1- على سبيل البدء.
لا يختلف الباحثون المهتمون بالشأن الشعري المغربي في كون تجربة الشاعر المغربي "أحمد المجاطي" الشعرية تجربة فريدة ومتميزة، تكمن فرادتها وتميزها في أنها استطاعت بشكل نَضِجٍ التأسيس([1]) لمغربية الشعر العربي المكتوب من طرف المبدعين المغاربة، الذين كانوا إلى عهد قريب، ينعتون وينعت منجزهم الشعري بالتبعية والتقليد للشعر المشرقي.
ولعل التدليل على ما ذهبنا إليه يتمظهر فيما تنماز به معظم قصائده الشعرية من خصوصيات، يطبعها العمق من جهة، والأصالة من جهة أخرى، بحيث يتبدى العمق من خلال مرس المجاطي بالشعر العربي القديم والحديث، حفظا ومعرفة وتدريسا، وكذلك من خلال ضبطه التام لعلمي البلاغة والعروض، هذه المعارف والعلوم عمقت قصائده الشعرية وخصبت مستوياتها الدلالية المعنوية والتخيلية والإيقاعية، ثم الأصالة المغربية المتجلية في ارتباطه الأثيل الأثير بهموم وطنه، وبهموم باقي الأوطان العربية.وقد أسهم المجاطي بالإضافة إلى مجموعة من الأسماء الشعرية المغربية الرائدة([2]) في إغناء مسار القصيدة الشعرية المغربية الحديثة، وذلك بنقلها من ضيق التقليد للشعرية المشرقية إلى رحب التجديد في الشعرية المغربية، التي صارت بعد ذلك نموذجا جماليا متفردا، دفع الشعرية المشرقية إلى الاقتداء والتناص مع مختلف مكوناته الموسومة بالتعدد والغنى الناتجين عن التنوع الثقافي والحضاري المغربيين، كما تفاعلت معه عدة شعريات غربية، انطلاقا من إنجازها لترجمات شعرية تترى ابتغاء الاسترفاد منه والانفتاح على خصوصياته.([3])
و رغم أن المجاطي كان مقلا في كتابة القصائد الشعرية إلا أن هذا الأمر ما عُدَّ نقيصة أو عيّا في مقدرته الشعرية، بل كان رهانا حصيفا على تلك القصيدة الأولى، أو القصيدة التي لم تُكْتَبْ بعدُ؛ لذلك كان يردد في غير ما مرة قوله المأثور:" لا نحتاج إلى من يكتب العشرات من الدواوين، بل نحتاج إلى من يكتب القصيدة الأولى"، وفي هذا إشارة عميقة إلى أن مكانة الشاعر وقيمة شعره لا تحدد في كثرة الدواوين الشعرية، ولا في كثرة الإصدارات والطبعات، وإنما تحدد في إجادة وإبداعية ما يكتبه من نصوص شعرية ضافية بالقيم الجمالية والإنسانية العليا.
ولعل الاطلاع على ديوانه الوحيد المسمى "الفروسية" يعد خير مثال وأفضل نموذج، يمكن أن يلمس فيه القارئ الخبير بمضايق الشعر تلك الجودة الإبداعية، التي راهن عليهما خلال عمره الشعري، المتجاوز لأربعة عقود، لذلك كله، يجدر بالقارئ الشاغف بالشعر المغربي الحق عدم الصدوف أو القفز على تجربة الشاعر أحمد المجاطي الشعرية، إذا ما أراد استجلاء الجوانب الدالة و المؤسسة لمغربية القصيدة الشعرية، المبنية عنده أساسا على حب الإنسان و المدينة و الأمكنة المغربية.
