عندما تلتقي التقنية الشخصية بالأب ( الباث ) والأم الحائكة، ففي هذه الحالة سنكون أمام عمل خارج معنى النصّ، وذلك لتسلسل الأحداث المتاحة من خلال المعنى والموضوع، حيث تنقلب المعاني إلى موضوعات جليلة، يستطيع الأب أن يكون الصديق الكلي لأولاده ( الشخصيات الروائية )؛ وهي الإحالة التي تتماشى مع العمل الروائي النوعي، وأنت تراقب القراءة وتكون جزءا من عمل المنظور الكتابي. لذلك يؤكد المنهج السيميائي على المفاهيم اللغوية ومنها العلامات والإشارات؛ وليس التأكيد فقط على الحالات التوليدية في علم اللسانيات، واللغة في الرواية الحديثة لها طابعها الإرشادي من ناحية الاندماج مع الحدث ونقل الحدث التأثيري، ومن هنا نستطيع القول إنّها اللغة المؤثرة بالمتلقي تحمل مضامين المؤثرات من الناحية الموقوتة.
تتأثر العلاقات اللغوية بالمعاني التي تنقلها، وهي تلك المعاني التي لها علاقات أيضا مع المسميات والمتعلقات الذاتية وما يرسمه الكاتب عادة، قبيل الحدث الروائي، وأثناء الاختلافات الفردية، وكلها ذات علاقة بالمنظور النفسي وكيفية استدراج المتلقي وجعله الجزء النافذ في المنظور الروائي، كأن يقول لقد حدث هذا بالفعل، بينما كانت الأحداث خارج منطقته؛ وضمن منظور علم الاجتماع، حيث أننا نبحر بين مجتمع رافض لحدث ما، ومجتمع متقبل للأحداث التي يواجهها.
( وإذا كان علم النفس يدرس سلوك الفرد، فإن علم الاجتماع يدرس الظواهر المجتمعية التي تتصف بالعمومية، والاستمرار والاطراد، والإلزامية، والقهر والجبرية المجتمعية. وهناك علم النفس الاجتماعي الذي يدرس الجماعات الصغيرة ومختلف التفاعلات التي تتمّ بين الأفراد داخلها، سواء أكانت سلبية أم إيجابية. – ص 7 – نظريات علم الاجتماع – د. جميل حمداوي ).
إن الأعمال التفكرية تكون عادة، نتيجة من نتائج المنظور الانتقائي للمؤلف، فالذي أمامنا رواية غير عادية، وقد أطلق عليها الكاتب كريم عباس ( مصير بلقيس )؛ هل هو مصير امرأة ينتظره الكاتب، أم حدث بالفعل هذا المصير؟؟ ولماذا اسم بلقيس بالذات، علما بأنّ هناك العديد من الأسماء التي تبعث الجمالية في المنظور الروائي؟!
على مايبدو لي وللمتلقي وعن بعد، تحولت الحكايات المتتابعة إلى عمل روائي، هذا ماصرح به الكاتب العراقي كريم عباس حسن من خلال متابعة الحدث البلقيسي من شمال الدنمارك إلى مدينة السماوة، جنوب العراق من خلال أحد الشخصيات العائدة للرواية " وتشكل هذه الشخصية أحد الاسماء المقربة للكاتب، حيث تربطه صداقة من طراز خاص " ( انتقل عماد وعائلته من أوذنسة إلى ألبورك بعد أن حصل على عمل كأستاذ في جامعة ألبورك، وهذا ماسهل اللقاء بيننا رغم المشاغل اليومية لكلّ منّا. ازدادت اهتماماتنا ومسؤلياتنا في الدنمارك دون أن تؤثر كثيرا بما يحصل في العراق. واغلب الأخبار، هي حزينة ومؤلمة كثيرا، وكلما اتفقنا على أن نترك الحديث عن العراق.. نفشل – ص 8 – رواية مصير بلقيس – كريم عباس ).
وليس صدفة عندما نكون أمام واجهة تؤدي إلى النفعية، وهي تداولية اللغة الروائية والتي تنقلنا بطقوس خارج النصّ، ويمكننا ملاحظة ذلك من خلال بعض الأبعاد للشخصيات التي ظهرت في رواية ( مصير بلقيس)، حيث تشكل هذه الشخصيات والأسماء وسائل قريبة للحدث الروائي المنقول، لذلك فقد اعتمد الكاتب على ثلاثة محاور: الاختلاف الفردي / التفاعلات النصية / الأشكلة الواضحة.
