مقدمة
الإبداع مهما كان نوعه شعرا، أو سردا، أو غناء، أو موسيقى، أوفنا تشكيليا، لا يأتي من فراغ، وإنما من أربعة أشياء أساسية لا خامس لها:
ـــ أولها اطلاع المبدع على تجارب مختلفة، وما لملمه من الغيْر عبرَ قراءة الكتب والصحف؛ وما تبثه مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام من منشورات ثقافية متنوعة..
ـــ ثانيا ما ورثه المبدع عن أجداده من ثقافة شعبية مختلفة المواضيع، عبر الحكي الشعبي والأمثلة، ومنثور الأقوال والحكم، والقصص الخرافية والأساطير والحكايات الخيالية..
ـــ وثالثا من احتكاك المبدع بالواقع، وتوغله في جوهر الأشياء، وتأمله الواسع لحيثياته وتغيُّراته، وما يجري فيه ..
ـــ رابعا وأخيرا، ملكة الإبداع أو الإلهام، الذي يجعل الفكرة تلتمع في الأذهان، فيذكيها المبدع ويثريها بالعناصر سالفة الذكر...
وشاعرنا كغيره من المبدعين، لم يدخل مغامرة الإبداع من أجل الحيازة على لقب شاعر، ولا رغبة عن طيب خاطر لكتابة الشعر، وإنما شيء ما أشعل مشاعره وأجج عاطفته، فأجبره على أن يكون من حمَلة القلم والبياض، لينفذ برأيه الثاقب في الأوضاع الموبوءة ويقول كلمته ..
1ـــ الحرف يحقق الكينونة
حلقت الأيام بالذات الشاعرة، فأصبحت تائهة تتشابك الطرق أمامها، وتلوح في أفقها الأشباح، مرت فترة من الزمن وهي تتخبط خبط عشواء، فعادت بها الذاكرة إلى الحرف، إلى الشعر، حيث الخيال يطير بها عبر مفازات الكون، لبناء عوالم تريح النفس، فتحقق الكينونة، ويصبح لها حيز جغرافي في الوجود يعترف بها التاريخ، تاركة بصمة ذهبية في عنقه.. والحرف كما يعلم الجميع لن يأتي على طبق من ذهب بسهولة، أو بقدرة قادر، ليصبح المرء بين عشية وضحاها شاعرا، وإنما هو إلهام يدغدغ الذهن حين تعتصره المشاعر من الدواخل؛ وتأملات ثاقبة تناغمت مع اجتياح الخيال، لتتوغل في عوالم الأشياء، نافذة في عناصر الوجود، ملامسة الجوهر، حيث في بهو الحرف، تستأنس بمتعته، بمحاورته، بالإنصات إلى ترنمه، وشطحاته ..
**ــــ عشق الشاعر للحرف حد الذوبان
لقد عشق شاعرنا عبد الرحيم طلبة الشعر، وتماهى معه ، بل أصبح توأم روحه، لأنه رأى فيه الحرف الصادق الوفي ، الصديق المؤنس في الوحشة، الذي لا يغير لونه ولا جلده، كالحصان الجامح يركض في ميدان البياض، كاليد الرحيمة يرمم الجراح، كالزوبعة يباغت بصفعته المربكة، مخلفا أثرا لا يقاوم في القارئ فكرا، من حيث المعاني الكاشفة لأسرار الوجود، وإحساسا من حيث دغدغة العواطف، ولذةً بمتعته من حيث جمالية صياغته، وانتقاء مفرداته؛ فبالحرف نهضت أمم، وبه سقطت أخرى، وبه تعرفنا على ثقافات الأمم المختلفة عبر العصور، وبه نقرأ الحياة اليوم ونفهم معالمها، ومعانيَها وكنهَ أسرارها؛ ولا يني الشاعر يكشف لنا صداقته القوية بالحرف وتمسكه به، واصفا إياه بأنه حرفُ الحكمة، والعفة والنقاء، بصفاء الجوهر، وبهاء الياقوت، لا يعرف النفاق ولا المحاباة، ولا التدليس والتمويه، مُدْرِجا ما يدور بينهما من حوار، ومن تعاهد ليبقيا وفييْن لبعضيهما؛ وهذه رسالة قوية إلى من يستغلون الحرف في الخداع، وإلباسه مساحيق ماكرة، من أجل تحقيق أهداف مصلحية، أو أغراض شخصية، محرفا إياه عن الهدف الإنساني الرئيسي...