2- في أحياز القصيد
تفتح قصائد الشاعر أحمد المجاطي ذائقة القارئ على تلك الخصوصية المغربية الدالة على عشق أوريفيوسي للإنسان و للمدينة المغربيين، و يمكن الإشارة إلى ذلك العشق الأبدي للإنسان المغربي الوامق لوطن يحفظ كرامته و حقوقه، من خلال المقتبس الشعري المقتطف من قصيدة "الدار البيضاء"، الذي يقول فيه:
"حينَ أذكرُ أحبابَ قلبِيَ
أنثرُ أسماءَهُمْ
وَاحداً
واحداً
حينَ أذكرُ أحبابَ قَلبِيَ
هَلْ أنتِ سائحةٌ
يَستَبي الرَّملُ أحلامَكِ الْبَارِيسيةَ،
ها أنا ذا أُمسكُ الرِّيحَ
أَنسجُ من صدإِ الْقَيدِ رايَهْ
ومِن صدإِ الْقَيدِ
مَقْبرةً للحروفِ
ومِحبرةً للسُّيوفِ
وقَثارةً لِلشَّجنْ
وَأنتِ، على شِرعةِ الصَّمتِ،
مَمْدوةٌ
بينَ قَيدي وبيني
وبينَ حدودِ الْوطَنْ
أُسامرُ فيكِ رِياحَ الأحبهْ
أُسامرُ أمطارهُمْ
في المنافي
وأشلاءَهُمْ في بُطون الْفَيافي
وأنتِ على شِرعةِ الصَّمتِ"([4])
في هذا المقتبس الشعري المشحونة مجاريه بدفقات الحب الهتان و التذكر الفتان لأولئك الأحباب المفقودين بمدينة الدار البيضاء، ينثر شاعرنا المجاطي أسماءهم و ذكرياتهم عبر الشوارع و الأزقة و الدروب، متذكرا كل اللحظات الفاتنة، التي عاشها معهم، و كل المسامرات العبق عطرها و الفواح أريجها على ربى الذكريات الضواعة ما بين أحياز وجدانه و ضفاف قلبه، رغم الجو الكالح المأساوي، الذي يخيم على ملامح المدينة الخاسئة جراء القتل و التعذيب، الذي مارسته قوى القمع سنة (1965) على كثير من مناضليها الأبرار.
و لا يتوقف بوح الشاعر عند أطياف الذكريات، التي عاشها مع أحبابه في الدار البيضاء، بل يتجاوز ذلك إلى التعبير عن معاناة كل مغربي مقهور مكسور، مسلوب الحقوق مغدور، و عن وضعه الكالح الجارح جراء الفقر الموتور، الذي تجرعه ذات خيانة عظمى قام بها من كان يتوسم فيهم الخير للبلاد و العباد. و في هذا السياق يصور الشاعر لنا ذلك الإنسان الكادح، نائبا عنه في التعبير:
"أنا المَنسيُّ عند مقالعِ الأَحْجَار
و تحت الصَّخرةِ الصّماء
تَأكلُ من شَرايينِي مسَاميرُ الدُّخان
أكَادُ لا أصْحُو و لا أغْفُو
أنا المَنسِيُّ
يَسمرُ عِند أبوابي نُباحُ اللَّيلْ
ويَرقُص في بصيصِ النَّجمِ
ظِلٌّ من شَياطينِ
تَطاولَ ظلُّ أجنحةِ الصُّقورِ
غَفَا
عَلى بُسُطِ البُحيرةِ طحلبٌ
ومَشتْ على عَيني
سَحائبُ نَشوةٍ بالموتٍ مبلولَهْ
وتَنبُشُ في الترابِ يدي
وأفتلُ في ظلامِ اللَّيلِ حبلاً
رُبّما جَدّلتُ سبعَ ضفائرٍ
لبناتِ أُختي
أو سَمعتُ الفَجرَ أذَّنَ
فاسْتَثَارتْنِي شُكوكٌ"([5](
تتبدى في هذه الأسطر الشعرية صورة ذلك الإنسان المغربي المقهور، المنسي وراء الجبال و وراء مقالع الرمال و الأحجار، كأن قدره هو العمل الشاق، هو العبودية، هو الموت تحت الصخر الأصم، الأمر الذي تؤكده مجموعة من الصور الاستعارية الرمزية الموغلة في السخط و الغضب من الوضع الكارثي، الذي يعيشه المغربي الغريب في وطنه، المنسي عند مقالعه، حتى أنه صار لا هو بصاح و لا هو بغاف، لكن ذات الشاعر لا تتوقف عند هذا المستوى من التشخيص الشعري للوضع الكارثي القائم، الذي يعيشه الكدح المغاربة، بل تتجاوزه محاولة تحفيز كل مغربي على عدم الخضوع أو الخنوع أثناء مواجهة الفساد و المفسدين، و ذلك من أجل حصوله على حقوقه الطبيعية، التي يكفلها له الدين و المواثيق الدولية و الحقوق الإنسانية، و إلى ذلك يدعوه الشاعر قائلا:
"فانزل معي إلى البحر
تحت الموج و الحجاره
لابد أن شعلة تغوص في قراره
فارجع بها شراره
تنفض توق الريح
من سلاسل السكوت
تعلم الإنسان
معنى أن يموت"([6])
هكذا يحفز المجاطي أخاه المغربي المهضومة حقوقه و المسلوبة حريته، على أن يأخذها غلابا و دون مساومة مع هؤلاء الظالمين الفاسدين، طالبا منه النزول معه إلى قعر البحر، بحثا عن شرارة الثورة المُكَسِّرَةِ لكل قيود السكوت و لجل سلاسل الخوف، التي منعته من المطالبة بحقوقه المسلوبة المغتصبة، و منعته أيضا من تعلم الموت مرات و مرات، حتى يتسنى له استردادها.