رغبات الأسئلة كثيرة، ومنها الواضحة ومنها الغامضة، لذلك فالمنظور المشهدي المنقول جعل الحدث الروائي يتجه باتحاهات عديدة؛ ومنها الاتجاه القصدي وكيفية التعامل مع النقل بالضرورة، واتجاه النقل الفني وكيفية بناء العلاقات والمواقف التي يتم تشييدها لتكون عرضة للجدل والنقاش.
الكاتب العراقي كريم عباس حسن، استطاع أن يقودنا إلى النظرية التأثيرية والتي تلتزم بالسلوك المعتاد نحو الجاذبية لكي يكون المتلقي على بينة متواصلة مع أحداث الرواية التي نقلها من واقع مؤثر وإلى منظور أكثر تأثيرا، ولكي نكون مع هذه الخصوصيات فقد اعتمد الكاتب على عدة أشخاص وجعلهم أبطالا في رواية ( مصير بلقيس )، علما أن محور الكتاب مع الدليل الحِجاجي كان يدور حول فتاة اسمها ( بلقيس )، ولم اسأل الكاتب عن تلك الشخصيات، ولكن سألت الرواية نفسها لكي تخبرني بواقع الأشخاص والالتفاتات الفنية التي رسمها لنا كريم عباس.
الاختلاف الفردي..
الاختلافات موجودة، فهناك الاختلاف على المستوى اللغوي من خلال نظرية الاستعارة وهناك اختلافات الرأي والمستوى التدجيني المعتمد في الحالة العراقية، وهناك الاختلاف المزدوج، كأن يضع المرء ثقله على الآخر ويتشابه بالاختلاف ظانا أنّ ما قدمه يؤدي إلى الصواب. ومن خلال الشخصيات الروائية في رواية ( مصير بلقيس ) نلاحظ أنّ هناك اختلافات في السلوك اليومي، وقد أثر هذا الاختلاف على المنظور الحدثي في الرواية، ومن خلاله نستطيع الدخول لتبيان المسلك المعتمد في اختلافات المشاهد الروائية؛ وهي تخبرنا عن التصورات تارة، وعن الظنون المتبعة لكل مسلك أسلوبي تارة أخرى : ( الذي يشغل بال صديقي عماد هو الصمت، أو السكوت عن قضية وفاة بنت أخته بلقيس؛ يفكر ويحاور بين فترة وأخرى كلا من أخته حياة وزوج أخته الأستاذ حامد وزوج أخته الصغيرة سميرة. أما أخوان بلقيس الثلاثة فهم مشغولون بهمومهم ويفضلون الصمت أو السكوت، الصمت يفسره عماد على أنّ هناك حقيقة لايرغب الإخوان بالحديث عنها لأسباب اجتماعية أو هناك اتفاق لتنفيذ خطة ما، فإذا كان الصمت بدوافع اجتماعية حول وفاة أختهم، أو أنهم يعرفون الحقيقة على أنّ أحد الاحتمالين في وفاتها؛ الانتحار أو القتل هما الأكثر عمليا، ومهما كان الاحتمال فهو يضرّ بسمعة العائلة حسب أعراف المجتمع العراقي، التي تعتبر انتحار امرأة متزوجة ولها خمسة أطفال أمرا مشكوكا فيه – رواية مصير بلقيس – ص 88). ماذا يعني لنا اسم عماد، وقد شكل اسمه دلالة واضحة بين أفراد الأسرة من جهة والمجتمع من جهة أخرى، علما أن الكاتب تعاطف معه بشكل مفتوح وعلى مايبدو كان متفقا تماما مع آرائه والتي لاتخلو من الأخطاء باعتباره الشاهد الأول على وفاة ابنة أخته ( بلقيس )، شاهد عن بعد من خلال التقديرات فقط دون أن يكون حاضرا في الفعل الروائي، ولكن من خلال التدقيق إنّ ( الخال عماد ) تحلى ببعض الأخطاء وقد تجاوز بعض تلك الأخطاء من خلال ثقافته المميزة عن أفراد العائلة.