**الحرف الصادق سيف ذو حدين
فمن يستعمل الحرف في غير محله، قد يصطدم لامحالة مع مَن هو وفيٌّ للحرف ويعرف معناه وقيمته، بالإضافة إلى أنه لا يصح إلا الصحيح؛ فالحرف الصادق يشم في صدر التاريخ خلوده مدى الدهر، بينما الحرف المغشوش، الباحث عن اللقب، الفارغ من محتواه، الذي لا يؤدي خدمته كرسالة لنشر القيَم الإنسانية سرعان ما تنطفئ جذوته، وتتلاشى معالمه؛ وبما أن الذات الشاعرة، استوعبت دور الحرف الحقيقي، فقد عاهدت نفسها أن تصدح وتصرخ، وتعبر عن الهموم الإنسانية مهما حصل، حتى يتحقق المأمول:
غادي نتكلم ونبقى نتكلم ولو نبقى فرادي
نبوح بهمي حتى يبان نور ظلامي ويتحقق مرادي
فشاعرنا وجد في الحرف الرابط القوي بالأدباء، لما اندسّ في عشيرتهم فرأى فيهم الأحبابَ الأوفياء، الذين شارك معهم تجربته، وتبادل معهم الخبرات فتذوقوا حرفه، وفهموا معناه؛ فالأدب لم يعد لديه مجردُ سطور وفقرات على الأوراق تُقرَأ وتذهب في المهب، وإنما وشائج متينة بين الشعراء كافة، حيث تزداد العلاقة متانة أثناء اللقاءات والملتقيات والمهرجانات، فتتواشج الصداقة، ويتقارب التآلف، بل وقد تصل الأمور إلى تبادل أرقام الهواتف والعناوين، ليستمر الاتحاد الأدبي باتحاد أدبائه.. وشاعرنا إلى جانب هذا وذاك يُصر على أن حرفَه صادق، نابع من عمق الفؤاد بأمانة، محمَّلٌ بمعانيَ متينة ، مشحون بدلالات واسعة، له غايات إنسانية نبيلة، لذا يدعو كافةَ الأصدقاء إلى أن يُنصتوا لهمسه، ويفهموا شطحاتِه المتنوعةَ، في زمن سادت فيه الزبونية والصداقة، وأصبح الاهتمام بالتفاهات، والمظاهر البراقة المستندةٍ إلى الفراغ..
2ــــ السياسة عالم من الأوهام
فمن خلال تبصر الشاعر عبد الرحيم طلبة للواقع، أراد أن يدخل غمار السياسة، علّه يجد صيده في هذا الباب، فيلبس ثوب أصحاب القرار، ويتحلى بأساليب المؤسسات، ويخفي الحقائق في أقنعة مستعارة ، يخاطب بالكلام المعسول، يواجه المواطنين بسياسات فاشلة مبنية على الكذب والمكر والخداع، يتملق، يحابي، ليجدَ له منصبا أو كرسيا، فتصبح كلمتُه عليا، لها آذان صاغية؛ ذو شخصية نافذة يقام لها ولا يقعد، يصول ويجول، يقضي مصالحه الشخصية على حساب المصالح العامة، لا شأن له بجائع، ولا ضائع، ولا مُشرّد أو عاطل، يتلاعب بمصالح المواطنين، من أجل قضاء أغراضه، حتى ولو على حساب أرواحهم وحياتهم ..يقول:
وندير حملة فيها لحبيب وصديق والجار
وبين ليلة ونهار نصبح مستشار
غير أن شاعرَنا انتبه من غفوته في آخر المطاف، فرأى في نهجه هذا المسار، قد يَفقِد الأحرار من بني جلدته، بل قد ينقلبون عليه بالغل والكراهية، وأنه سيتخلى عن شعبيته؛ فتراجع عن فكرته، خاصة لما لاحت أمامه أطياف الطبقات الكادحة، التي تعاني من ويلات الزمن، وغدر السياسات المتكالبة، ونكبات الخطط الفاشلة، تواجه قسوة الظروف الحالكة، والشعارات الكاذبة، ممّن يبيعون الأوهام للمواطنين في سوق النخاسة.. فلما وعت الذات الشاعرة بمصير الشرائح المقهورة، وبما يمرره أصحاب القرار من سياسات مغلوطة غرضية، أخذ يصرخ ويصيح منتفضا، واضعا إصبعه على الطبقية في المجتمع، وكيف شرذمة من البشر تنعم برغد العيش، في التعليم والصحة، لها مكانة مرموقة في المجتمع، طلباتها أوامر، رغباتها مستجابة؛ وطبقة تقتات من جلدها، تعيش النكد والتعاسة، أيامُها دامسة، لا تستطيع توفير لقمة عيشها إلا بمشقة النفس؛ بالإضافة إلى ذلك لا يفوت الشاعرَ أن يَخفِض للمرأة جناحا من الحب، ويخصص لها غرفة دافئة في شغاف القلب ..