إن هذا النفس التحفيزي التشجيعي كثير في شعر المجاطي، وهو رهان راهن عليه طيلة عمره الشعري و قبله الرمادي؛ لأنه كان يرى أن رسالة الشعر ينبغي أن تحفز المغاربة الكُدَّحَ على انتزاع حقوقهم السليبة، مهما تكن نتائج ذلك الانتزاع، و ينبغي لتلك الرسالة أن توقظ المتخاذلين السلبيين، من أجل أن يطالبوا بحقوقهم الشرعية، التي تكفل لهم حق العيش الكريم.
و من المقاطع الموغلة دلالاتها في تحفيز الكدح المغاربة، بل و في شجيعهم على الفعل الثوري المؤدي إلى معانقة سماء الحرية الحقوقية بشتى أنواعها، قول المجاطي في قصيدة عودة المرجفين:
"أنا بالثَّورةِ عانَقْتُ السّماءْ
أنا نَبعُ اللهِ
في قَلْبِي ارْتوَى
ذَوَّبتُ نهرَ الدَّمِ
في قطرةِ ماءْ
أنا لَمْ أضحكْ
ولكنَّ الذي استَغْوى أساريري
انتِصاراتي علَى الْموتِ
امْتِدادي في مهَبِّ الرِّيحِ
تَفْجيري الأسَى
في سَطوةِ الدّهرِ الَّعينَهْ
أنا من أسلَمَ للخًلْدِ يَقينهْ”([7])
بهذه الروح الثورية الجسور، يستطيع المجاطي و من خلاله جميع المغاربة عناق سماء الحقوق السليبة، بعد أن يفجروا ألغام الأسى اللعين، و يدمروا أسباب الإملاق القاتل، و ينتصروا على الفاسدين و المستعمرين الذين كرسوا الفساد و الاستغلال لخيرات البلاد دون حسيب و لا رقيب، و بذلك يحق للشاعر و للمغاربة أن يسلموا للخلد يقينهم، و أن يبقى ذكرهم حيا و ذكراهم خالدة سرمدية دالة على نجاحهم الممهور بطعم الفوز، الذي انتظروا تحقيقه بشغف و بأناة لم تتطرق لهما سهام اليأس أو القنوط.
و من صور النضال الطلابي، الذي وسم حياة الطلبة المغاربة بالقلعة النضالية العتيدة ظهر المهراز بفاس، يقدم لنا المجاطي لحظة من لحظات انخراطه في النضال رفقة الطلبة هناك، أيام تدريسه بكلية آدابها، يقول في خضم الهتافات، بعد أن عبّر عن مشاعر الفرح الحربائي، الذي سكن قلوب بعض أذناب طغاة الوطن:
وَها إنَّكَ الآن تَجلسُ
مُنْتَشِيا بالقرارِ
ومنتشيا بانكسارِ النَّهارِ
ومُنتشياً...