معنى عماد : العماد؛ كل ما رفع شيئا وحمله، إذن نحن أمام واجهة استثنائية في المجتمع العراقي، وهي الشخصية ( عماد ) والذي يعتبر الفريد من نوعه والعمود الأساسي لبيت أخته ( حياة ).
نبحر مع تلك الفتاة التي اسمها ( بلقيس )، وتكبر بلقيس وتصبح امرأة متزوجة، ولكنها تختلف كلّ الاختلاف عن عائلتها ( أخوتها أو أمها وأبيها )، فهي في طبيعتها متمردة عن قفص العائلة وعلى الجنس الآخر، ومتمردة على الأقربين أيضا، حتى فكرت أن تهاجر إلى بلدان اللجوء، فاختلف معها خالها ( عماد ) ونصحها أن تبقى بين أفراد المجتمع تحت تبرير أن الغربة لاتحتمل، في الوقت نفسه هو من اللاجئين وفي الغربة أيضا؛ وقد نسي أنّ المعيشة في العراق، تشبه فلما من الرعب.
وفي مفهوم الاختلاف، ومنه الاختلاف الفكري والاختلاف التجانسي في المجتمع المصغر الذي ينطلق إلى المجتمع المكبر، نلاحظ أن قوة الإجراء المعرفي المطروق، هو السائد في المفاهيم العرفية والتقليدية، لذلك فالصغير يخضع لرأي الكبير، والكبير يعتبر العراب الأول لجميع أفراد العائلة أو الأقارب؛ وإنّ ما يفيدنا هنا من آراء ومن طبيعة سكانية ومجتمعية، هي الدالة الحركية وفق المفاهيم المحددة والتي تحبس بقارورة من زجاج؛ فالاختلافات لاطعم لها وكذلك التمرد، والذي هو جزء من معاناة نفسية قد يواجهها الفرد بحكم تفكيره العميق، ولكن، مهما كانت الاختلافات فالذائقة البسيطة هي التي تسيطر على الحياة العامة؛ حيث أنها تضعنا أمام تعددية ضمن موضوعات مكتومة، وليس غريبا من هذه الموضوعات؛ أنّها تنفجر كي تؤدي مهامها، إما الهروب إلى جهة مجهولة ( دون موافقة الآخرين ) أو الانتحار، وفي الحالتين هو الموت بعينه بالنسبة لفتاة أو امرأة تحاول بكلا الاتجاهين و( هي محكومة كلّ الحكم ) أن تتحمّل وأن تكون واحدة من المجتمع مهما بلغت درجات العنف ضدّها بعد الزواج أو قبل الزواج.
التفاعلات النصية..
نعتبر التفاعلات المنظورة وغير المنظورة ذات سمة طبيعية في اليومي والمعتاد وفي البحث عن التغيير غير المعتاد. وأهم تلك التفاعلات تحدث بين الدال والمدلول، وعادة يتكئ الراوي أو التشخيصات التفكيكية على اللغة الوصفية، بينما الملاحظ أن في الكثير من الروايات يكون للوصف زوايا تتراوح بين الضيق والتوسع، واتساع هذه الزوايا يؤدي إلى التقليد الكتابي، لذلك يخبرنا علم الأسلوب بأن الخطاب المتقن هو خطاب إبلاغي، والذي يتحول إلى خطاب تأثيري من خلال النظرية التأثيرية التي تمتلك مساحة الرواية المنظورة كأحداث متتالية، تبني البنى الدلالية، فخلف كلّ بنية حدث سردي يقودنا إلى نماذج بين الإشباع والاكتفاء، إن كان هذا الاكتفاء ذاتيا أو افتراضيا مع الشخصيات التي تفيض في الرواية المنظورة.
