجة إبداعية بقواعد ومقاسات وضوابط جمالية مدروسة..  فقط تكفي نقرات على الكنبري المهترئ لتصعد أنغام يتجاوب الكون معها، ويغيب في نشوة الحكي كفنان أصيل متمرّس..

يقول الدكتور عبد الله إبراهيم : << اقترنت دلالة السرد في اللغة العربية، بالنسج وجودة السبك وحسن الصوغ، والبراعة في إيراد الأخبار وفي تركيبها >>، ويضيف السرد/الحكي، << يحيل على الإجادة في حبك الكلام، ومراعاة الدقة في بنائه، فالسرد تَقْدِمةُ شيء إلى شيء في الحديث بحيث يؤتى به متتابعا لا خلل فيه، أي أنه نظْمُ الكلام على نحو بارع تتلازم عناصره، فلا تنافر يخرّب اتساقها، والسارد هو من يُجيد صنعة الحديث، ويكون ماهرا في نسجه >>.(4)

2 ـ الحكاية..

<< لا حكاية بدون راوي، ففي كل حكاية، مهما قصُرت، متكلم يروي الحكاية، ويدعو المروي له إلى سماعها بالشكل الذي يرويها به >>(5)، والحكاية في معاجم اللغة، ما يُحكى أو يُقصّ، وقع أو تُخُيّل، والحكواتي معناه الراوي الشعبي، كما يُعرف في البلاد العربية، أما في المغرب فيُعرف ب"الحلايقي" نسبة إلى الحلقة وهي الدائرة مسرح الراوي التي يُحيط بها الجمهور من المشاهدين..

الحكايات، أو ما يُروى في الحلقة، هي ذاكرة المجتمع وتراكمه الثقافي، بل هي نبضه الحي الذي يتقادم ولا يموت، رغم اعتقاد الكثير من الباحثين أن فن الحكواتي بدأ يندثر، أو مات بموت حِرفة الحكواتي/الحلايقي، وأن الغزو الهمجي لوسائل التواصل الاجتماعي حكمت على الحلقة بالاندثار أو الانزواء في ركن مظلم كئيب من أركان التراث القديم..

<< قد يكون مصطلح الحكاية فضفاضاً واسعاً يستوعب ذلك الحشد الهائل من السرد القصصي الذي تراكم عبر الأجيال، وكلمة حكاية في معناها الشامل تتجاوز الأنماط الفنية لتعبر عن كل تسلسل للأحداث. الحكاية الشعبية جنس أدبي قائم بذاته له أصوله ومقوماته الفنية التي تميزه عن باقي أشكال التعبير الأخرى فهي شكل أدبي شفوي تتناقله وتتوارثه الأجيال عن طريق المشافهة، وتنحدر من أصول شعبية شكلاً ومضموناً وبلغة شعبية.. >>(****)

والحكواتي أو الحلايقي حين يحكي، يجمع بين الغريب والعجيب والواقعي والمتخيل والآني الذي يقع تحت عينيه وهو يسرد الحكاية، << استجابة لرغبات الناس المقهورين الذين يبحثون في متخيلهم عن بطل يعينهم ويُخفف عنهم في زمن لا يوجد فيه أبطال حقيقيون، فيغوصون في رحلة لا شعورية تُخفف عنهم وطأة الظلم وقسوة الحياة >>(6) .

الحلايقي يبني حلقته/عرضه "المسرحي" << على الارتجال سواء في الأفعال أو الكلام ، وتتمحور حول غرض النقد الاجتماعي مغلفا بإيهاب من السخرية والتهكم اللاذع والتعريض بمظاهر السلطة والقيم المرتبطة بها كالأسرة والقبيلة والمخزن.. وهو بهذا صوت المجتمع وصوت القلب مقابل صوت العقل والمنطق السائد >>(7)، موظفا لذلك، ما يجعل عرضه يحضى بجمهور كبير، كل أنماط الفرجة المتعددة من مونولوج ونكت وأغاني ورقص وقفشات لحظية يقتنصها بعينين حادّتين من الجمهور المشاكس.

بذكائه العفوي، يحاول الحكواتي/الحلايقي، أن يتوغل داخل الإنسان/الجمهور المحيط، يُعبر عن أقسى حالات القهر التي يعيشها، بلغة أقرب إلى تفكيره، جاعلا منه مشاركا فعليا، وذلك حين يطلب منهم بداية الحكي :

ـ يا سادة يا كرام.. " صلوا على النبي".. أعيدوا الصلاة عليه.. بصوت عال تسمعه السماء والقريب والبعيد..

أو يوقف الحكي لحظة ذروة الحكاية، يطلب أجره وثمن " التذكرة " التي يقدمونها له بقلب مرتاح متعلق بسماع النهاية..