حسناً
غير أنِّي تَخيَّرتُ صفَّ الْخوارجِ
هذي هُتافاتُنا
تملأُ الرَّحبَ
فاسْترِقِ السَّمعَ
إن شئتَ
أوْ فادْعُ نادِيكَ المتمركزَ
في الحَرم الجامعيِّ
استرحْ
لحظةً
ثمة ابتدأ الزَّحفُ
كانوا خِفافاً
تعالت أكفُّهمُ
اطلقوا النَّارَ
فانفتحتْ ثَغرةً
في صفوفِ الخَوارجِ...
يا أيُّها الْوافدً المُتَلفّعُ
بالدَّمعةِ النَّازفَهْ
قِفْ على مدخل الْحيِّ
حيثُ اسْتدارتْ
رؤوسُ الْعُصاةِ
وهذا دَمي
ولتكنْ فاسُ كَأسكَ
إنَّ الرِّباطَ التي تَتَعهرُ يوماً
تُعيدُ بَكارتها
تَتستَوي طِفلةً
فَسلاماً
إذا جاءَ يوماً قرارٌ
يعيدُ الرُّؤوسَ
لأعناقِها
والدِّماءَ
إلى حيثُ كانتْ تَسيلْ
وقرارٌ بوقْفِ الزَّمانِ
وإجلاءِ زَالاَغَ
عَنْ حُبِّهِ الْمُستحيلْ
وقرارٌ يقيمُ على الهَرْطَقَاتِ الدَّليلَ
سلاماً سلاما"([8])
إن الشاعر في هذا المقطع، يصطفي صف طلبة القلعة المناضلة ظهر المهراز بفاس، الذين و صفهم بالخوارج، متخذا من قصة الخوارج مع سيدنا عليا، كرم الله وجهه رمزا نضاليا، لا ينحني و لا ينقاد للغير، بل يواجه الطغاة و قوى القمع بجسارة و بتجلد كبيرين، ورغم تصاعد النضال و ازدياد حدته، فإن قوى القمع لم تجد بدا من أن ترمي المناضلين بالرصاص الحي، لتفتح ثغور الدم الزكية بينهم، دافقة و شاهدة على جرائم ضد الإنسانية، جرائم تعري سطوة و طغيان أجهزة القمع في ذلك الإبان، ثم ختم المجاطي هذه المقطع الشعري بنبرة استهزائية ساخرة، كما هي عادته، توهم أن التصالح مع الطغاة سيأتي، وستعود الرؤوس المقطوعة إلى مكانها، و الدماء المهدورة، والنفوس المغدورة، التي طالت الطلبة و المناضلين خلال المواجهات، لكن، هل أتى عهد جديد فيه الحرية من الاستعمار و أذنابه، و فيه المصالحة و التآخي؟؟
نترك الإجابة عن هذا السؤال إلى النص الشعري الآتي، الذي يسرد فيه المجاطي ما حدث لأحد رموز الثورة و النضال بالشمال المغربي، المتمثل تخصيصا في جبل الريف الشامخ الأبي، الذي صد كثيرا من الضربات الاستعمارية، و هزم الاستعمار الإسباني في عدة معارك، ناهيك عن اجتثاثه لكل أذنابه و مسانديه، لكنه في النص الآتي، تعرض للدك و التعثر، و هذا ما عبّرَ عنه المجاطي في نصه:
جبل الريف على خاصرة الفجرِ تعثَّرْ
هبَّتِ الرِّيحُ من الشَّرقِ
زَهتْ في الأفُقِ الغَربِيِّ
غابات الصَّنوبَرْ
لا تَقُلْ للكأسِ:
هذا وَطنُ الله
ففي طنجةَ يبقى اللهُ في مِحرابِهِ الخَلفيِّ
عطشان
ويستأْسدُ قيصرْ
***
هل شربتَ الشَّايَ
في أسواقِها السُّفلَى
غمستَ العامَ
في اللَّحظةِ
واللحظةَ
في السَّبعينَ عامْ
أم شققْتَ النَّهرَ في أحشائِها
قُلتَ:
هي اليرموك
والزَّلاقةُ الحسناءُ
من أسمائِها
قُلتَ:
هيَ الحرفُ
على شاهدة القَبرِ.