الكاتب العراقي كريم عباس، استطاع أن يقودنا إلى تفاصيل ذاتية ومحورية، وكذلك إلى تفاصيل تعتمد تفكيك الحدث من خلال بعض التصورات بالرغم من واقعية الرواية، ومن خلال هذه التفاصيل تتداخل الجمالية والتي تظهر من خلال النظرية التأثيرية والتي تمتلك الأسلوب التحريضي في المنظور الروائي، وقد اعتمد الكاتب على النظرية التأثيرية وذلك لكي يكون المتلقي واحد من شخصيات الرواية؛ ليس فقط من خلال الاندماج والاندماج الذاتي، بل من خلال عوامل التحريض في كلّ مشهد اعتمده؛ وذلك للمعايشة المباشرة بين الواقع المنظور وبين الواقع الروائي. ( توصل عماد إلى حقيقة ثابتة لايمكنه الابتعاد عن التفكير بها، مفادها: إنّ بلقيس كانت تشعر بأنّ أيامها قليلة جدا والموت بانتظارها، حتى أنّها تتمناه. أما الأم حياة فقد أكدت هذه الحقيقة عندما أوصتها بلقيس بتوزيع ماتملك على بناتها فقط. وكذلك أخبرت سميرة خالها عماد، بأنّ بلقيس كانت دائما تردد بأنها ستموت قبل أختها وهي تطلب منها أن تهتم بكل ماتتركه من حاجات بعد رحيلها لبناتها الأربع. وأوصت أختها بأن تحتفظ بمذكراتها. – رواية مصير بلقيس – ص 82 ).
إنّ من أهم التفاعلات النصية، هي الأنساق السردية، والتي تشكل ارتباطا فعالا في سواقي الأحداث المنقولة، إن كانت هذه الأحداث خيالية وإن كانت واقعية، وتتشكّل لنا ضمن القول السردي للرواية، لذلك عندما نعتمد نصية الحوار القائم، فإننا نعني به الحالات الفنية والتقنية وكيفية الإجراءات الكتابية ونموها من خلال التفات الكاتب واحتيالاته ومخاتلاته في النصّ المكتوب. وتظهر بعض النسب المنسجمة من الذوات، وتشكل جزئية العلاقات المتاحة بين حركة الدوال في المنظور الروائي، وهذا ما لاحظناه بتعدد الشخصيات وأهميتها في رواية ( مصير بلقيس ) للكاتب العراقي كريم عباس.
الاسم؛ بلقيس، وقد شكلت دالة حركية بين الشخصيات الأخرى، لذلك عندما نقول تعددت الدوال، فهناك أهمية مشتركة بين دالة وأخرى، وبين شخصية وأخرى، وخصوصا أن الكاتب جمع شخصيات الرواية بعائلة واحدة وهي عائلة ( الأستاذ حامد )؛ ونلاحظ من خلال النصّ، إن الجميع تعاطف مع بلقيس، وإن كانت على خطأ، وهي تعرف جيدا غيرة الأخوان والزوج ( صادق ) وكذلك غيرة المجتمع، ومع أنه كان سلاحها الوحيد هو التهديد بالانتحار، وقد تركوها تعالج مشاكلها وحدها وكلما التجأت إلى شخصية من الشخصيات، أمثال : الأب، والأم والخال، بدلا من مشاركتها الحدث والذهاب معها على الصواب، كانت تُترك وحدها لمعالجة مشاكلها مع زوجها، وبما أن زوجها ( صادق ) كانت لغته وثقافته؛ العنف والضرب وهم على دراية بهذه الأمور، إلا أنهم ينتظرون تغييره من قبل زوجته بلقيس أو من خلال التأثير عليه بشكل جزئي؛ ومن مثل هذه الحالات بمجتمع رجولي وزوج يعاني من التخلف، من الصعب جدا أن نطالبه بالتغيير. وقد عانت ( بلقيس ) معاناة لا تشبه الآخرين وفي معيشتها مع زوجها ( صادق ) (( قالت بلقيس لخالها في أحد الاتصالات الهاتفية، إجابة عن سؤال وجهه الخال عماد لها؛ حول علاقة الحبّ بينها وبين زوجها فقالت: لاتوجد بيننا أيّ علاقة حبّ بالمعنى الصحيح، منذ ضربته الأولى لي، إنما يوجد الخوف منه في مشاعري. أشعر دائما أني في حالة الدفاع عن النفس، أحاول أن أتحاشى العقوبة منه ضربا، أو كلمة إهانة، أو نظراته العداونية. هذه الاحتمالات الثلاثة هي الردود الفعلية التي أتوقعها منه في أية لحظة، لكنّه في قرارة نفسه يعتبر نفسه أنّه يحبني كثيرا ويقولها أمام أهلي وأهله ويسميني " الحمامة "، وعندما يسألني كم أحبه؟ لا أستطيع غير الكذب للخلاص من عقوبته، فأقول له " طبعا أحبك أنت أب لأطفالي وليس عندنا غيرك"، لكنّه لايقتنع إلا أن أقسم له اضطرارا على ذلك أيضا. أنا أنتظر ربما سيغير أسلوبه في التعامل معي، ولا أدري كيف ومتى ؟ صابرة ولا أعرف حدود صبري... صدقني ياخالي، أتمنى الموت على استمرار العيش معه. – رواية بلقيس – ص 47 )).