هل الحكواتي/الحلايقي، حين يحكي يعي هذا الكلام بأن << الحكي هو الطريقة التي بمقتضاها تُسرد الأحداث بواسطة نسق ما، غالبا ما يكون لغويا، وبواسطة سلسلة من الحركات والصور المشهدية.. والحكي مثل السرد، يستدعي نسقا أو عدة أنساق مشهدية، ويوجه توجيها خطيا المعنى حسب منطق الأفعال المحكية نحو هدف نهائي ؟>>(8)، وما نعرفه هو أن أكثر الحكواتيين أميين، أو غادروا المدارس مبكرين دون شواهد، لكنهم يملكون آليات شد الانتباه، وموهبة عالية في السرد وطرائق الحكي، ويعرف لحظة البدء ولحظة السكوت، وأنت تستمع إليهم تظن أنهم يمتلكون ثقافة موسوعية تمكنهم من امتلاك ناصية الحكي وانتباه الجمهور المُتحلّق حولهم، لأنهم تعلموا من كتاب الحياة المفتوح على الأمل والألم، على الجمال والقُبح، على الفرح والقرْح، وما يحمل ويتحمل الفرد البسيط المهمّش من اغتراب.. إذ كل المواضيع مفتوحة أمامه، بحيث يتطرق بسهولة لمواضيعه التي غالبا ما تشكل طابوهات في المجتمع كالجنس والسياسة والدين ـ وهي المواضيع التي تستهوي الحضور ـ بل تُعتبر هذه الطابوهات محور حكاياته التي تجلب له سخاء الجمهور، إضافة إلى أن الذاكرة المشتركة والتعاطف الوجداني بين الجمهور وصانع الفرجة هي ما يجعل الحلقة أكثر إمتاعا وإسهاما في صناعة الوعي الجماعي الذي من شأنه أن يحفر في الذات آليات البحث عن سبل التغيير..

وبما أن الراوي ابن بيئته، بخصوصياتها وتشعُّب إشكالياتها، فهو يعيش نفس هموم جمهوره،  الشيء الذي يمكنه من تطوير آليات الحكي لتمرير حكاياته بكل حمولاتها المفكّر فيها أو العفوية، وهو وحده من يتحكم في الحلقة ومكوناتها، إذ هو الوسيط الوحيد بين الجمهور والعالم الحكائي..

وهو حين يحكي، تخاله يسكن الحكاية، يعرف مداخلها ومخارجها وأسرارها، ويغوص في تجاويفها فاتحا، كأنه يبحث عن مكامن الفرجة لإمتاع الجمهور المتعطش لحكاياته التي تحكيه وترفعه عن معيشه القاهر، وهي لُعبته التي يُثقنها يمحو بها عن الحضور لوثة التعب وثقل الآلام وبُؤس الأيام.. ويسترزق للأهل طعاما وكسوة وحاجات..

3 ـ الحلقة..

الحلقة، إمتاع ومؤانسة، فرجة تعتمد الترفيه، كما تعتمد النصح والإرشاد عبر الضحك والسخرية والتهكم في توافق مع الموضوعات المطروحة على بساطتها، وغير المفكر فيها في كثير من الأحيان، مستشرفة التغيير غير المفكر فيه.. فعالم الحكايات كما يقول المخرج المصري حسن جريتلي << عالمٌ ساحر أخّاذ، يمتص كميات هائلة من الإحباط والغضب، ويُساعد على تخطي الأزمات، ويستطيع شحن الأرواح بالطاقة الايجابية>>، كما يردد أحد الحكواتيين الجزائريين أن << النفس البشرية في العادة تتعالى على التوجيه والنصح المباشرَين، لأنّها ترى فيهما مصادرة لنضجها، لكنّها تتلقاهما بمحبّة إذا قُدّما لها كحكاية، لأنها تتعامل مع القيم المزروعة في الحكاية على أنّها ملكها الشخصي .>>

الحلقة (بتسكين اللام)، روح الساحات << المُفعمة بالمسرحة والفرجوية والأدائية على حد سواء... كساحة جامع الفنا بمراكش، باب الفتوح بفاس، ساحة الهديم بمكناس، ساحة المشور بقصبة طنجة..>>(9) وغيرها من الساحات العربية والعالمية المشهورة، وكذا الأسواق الأسبوعية التي تعتبر فرصة للتبضع والفرجة في نفس الآن.. وهي من أقدم الأشكال الفرجوية التي عرفها تاريخ الفرجة والتي استطاعت، بعفويتها وجذبها وبساطتها، أن تجمع الناس على اختلاف مراتبهم وأعمارهم وثقافاتهم على حكاية أو سيرة واحدة، إذ في الحلقة، لا يمكن الحديث مهما بلغت براعة الحكواتي/لحلايقي، عن نص وإخراج، بل لا يمكن الحديث عن مقومات عمل مسرحي، وإن كانت الحلقة توظف بعضا من مقومات المسرح، بل أبعد من هذا في كثير من الأحيان يكون الحكواتي أميا والجمهور أغلبه من الأميين، الشيء الذي لا يقف حاجزا أمامه للإبداع والتواصل الجيد والمُنتج مع الجمهور المحيط..