يُغنّي
وعلى سارِيَةِ القَصرِ
يَموتْ
وعرفتَ الله في مِحبرةِ الرُّعبِ
وقاموسِ السُّكوتْ
***
تخرجُ الأكفانُ من أجداثِها
يوماً
وتَبقى هاهُنا العَتْمةُ
والسَّائِحةُ الحَمقاءُ
والْمَقْهى الذي اعتَدنا بهِ المَوتَ
مَساءا
ربَّما عاجَ بنا الفَجرُ على دارةِ من نَهوى
قليلاً:
«فَخططْنا في نَقَا الرَّملِ ولَمْ تَحْفظْ»
ويَبقَى الحرفُ مَصلوباً على سَارِيةِ القَصْرِ
كأنَّ اللهَ لمْ يصدعْ بِهِ
سيفاً
وشمساً
ورَجاءَا
ليتَهُ مالَ على مُراكشَ الشَّمطاءِ
نَخلاً
وعلى كُتبانِ ورزازاتَ
ماءا
***
آه أمسى جبلُ الريفِ سراديبَ
وَعادَ الصَّمتُ مِنبرْ
لاَ تَقلْ لِلكأسِ هذا وطنُ
اللهِ
فَفِي طَنجةَ
يبقى اللهُ في مِحرابِهِ الخَلْفِيِّ
عَطشانَ
ويستأْسِد قَيْصرْ"([9])
يؤكد المجاطي في هذه النص الشعري على أن الطغاة/ القياصرة، مازالوا يواصلون استئسادهم و تجبرهم على كل المناضلين، الذين تعثرت و باءت بالفشل نضالاتهم و ثورتهم، المرموز إليها من طرف الشاعر برمز طبيعي هو جبل الريف، الذي تعثر و أخفق في تحرير الوطن من أيدي القياصرة الطاغيين، و لعل تأوه المجاطي في الأخير دليل بين القسمات على اعترافه المرير باستمرار استئساد و تجبر القياصرة، و أن حلم نجاح الثورة ، و تصحيح المسار، سيبقى ورديا إلى أن يقف جبل الريف بعد عثرته، التي مازالت تجثم على أنفاس أبنائه و على أنفاس أبناء جبال الأطلس المغربية المنسية، المكتوية بنيران الإقصاء و التهميش و الحيف، فمتى يا ترى نرى أركان القياصرة قد رجت و زلزلت، حتى تنعم البلاد و العباد بالأمن و بالهناء و بالتداعة المعيشية؟
و بالإضافة إلى الإنسان المغربي، خصص المجاطي مجموعة من القصائد لبعض المدن المغربية، ذلك أن المدينة المغربية بله العربية، لها تاريخ و جذور ضاربة في القدم، و شواهدها العمرانية دالة على تاريخ طويل عريق من الخصوصية و المعيش المغربيين، بحيث يفرضان على الشاعر التعبير عنهما و التفاعل مع أجوائهما، تجنبا لتعال مرفوض، أو تهويم سريالي مردود كما هو شأن بعض السديمين، الذين يتوهمون أنهم عن الشعر و الواقع يصدرون، لكنهم في حقيقة الأمر بعيدون كل البعد عن الشعر و عن الإحساس بجماله في الذات و في الواقع.
و من المدن المغربية، التي بثها الشاعر تساؤلاته و ملاماته، باعتبارها موطن الولادة و مسكن الطفولة، مدينة الدار البيضاء، التي يقول عنها:
تَساءَلتُ:
هل أنتِ عاشِقتي
لِمَ لَمْ تَزرعِينيَ في رَحم الأبديةِ
أو تزرعينيَ بينَ التَّرائِبِ
والصُّلبِ
ظَلَّت عيونُكِ شاخِصةً
كنتِ حبلَى
احْتوتْني الزَّنازِنُ
أَبصَرتُ أحبَاب قلبيَ
أبصرت أحباب قلبيَ
قَتلَى
وهَا أَقبلَ الصَّيف يَطرقُ بالشَّمس وَالدَّمِ
أبْوابكِ المقفلهْ"([10])
الشاعر في المقطع يؤنب مدينته الحبيبة، ويوجه لها اللوم و العتاب من خلال الاستلزام الحواري، الذي خرج فيه أسلوب الاستفهام عن مقصديته القائمة على طلب الإجابة عن تساؤل ما إلى مقتض جديد هو اللوم والتقريع، وسبب ذلك هو خذلان مدينة الدار البيضاء له، بعدما لم تستطع تأبيده في رحم الأبدية، ولم تقو على إرجاعه إلى الصلب و الترائب، كي لا يرى ما حل بها و بأبنائها، في حين ظلت هي شاخصة صامتة، لا تستطيع أن تمد له و لهم يد المساعدة، و اكتفت برؤية بعضهم قتلى و البعض الآخر معتقلا في أقبية السجون.