يختلف مفهوم البنية السردية بين رواية وأخرى، والكثير من الروايات العربية تتخذ حياة شخص ما كبنية سردية؛ وهي تحضن الأساليب الجديدة بين اللغة وتركيباتها الحديثة، وعلم النفس ومنظوره الاجتماعي، وكذلك تجمع المقالة والأسلوب الشاعري، هذا بشكل عام ومنظور الرواية العربية واعتنائها بالبنية السردية، ولكن رواية مصير بلقيس، نلاحظ أنها قادتنا وتوقفت بعدة مراحل زمنية، ومنها زمنية الفتاة، وزمنية المرأة، وكذلك تبدلت دلالات الأمكنة حتى سافرت بنا إلى السويد ومنها إلى الدنمارك أيضا، وكذلك نقلتنا البنى الدلالية المكانية بين السماوة والحلة.
ويبقى المعنى الدافع للأمكنة والمعنى الدافع للحياة الفردية واختلافاتها هما سيدتا الموقف وتوقفاته بتلك المحطات التي نقلتنا من معنى إلى آخر، فعندما تتغير الأزمنة، فسوف تتغير الأمكنة، ونضع المكان على المكان، ولكن لانستطيع أن نضع الزمان على الزمان، بل الزمان على المكان، فالحاجة التي نقلتنا معها، هي حاجة لغة الحوار التي تباينت بين فترة وأخرى وبين مكان وآخر، لذلك عندما اختلفت الأمكنة والأزمنة، اختلفت لغة الحوار، وتشعبت مع تشعبات الأزمنة المطروحة في رواية مصير بلقيس.
الأشكلة والحركة الواضحة..
هي الاشتغالات الواضحة على مستوى الملفوظ؛ فتظهر موضوع المساءلة الصريحة، وعادة تدخلنا المساءلة إلى الحوارات الجارية ضمن السرد الروائي، لذلك فالمشهد الذي نعتمده ليس خارج القصدية، بقدر ما هناك القصد الإبلاغي من خلال ربط العلاقات بين الأشكلة ( الإعاقات ) وكيفية بناء البنية الاستفهامية في المنظور السردي للرواية وكذلك البنية الحركية للشخصيات، فعلامات الاستجابة تتبين على الوجوه عادة، ونعرف من خلال الوجه أو الابتسامة أيضا بالتعرف على بعض الشخصيات التي لم نلتق بها سابقا، ويؤكد علم النفس في موضوع، بين الشخصية والفكر على أنّ: ( الشخصية هي التنظيم التي يتميز بدرجة من الثبات والاستمرار لخلق الفرد ومزاجه وعقله وجسمه والذي يحدد توافقه المميز للبيئة التي يعيش فيها. – ص 8 - علم النفس بين الشخصية والفكر- إعداد الشيخ كامل محمد محمد عويضة ). فالشخصية عندما تكون في مكان عام تختلف عندما تكون في البيت، وكذلك تختلف عند زيارة الآخرين أو في العمل أو امتحان وتجربة عملية في دائرة أو مدرسة..