**ـــ المرأة لبنة أساسية في المجتمع
على الرغم من وضع الشاعر إصبعه على المجتمع بشرائحه، فقد خَصّ جناحا وارفا للمرأة ، باعتبارها لبنةً أساسيةً في المجتمع، فهي الحارس الأمين لممْلكة البيت ، والمدبر الحكيم لشؤونه، والراعي الوفي لأفراد الأسرة، إخوتِها كانوا أو أولادِها، هي منبع الحنان ، الأم الرؤوم، والأخت الودودة، والابنة المدَلّلة التي تُدخِل الفرح على القلوب، هي الجدة الرؤوفة التي تملأ العقل حكمة، والقلب بسمة، والروح انشراحا؛ المرأة التي تحدت الأعراف، وقفزت على المتحجر من التقاليد، لتحقق ذاتها، وتؤدي دورَها الفعال إلى جانب أخيها الرجل في كل الميادين .. ولم يفت الشاعر أن يضع كفه على جبين المرأة القروية، وما تكابده من مِحَن، حيث أغلبهن يُحرُمْن من التعليم والصحة، فكم امرأةٍ كانت ضحيةَ التهميش والإقصاء، زد على ذلك تزويجهن وهن قاصرات، فتُبتَلع طفولتهن في الخفاء، أو يشغلوهن خادماتٍ في البيوت، فيتعرضن لقسوة وسوء معاملة مشغليهِن.. يقول :
علاش بيها ماتشعر
مخليها عايشة فلقهر
وهذا نداء إلى كل رجل حر، أن يرأف بالمرأة، ويأخذ بيدها لتعيش بكافة حقوقها عيشا كريما...
**ــــ حِكَم النهي والنصيحة
شاعرنا عبد الرحيم طلبة ، حرق المراحل، ما مُمكن إنتاجُه في سنوات ، حققه في أوقات وجيزة، محطما الرقم القياسي ، يسارع الزمن وكأنه يريد أن يُفرِغ ما في جعبته دفعة واحدة ، يبدو أنه أنفق جهودا كبيرة في سعة الاطلاع، حتى أثث قاعدته الشعرية بأدواتها المرموقة في لمحٍ من البصر؛ ولم يقف عند حدود الشعر بل جاوزه إلى كتابة المقال والنقد، فشحذ مَلَكةَ الكتابة في مواضيع مختلفة وأجناس شتى؛ فأتت كتاباته مشحونة بنفحات نضالية بكل ما يستدعيه العمق الإنساني والوطني، واضعا إصبعه على القيَم النبيلة، مخصصا جناحَه الأعظم في وصلات تنبيهية، ووصايا ناهية، وحكم بليغة تهذيبية لكل من المرأة والرجل، آمرا إياهما أن يكونا الإنسان النموذجي المتحلّى بالخصال الحميدة، والأخلاق العالية، كالتسامح وحب الآخر، وصلة الرحم، مترفعا عن الرذائل من السلوك، كالافتزاز والسخرية، والهمز واللمز، مؤمنا كل الإيمان بأن الثقافة تربية وسلوكٌ.. يقول :
إياك تصاحب الذئاب
.....
إياك تقاطع لحباب
.....
كون رقراق
يُروَى من ماك كل عطشان ومشتاق
موجها خطابه بنفس للأسلوب إلى المرأة قائلا:
لا تكوني قطعة من نار
وريح يسُوطْ عل لجمار
3ــ الجانب الفني
**تكرار بعض الحروف
أحيانا نتخذ تكرار حرف، أو كلمة، أو جملة كلازمة متكررة، ليس لأننا لم نجد بما نملأ به الفراغ، أو هو تكرار ركيك يشوه الجمل والعبارات، وإنما هو لمسة فنية تضفي على الشعر جمالية تزيد القارئ متعة، وقد يكون التكرار إما للإلحاح والتأكيد، أو لإضافة رنة موسيقية تزيد من متعة القراءة، أو شطحات شعرية انزلقت دون إذن من الشاعر ووعيه ..لنلاحظْ في هذه القصيدة، كيف كانت للشاعر مهارة قصوى في مراوغة اللغة بتكرار حرف ((الشين)) مما زاد القصيدة دهشة وبهاء ..يقول:
علاش سعدي مْتُوتَش
بديت نهبش و نبش
خرج ليا الوقت
ضارب طبيگة معرش
بوجه مغوبش
عيون طاجة ما ترَمّش
واسي الوقت
بغيت غير نتحاور وندردش
باركة ما تنش وتهش
وتحش وتنهش
وتريش وتكوش
ومخليني مهمش
الوقت تْنكْرش
لحمُو بورش
بدا يتنفخ ويتفش ؤ يتشَرّش
وقال راك محشش ولا محرش
ؤطلق عليا واحد المش
بدا يقمش و يبشش
بصراحة شدتني القصيدة، وجعلتني أكرر قراءتها، لأتهجى ما وراء هذه الصياغة الفريدة ، فتوصلت إلى أن الأوضاع انقلبت موازينها، في زمن فقد جوهر الأشياء، وداس على القيم النبيلة، وغدا يطبل ويزمّر للتافه وما يلهي الشعب؛ فأصبح السافل في القمة، والباطل حقاً ، فغاب الفرح وعم الحزن، ومَن يحاول التعبير عن الحقيقة، أو الكشف عن عورة الفساد ينعتونه بالأحمق أو المجنون، هذا إن سَلم من تلفيق له تهمة، أو الزج به في السجن، فمهما كانت النتائج، فهذا ديدن كل مثقف يحمل على عاتقه رسالة إنسانية، مسلحٌ بعبارة (( الساكت عن الحق شيطان أخرس)).. وشاعرنا كأي مثقف حر يبحث في جيوب الكون عن الفرح، الذي غار في غياهب الحزن، المقبل من المهمشين، من ضحايا الحروب، من الأوطان المنهوبة، والشعوب المغتصبة..