و إلى جانب مدينة الدار البيضاء المباءة بسبب الفساد و التقتيل، نجد المجاطي قد خصص قصيدة لمدينة مغربية أخرى هي مدينة سبتة المحتلة من طرف كيان الاستعمار الإسباني؛ حيث يقول في مقطعها الأول:
" أنا النهر
أمتهن الوصل بين الحنين
وبين الربابه
وبين لهاث الغصون
وسمع السحابه
أنا النهر أسرج همس الثواني
وأركب نسغ الأغاني
وأترك للريح و الضيف
صيفي
ومجدول سيفي
و آتي على صهوةِ الْغَيمِ
آتي على صهوةِ الضَّيمِ
آتي على كلِّ نَقْعٍ يُثارُ
وآتيكِ
أمنحُ عينيكِ لونَ سُهادي
وحزنَ صهيلِ جَوادي
وأَمنحُ عينيكِ صولةَ طارِقْ
وأَسقطُ خلفَ رمادِ الزَّمانِ
وخلفَ رمادِ الزَّوارِقْ"([11](
في هذا المقطع المأهول بالوعود، يخبر الشاعر/ النهر مدينة سبتة السبية بمجيئه على الغيم أو الضيم أو النقع المثار، كي يمنحها الحرية المنشودة والانتصار الموعود، بعد أن يطرد المستعمر الإسباني الغاصب، الذي استأسد عليها ردحا من الزمن، مستنزفا خيراتها وسارقا كنوزها، ومستعبدا لسكانها، ومازال إلى حدود كتابة هذه الأسطر يستنزفها ويسرقها أمام العالم وأمام سلطات الوطن، التي لا تحرك ساكنا، وبالنتيجة، ستبقى سبتة وإلى جانبها أختها مليلية تحت نيره، تنتظران أن يولد طارق مغربي آخر، يستطيع أن يفتحهما ويحررهما من جديد، كما فتح الأندلس ونواحيها طارق بن زياد خلال الفتح الإسلامي لأروبا، فالشاعر كما نرى لم يأل جهدا شعريا ولا جهادا نفسيا( أمنحك عينيك لون سهادي ) تضامنا مع سبتة المغتصبة، ليسقط في الأخير خلف رماد الزمان وخلف رماد الزوارق في إشارة منه إلى عدم قدرته على تحريرها رغم تضامنه اللامشروط معها.
3- على سبيل الختم
تحصيلا لما سبق، نلمس أن مغربية شعر المجاطي، هي مغربية حب للإنسان وللمدينة المغربيين، وهي مغربية جمعية لا فردية أو ذاتية، لذلك جاءت أغلب قصائد الشاعر المجاطي موقعة بصوت الجماعة المغربية الساعية لمواجهة كل أنواع الفساد، وكل أشكال الذل الناخرين لجسد هذا الوطن، المثخنة أعضاؤه والمنتهكة خيراته من طرف الاستعمار وأذنابه، الذين مازالوا يستنزفون ويسرقون خيرات الوطن، دون التفات أو اهتمام بأبسط الحقوق الطبيعية للمواطنين المغاربة المفقرين عن سبق إصرار، في وطن مملوء بالكثير من الثروات البرية و البحرية، الأمر الذي دفعهم ومازال يدفعهم إلى تكثيف النضالات، وإلى تنويع أشكالها من وقفات واعتصامات ومسيرات و مقاطعات، ستؤتي أكلها ذات زمن قادم، أو بعد حين من الدهر، و مادام الحال كما تركها الشاعر أحمد المجاطي، فإن تحفيز وتشجيع المغاربة من خلال ديوانه الفروسية ذي القصائد الأصيلة العميقة، سيبقى مستمرا ومتواصلا؛ لأنه ببساطة يمس همومهم وطموحاتهم وآمالهم في غد أفضل يحفظ لهم كرامتهم ويوفر لهم عيشا كريما طيبا.