ومن تلك الأشكلة والحركات المتغيرة التي واجهتنا في رواية مصير بلقيس:
اقتناص الفراغ: في بعض الاحيان تنغلق القصة أو الرواية عندما تكون البنية اللغوية غير قادرة على هدم التفكيك وترسيخ المنظور السردي، لذلك أي عمل أدبي أو مشروع، يترك بعض الفراغات، ومنها فراغات الحوار وانتقالاته بين الشخصيات، وكلما تعددت الشخصيات ازادت لغة الحوار، أي يكون التواصل مع الشخصيات ذا سمة مألوفة مع السياقات أولا ومع الجمل التأثيرية والتي تكون لنا مشهدا كاملا ثانيا، وقد يطول هذا المشهد أو قد يُختصر بواسطة الجمل المتراصة والتي تبعث القوة وقوة اللغة وتقشفها في العمل الروائي، لذلك يكون انفتاح العمل الروائي ذا أهمية للتواصل مع الأحداث المتتالية والمتراصة وتكون السبب في تراص الجمل.( لا أرغب أن تعيش ابنتي مطلقة وهي في عزّ شبابها. ماذا ستظنّ الناس بابنتي؟ المطلقة تجلب سمعة سيئة لها ولعائلتها... لكن فات الأوان. هذا أكبر ذنب اقترفته بحياتي. – من حوار بيم عماد والأستاذ حامد – ص 77 – رواية مصير بلقيس ).
الفراغ المتواجد من خلال هذا الحوار، هو بين الدنمارك والعراق، حيث أن الحدث الروائي وبلورته لغويا، نبع من مدن عراقية، وتواصل في الدنمارك وقد اختلط الكاتب مع شخصية مهمة من شخصيات الرواية ( عماد )، والذي مثل الناقل الأساسي لأحداث الرواية عن بعد وعن قرب. وبما أن الناقل ذو شأن مع المغدورة، فقد أسس لنفسه بعض المسؤولية واللوم، ولم يكن متوقعا ان تصل حالة ابنة اخته إلى نهاية غير معروفة.
العلاقة خارج النصّ: إنّ الجمل النصية هي ليست وحدات معزولة في النصّ أو المشهد، بل هي جمل متواصلة ومرتبط بعضها ببعض، لذلك تكون المعاني امتدادية مع الجمل المتواصلة، وعندما نخرج من معنى ندخل إلى معنى آخر، وهكذا؛ وفي نفس الوقت تتحول هذه المعاني إلى مواضيع من خلال الجمل المركبة والتي تؤدي إلى جمالية اللغة ومحتوياتها، وحتى تلك الباعثة إلى الحزن، فلدينا الحزن الجميل التواصلي، هذا إذا أدركنا أننا في داخل النصّ، وخارج النصّ أيضا، أي أن هناك محدودية، ولكن في نفس الوقت أي نصّ روائي له علاقاته الداخلية المتبينة من خلال المسميات وله علاقاته الخارجية بين محيط النصّ ومجاوراته، ولكن الذي يهمنا في رواية مصير بلقيس، هو العلاقات النصّية، لكي نصل إلى علاقة متبينة بمحتوياتها من خلال ظهورها الآني، ألا وهي العلاقة خارج النصّ بين الشخصيات النصّية.
( فاجأني اتصال عماد بعد مرور شهر على وفاة بلقيس فقال: " شنو رأيك تجي ويايه للعراق ؟ آني قررت الذهاب بمناسبة أربعينية بلقيس."
-فكرة جيدة بالنسبة لك، لكن أعذرني آني ماعندي أي سبب للسفر. كنت هناك قبل شهرين وأنت تعرف ماكو أي حافز عندي للسفر. – رواية مصير بلقيس – ص 68 ). ومن خلال هذا المشهد نلاحظ أن العلاقة المتواجدة هي علاقة خارج النصّ، ومن الطبيعي أن ترتبط هذه العلاقة بمحورها النصّي الروائي.
مجاورات النص: تقع مجاورات النصّ على عاتق المتلقي، إن كان الجزء منه يمثله أو يهمه من خلال المؤثرات، أو الجزء الذي اندمج في ذهنية المتلقي أو الآخر، لذلك قراءة المشهد النصّي يكون معتمدا على إداراك القارئ أولا، ومعتمدا على إدراك المتلقي الذي حوله الكاتب ليكون أحد أجزاء النصّ ثانيا؛ والمهمة التي تقابلنا في رواية مصير بلقيس، مهمة تفكيك حالة الوفاة التي انتهت باتصال تلفوني من قبل زوج بلقيس ( صادق )، وهو الشخص الوحيد المتهم بقتل زوجته، ولكن من خلال إعادة تفاصيل الحدث تبين أنه المتضرر الأول ليصبح هنا خارج الاتهام، وجزءا من النصّ لكي يبحث الباث عن وسيلة أخرى لمقتل بلقيس والتي شكلت المحور الأساسي في الرواية.