**ـــ الترميز والإيحاء لتعميق المعنى
لا أخفيكم سرّاً أني كنت أتحاشى سماع الزجل، وخطأ مني كنت أظنه استهتارا باللغة العربية، وتنقيصا من قيمتها، لكن ذات ليلة زجلية، لما شنّفت أسماعي قراءاتٌ زجلية، اقشعرّ لها بدني، وخلفّت في دواخلي ربكة مكهربة، فصححتُ اعتقادي الذي عشش في ذهني منذ فترة، وداومت على سماعه، بل قمت بقراءات متواضعة لزجالِين يشتغلون تحت الظل من أمثال عبد الله الغازي، ومحمد التويرسي وغيرهما .. ولم أتردد في إطلالة متواضعة على ديوان شاعرنا المحبوب عبد الرحيم طلبة الصقلي، الذي تفرّد بإيحاءاته ومجازه في أسلوب ترميزي صرف، عميق المعنى غائر الدلالة ..لاحظوا هذه الشذرات القوية :
لي علمنا نرقعو ليام بحبال الماء
وغرس شوكتو المسمومة في گسعة الضهر
كيف يمكن ترقيع الأيام بحبال الماء؟؟؟ وهل الأيام ترقع؟ فهنا يقصد الشاعر ترقيع الأوضاع، كما ترقع أطراف الثوب بعضها ببعض، فيعاد تمزيقها.. عوض تغيرها الأوضاع من الجذور، والبحث لها عن بديل يرضي الجميع، برغد العيش وتحقيق العدالة الاجتماعية، وسيادة الديموقراطية، واستمتاع الجميع بالحقوق المشروعة، وتفعيل المساواة ماديا ومعنويا، بتكافؤ الفرص في التعليم والصحة، فيسود الرخاء، مما يجعل الوطن في مصاف الدول الكبرى... فشاعرنا ينتقد السياسة الهزيلة التي تُفقّر الفقير وتُغني الغني، والخطاطات المبنية على ترميم الواقع في جميع الميادين بالبهتان، ورتق شروخه بما هو وهمي، يزيد الوضع ترديا؛ ويفضل تغيير الواقع من جذوره بسياسة حقة، مبنية على برامج هادفة لها غايات إنسانية نبيلة، تقدم خدمات جليلة للإنسان والمجتمع، ليصبح الوطن ذا مكانة مرموقة في الركب الحضاري ...
***ــ خاتمة
رغم الأحزان العارمة، وإحساس الشاعر عبد الرحيم طلبة الصقلي المفرط بما يؤلم، والهموم الإنسانية الموجعة، وما عاينه من شطط، وتهميش، وسياسات فاشلة ضاقت فيها الدنيا في عينيه، وأصبح ينظر إلى الأشياء بنظارتين سوداوين ، فمازال متشبثا بالأمل، في انتظار تحقيق المأمول، ولا أدل على ذلك من ألوان ديوانه، حيث غطى اللون الأسود دفتيه معا، رمزا إلى حلكة الأيام، وما يعتمل في النفس من أزمات حَلُّها في غور المستحيل.. تتوسط اللون الأسودَ شمعة مشتعلة، رمزٌ إلى الضوء؛ أي أنه سيأتي يوم يخترق فيه النور الظلام، فتنقشع الظلمة، ويطلع الفجر مشرقا بغَدِ ه الباسم، إشارةٌ وتلميحٌ إلى تغيير الأوضاع، وتحقيق الديموقراطية، وسيادة العدل، حيث سيعيش الإنسان بكافة حقوقه المشروعة.. وأصارحكم أيها القراء والعهدة علي ، أني وجدت في ديوان شاعرنا السيد عبد الرحيم طلبة الصقلي، أسلوبا شيقا، ومعانيَ عميقة، وحكَما بليغة ومفيدة، ومتعة لا تقاوم ....
مالكة عسال
07/11/2022