* ازداد الشاعر و الناقد المغربي أحمد المعداوي/ المجاطي عام:( 1936)م، بمدينة أزمور، بعد حصوله على البكالوريا، رحل إلى سوريا لمواصلة الدراسة الجامعية، و بها حصل على الإجازة، ليعود بعد ذلك إلى المغرب، حيث اشتغل أستاذا جامعيا بكلية الآداب ظهر المهراز فاس ابتداء من سنة: (1964)م، و في سنة (1971)م حصل على دبلوم الدراسات العليا، في موضوع: ظاهرة الشعر الحر في الأدب العربي الحديث(1947-1967)م، و على الدكتوراه الدولة سنة(1992)م حول موضوع: أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث، و صدر له ديوان شعري وحيد سماه الفروسية، نال على إثره جائزة ابن زيدون، التي منحها له المعهد الإسباني للثقافة بمدريد لأحسن ديوان بالعربية سنة: (1985)م.
[1] - يؤكد هذا الأمر عدد من النقاد المغاربة، نكتفي بذكر ما قاله الناقد محمد أديوان عن الشاعر المجاطي: لقد أفلح المجاطي في إخراج القصيدة المغربية من شرنقة الحداثة و مستنقعها كمفاهيم و تصورات إلى واقع الحداثة الشعرية كنظام و موازين للإبداع الشعري الحق، كما استطاع المجاطي أن يخرج من دوامة التجريب إلى آفاق التحقيق و التأسيس لهوية القصيدة المغربية الحديثة، ملاحظات على هامش التجربة الصوفية عند المجاطي: جدل الخوف و الحرف، مقال ضمن عدد أحمد المجاطي الشاعر الباحث، مجلة آفاق، عدد: 58، سنة: (1996)م، ص: 53.
[2] - يشير الناقد و الشاعر المغربي الطيب هلو إلى بعض الأسماء الشعرية المغربية الرائدة شعريتها، بقوله: و يكفي ذكر قامات شعرية سامقة استطاعت نحت تجربتها عميقا في جسد القصيدة العربية، بانفتاحها على غير الشعر و تطعيم قصيدتها به، ك: محمد السرغيني، أحمد المجاطي، محمد بنيس، عبد الله راجع، إدريس الملياني، أحمد بلحاج آية وارهام، محمد الطوبي، و غيرهم ممن لايسع مجال هذه المقدمة لذكرهم، كتاب: الرؤيا و التشكيل في القصيدة المغربية المعاصرة، نشر مكتبة سلمى الثقافية، مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة: (2013)م، ص ص: 6-7.
[3] - يؤكد حقيقة انفتاح الشعر المغربي واندماجه مع ثقافات إنسانية عالمية الشاعر المغربي محمد بنيس بقوله: ومن بين مظاهر هذا الاندماج بروز ترجمات للشعر المغربي الحديث إلى لغات، ومشاركة نخبة موسعة من الشعراء المغاربة في مهرجانات شعرية دولية، بالإضافة إلى الإسهامات المتوفرة الآن في حقل الترجمة الشعرية إلى العربية، و التناول النظري لقضايا الشعر اليوم على الصعيد الدولي، مما يعطي للقصيدة المغربية وضعية القصيدة الحديثة بكامل الامتياز، الشعر المغربي المعاصر في بداية القرن الواحد والعشرين، مقال ضمن كتاب في الشعر المغربي المعاصر(دورة أحمد المجاطي الأكاديمية)، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى (2003)م، ص ص: 11- 12.
[4] - ديوان الفروسية، لأحمد المجاطي، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، ط: 1987 ص: 83.
[5] - الديوان، قصيدة من كلام الأموات، ص: 105.
[6] - الديوان، قصيدة كبوة الريح، ص: 24.
[7] - الديوان: صص:15-16.
[8] - الديوان، قصيدة: ملصقات على ظهر المهراز، الملصقة الثانية، صص: 48-49- 50.
[9] - الديوان، قصيدة كتابة على شواطئ طنجة، صص:67-68-69-70-71.
[10] - الديوان، ص: 84.
[11] - الديوان، صص: 73-74.