اقتناص اللغة العامية: ساد في رواية ( مصير بلقيس ) المنظور الفصيح كواجهة عامة للرواية، ولكن في نفس الوقت زركش الكاتب بعض الالتقاطات من اللهجة المحلية، وهي تلك الالتقاطات التي على مايبدو لا يستطيع أن يتخلى عنها في لغة الحوار؛ لذلك فالعلاقات أوصلها الكاتب لنا، من خلال الأشخاص نفسهم، وكذلك فقد تخاتل واحتال الكاتب على المتلقي، لكي يكون لفعل الإثارة حركته المتتالية وخصوصا للناطقين باللهجة العراقية، ومن مثل هذه الروايات يكون توجيهها الأول للشخص العراقي، وفيما بعد للناطقين باللغة العربية، وهي عوامل لاتؤثر على مسيرة الرواية ولا تقلل من شأنها إذا المرء ( غير العراقي ) استطاع أن ينزل إلى فلسفة الشخصية العراقية كنموذج فعال في الرواية أولا وفي الحياة العامة ثانيا.
-( حبيبي صادق.. حاول تركز معي شوية واتوضحلي الحادثة. )
-( ليش هم ماحلكولك عن الحادث المشؤوم...؟ أنت لو تدري بي آني بأي حال... فأنا أكثر واحد متضرر من غيابها،
صحيح أختي صالحة تساعدني كثيرا لكن الثقل كله صار فوق راسي، يعني لازم هسه أصير أم وأب في نفس الوقت، له المشتكى – رواية مصير بلقيس – ص 101 ).
في كلّ مرة يجرّ ( عماد ) جرعة صوتية تعينه على التفكر بوفاة ابنة أخته، ولأن هذه الجرعة لها تفكيرها العميق، ولها زمنيتها إلا أنها تنتهي بلحظة عند الحوار، وذلك بسبب قوة اللحظة التي سرعان ماتنتهي دون نتائج، وهي خصوصية تعلق الكاتب بالحدث وعدم انهاء الحدث بالشكل المطلوب، حيث أنه يجعل المتلقي يفسر معهم الأسباب، ويجعله يتعاطف أيضا مع الشخصيات العائدة للفقيدة.
*** *** ***
رواية مصير بلقيس
تقودنا الرواية لكاتبها كريم عباس حسن بين السرد وأحلام اليقظة، فقد تخاتل الكاتب مع الأحداث واستطاع أن يجذب شخصيات الرواية إلى دائرته وهو الحالم اليقظ، وتعتبر تدخلاته جزءا من الشخصيات خارج النصّ، ومن خارج النصّ نقرأ أيضا اللقاءات والأحلام والاستعارات والتشبيهات وكما أدخل الكاتب نظرية التأثير التي تكلمت عنها، ومن خلال هذه الاتجاهات جعل المتلقي لاينتهي، حيث بقيت الشكوك معلقة، ولم تنته تلك الأحداث نتيجة لقاء تلفوني أو رسالة كتبها أحد الشخصيات في الرواية.
واعتمد الكاتب على نسيج من الاستعارات والرمز الخيالي من خلال الحوارات التي رسمها هنا وهناك، حيث أنه أعطى بعض المقاييس بين الخيال والواقع، ورسم الرموز على صيغة أسماء وإن كانت تلك الأسماء واقعية ولكنها كانت متجانسة مع الأحداث من خلال منطق المعاني، وذلك لإيجاد مقايسة بين عالمين، عالم المرء الذي يعيش في العراق متمثلا بالمرأة العراقية، وعالم المساءلة الخارجية والتي بنت نفسها في الدنمارك محطة سكن وإقامة الكاتب. ومن خلال هاذين العالمين نستطيع أن ندمج القياسين بقياس واحد، وهو جريمة القتل، أو حالة الوفاة انتحارا، أو قتل المغدورة نتيجة خطأ طبي عندما تمّ نقلها إلى المستشفى ومعاينتها من قبل رجل غير مختص.
ونستطيع أن نذهب مع الرواية بالكثير من العناوين ومنها مثلا : المخيال الاجتماعي والدليل الغريزي، ويأتي الدليل الغريزي من خلال التفكر خارج النصّ، وهي القياسات التفكرية التي تطرأ على الكاتب من جهة وعلى شخصيات الرواية من جهة أخرى.