كما أنها << عبارة عن مسرح شعبي يشرف على تقديم فرجاتها بعض الأفراد المختصّين في فن الحكاية، والإماءة، والألعاب البهلوانية.. والممثل قد يكون "مدّاحا" أو "بقشيشا" أو شخصية مسلية يعرض إبداعاته في الساحات والأسواق>>(10).

4 ـ الفُرجة..

والفرجة غاية الجمهور، والفرجة من الانفراج، وهي نقيض الكبت والتأزم، والفرجة هي الخلوص من الشدة، كما أنها نوع من أنواع الخروج بالجمهور من حالة شعورية تغوص في الكبت والألم والضغوطات اليومية المصاحبة للشغل للذي يوفر بالكاد لقمة عيش حافية بئيسة، أو العطالة الجاثمة على النفوس كسندان ينتظر مطرقة بغضب زائد تهوي مُخلّفة ألما، إلى حالة شعورية أخرى تسمح له بالتحليق في عوالم الحكي وأسرار الحكايات تستجدي الفرج والخلاص والتحرر..

الفرجة في الحلقة مزيج من الهزل والجد والحكمة والموعظة، وهي بهذا لحظة إمتاع ومؤانسة تتحقق بسحر الكلمة المصحوبة باللحن أو الإيقاع، وعجائبية الأحداث التي تصنعها بسهولة كبيرة عفوية حلايقي/حكواتي مَرِسٌ خبرَ الحياة بكل تفاصيلها..

الفرجة غاية الجمهور الذي تحمّل عناء الحضور والتّحلّق حول الحلايقي المفضل لديه، وانتظار لحظات العشق للتحليق في عوالم المستحيل لِجَنْي راحة مفقودة تستعصي عن القبض في عالمه الموبوء والمزكوم بروائح القمع والبؤس والألم..

الفرجة مفهوم يصعب القبض عليه، إذ يختلف معناها لغة واصطلاحا، كما يحمل دلالات ومعان عديدة .

في لسان العرب، << فرجة اسم، وفرجة مصدر. والفرجة : التفصي من الهم، وقيل: الفرجة في الأمر، ويقال ما لهذا الغم من فرجة ولا فرجة ولا فرجة. الفرج من الغم، يقال : فرج الله غمك تفريجا، وكذلك فرج الله عنك غمك يفرج، بالكسر . والفرجة الخلل بين الشيئين، والجمع فروج، والفرجة بالضم فرجة الحائط وما أشبه، يقال : بينهما فرجة أي انفراج، والفرجة الراحة من هم أو حزن أو مرض..>>. وحسب معجم المعاني الجامع : الفُرْجَةُ : الشقُّ بين الشيئين. والفُرْجَةُ انكشاف الهمَ.  والفُرْجَةُ مشاهدةُ ما يُتَسلَّى به.

 ويُعرّف باتريس بافيس الفرجة بكونها << كل ما يُعرض للمشاهدة >>، وعند بارت << الفرجة كونية تحت نوع كل ما يشاهده العالم >>..

والفرجة في الحلقة لا تكتمل شروطها إلا بتوفر عنصرين أساسيين كما يقول الدكتور خالد أمين << الفرجة فعل تشاركي يُحققه كل من المؤلف والمتفرج >>، إلا أن هذا الجمهور عاشق للحلقة يستوعب حضوره بالمشاركة سواء بالتصفيق أو الرد على الحكواتي، أو الانخراط العفوي في المساعدة على ضبط الحضور أو المساهمة في ثمن الفرجة، لأن قوة الحلقة في القوة الكامنة في مشاركة الجمهور..

هذا التفاعل الاحتفالي بين الجمهور وصانع الفرجة، هو ركيزة الفرجة وغايتها،لأن الجمهور هنا باحث عن خلاص ينقذه من ذاته المتشظية، بعد يوم من التعب والجري المحموم للبحث عن لقمة العيش، يؤكد ذلك الدكتور عز الدين بونيت في كتاب " الفرجة في المتخيل اللغوي العربي لتحديد ظاهراني "..<< لا تكون الفرجة إلا نتيجة فعل قد يتّخذ شكل الحاجة إليها،(الهم والغم الذي يدفع إلى البحث عن الفرجة) أو الرغبة فيها أو السعي نحوها أو القيام بما يؤدي إليها >>..

5 ـ ختاما..

حين كانت الجدات والأمهات حكّاءات رائعات يفتِلْن من مخيلتهن وتجاربهن وما ورِثنَه عن القدامى، حكايات صنعت جيلا يعتز بذاكرته وماضيه، وحين خَبت جذوةُ الحكايات وانطفأ ألقها من أفواههن، ما زالت الحلقة رغم احتضارها، حارسة الحكايات بامتياز، كما حرصت منذ القدم ألف ليلة وليلة حكايات شهرزاد، كما أنها ستظل غير مُعترفة بالحدود والاختلافات الثقافية لأنه من الإنسان البسيط وإليه، إذ بها تعيش الذاكرة ويمتد في الإنسان الأمل المفقود، كما ـ ورغمًا عن الفناء المحيط بالحلقة، سيظل الحكواتي /الحلايقي سادن الإرث المحكي، حارسا للأثر القديم الذي يحضن الإنسان في تجلياته، في سموه وانحطاطه، في عدله وظلمه، في حبه وكُرهه..

ماتت الحكايات في أفواه الأمهات والجدات، لكنها صمدت وهي تُصارع الزمن لتحيى في ذاكرة الحكواتيين والحلايقية، وتسري رقراقة على ألسنتهم تُعيد للزمن الغابر ألقه وفتنته، وتُدوّن عبر الحبرالجميل حكايات من بصموا الحياة والتاريخ والذاكرة.ز

ستظل الحلقة والحلايقي، رمزا من رموز الحكي على مر الزمن، قد تضعف، نعم، قد يُصيبها الفتور وتنزوي في خانة مُظلمة، وقد تحتضر، وقد ينتابها الإهمال.. لكنها لن تموت ولن تُصاب بالسكتة القلبية، لأنها من القلب تخرج صادقة تمحو عن الإنسان المهمَّش آلامه وتكالب الزمن عليه، لتُفرّج عن مكبوتاته لينطلق كما في زمن ما، انطلقت شهرزاد تحكي لتعيش ويعيش معها آخرون وأُخريات أحرارا..

هو ذا سر الحلقة، والحكاية، والحلايقي في زمن الناس البُسطاء، الباحثين عن الانعتاق والإمتاع والمؤانسة..

   عبد المطلب عبد الهادي

 (مسرحي كاتب من المغرب)

 

 

 

 

هوامش..

(*) ـ مثلٌ شعبي يَروج بين الحكواتيين

(**) ـ الحلايقي/الراوي/الحكواتي/القاص/القصّاص/الحكّاء/السامر وغيرها تفيد نفس المعنى، وهو الشخص الذي يحكي الحكايات لجمع من الناس.

(***) ـ " الكنبري " أو " لوتار " آلة وترية عبارة عن صندوق صوتي كدرع سلحفاة مغلف بجلد مقوى وله زناد طويل مزود بثلاثة أوثار.

 (****) ـ د. بولرباح عثماني ـ الوظائف والدلالات في الحكاية الشعبية بحث منشور في موقع شبكة النبا المعلوماتية.

(1) ـ محمد أديب السلاوي ـ المسرح المغربي البداية والامتداد ـ دار وليلي للطباعة والنشر مراكش ـ ط 1 ص 9 .

(2) ـ باتريس بافيس ـ معجم المسرح ـ ترجمة ميشال ف خطار .

(3) ـ د.عمر الرويضي ـ التواصل المسرحي أشكال التفاعل ومستويات التأويل ـ ص 7 .

(4) ـ د.عبد الله إبراهيم ـ موسوعة السرد العربي ـ الجزء الأول ـ ص 11 .

(5) ـ لطيف زيتوني ـ معجم مصطلحات نقد الرواية ـ دار النهار للنشر 2002 ـ ص 176 .

(6) ـ د. حسن علي المخلف ـ التراث والسرد ـ وزارة الثقافة والفنون والتراث ـ قطر ـ ص 271 .

(7) ـ حسن بحراوي ـ المسرح المغربي، بحث في الأصول السوسيو ثقافية ـ المركز الثقافي العربي ـ ط 1994 ـ ص 26.

(8) ـ أحمد بلخيري ـ معجم المصطلحات المسرحية ـ مطبعة سندي مكناس ـ ص 49 .

(9) ـ د.خالد أمين ـ أي واقع للفرجة المسرحية في مدينة اليوم ـ مجلة فكر العربية ـ العدد 6/2019 السنة 3 .

(10) ـ د.حسن لمنيعي ـ أبحاث في المسرح المغربي ـ مطبعة صوت مكناس 1974 ـ ص 1 .

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة