يستهل الدكتور الهادي الهروي كتابه الفخم، بتمهيد رائع يبين فيه القواسم المشتركة بين الروائي والسوسيولوجي، من حيث علاج ظواهر المجتمع، فالأول يعتمد في أسلوبه الخيال والرؤى، والأصباغ اللغوية من المحسنات البديعية؛ بينما الثاني يعتمد التحليل المنطقي، من قياس وتمحيص بآليات علمية ومناهج دقيقة؛ والقواسم المشتركة بينهما، هي كل منهما يوجه بوصلته إلى المجتمع والنشاط الإنساني، والجوانب الأخلاقية، والتفاعلات الميدانية والتصرفات، والتنظيمات، والتيارات الدينية، والجَمعِية؛ ما يفرق بينهما أن الرواية إبداع فني ، والسوسيولوجيا اشتغال علمي، لكل منهما مفاهيمه ومصطلحاته الخاصة..
الكتاب موسوعة كبرى صدر عن مطبعة(( روافد )) للنشر والتوزيع / القاهرة صمم غلافه رائد مجدي، حدده كاتبنا في 346 صفحة، شملت عدة أقسام وفصول وعناصر كبرى وعناوين صغرى، وجّه فيه كاتبنا بوصلته إلى نخبة من الرواد الروائيين العرب والمغاربة، واقفا بعمق على النصوص شكلا ومضمونا، محددا القيم والقضايا التي يعج بها عالمها السردي .. متسائلا في الفصل الأول عن دواعي كتابة الرواية، هل هي امتداد لما هو تاريخي، أم هي نتاج احتكاك بالأدب العالمي؟؟؟ فاستخلص إلى أن الرواد الروائيين سواء المغاربة أو العرب تشبعوا بثقافات مختلفة، فنهلوا مما هو إسلامي وفارسي، وكلاسيكي، وأدب الرحلة، والأفكار الفلكية القديمة، وغيرها من روافد ثقافية واسعة دينية /تاريخية/ علمية، صوفية /خرافية/ فولكلورية/ غزلية... وأغنوا أساليبهم بالإبحار في المعاجم الزاخرة بالمعلومات، مما وسع خيالهم، فصقلوا ملكتهم الروائية شكلا ومضمونا.. وليوضح الكاتب بالضبط المنابع التي تشبع بها روادنا الروائيون، استعرض نماذج من الكتاب القدامى، وعينات من المواضيع المدرجة في الأدب، المتشبعة بالثقافات والمؤثرات العربية والفارسية، لينتقل بنا إلى المؤثرات الغربية في الفصل الثاني ..
ففي هذا الفصل يبين الكاتب الهادي الهروي، أن الرواية لبنة أساسية في تنوير الإنسان بقضاياه، ولها مساهمة خاصة في نشر وعي التغيير، وأثر إيجابي في النفوس، وبما أن الأفكار الإنسانية في تلاقح دائم، عن طريق تبادل التجارب والأفكار، لم يفت الروائيين العرب من الارتواء من الأدب الغربي بشقوقه الفرنسية والإنجليزية والروسية، عن طريق الاقتباس والنهل من المبدعين الكبار، لعبت فيها الأندية الثقافية، والمقاهي الأدبية دورا إيجابيا، في تفجير الحقل الروائي على نطاق واسع، خاصة في مجال معاناة الطبقة الهشة، وانتشار الفقر والتهميش؛ فشخصت الرواية العربية الأوضاع المأساوية، وتفاقم الطبقات المجتمعية، ساعدها في ذلك ظهور تنظيرات مفسرة، ودراسات مادية تاريخية، وفلسفات أخلاقية، ونظريات الاقتصاد السياسي، وتطلعات الجماهير الشعبية إلى التحرر من الرق والعبودية والتبعية، والعيش الكريم بكافة الحقوق الإنسانية، مستعرضا أسماء لامعة من المثقفين في جميع المجالات، الذين نوروا المجتمعات الإنسانية بتقاعس المسؤولين، وسيطرة خانات الذل والفساد، والتلاعب بالجماهير، وتضييق الخناق على الأفكار الحرة؛ وما ألهب الشباب المبدعين هي الطريقة التي قدم بها الأدب الأوروبي مواضيعَه، حيث تفنن في تشخيص الأوضاع، بأساليب ملهبة تنوع فيها ما هو عاطفي وساخري/ كوميدي/ تراجيدي/ واقعي /ورومانسي؛ فأفسح المجال على مصراعيه للمبدع العربي، أن ينهل من الصنف الذي يروقه، ويضع إصبعه بالكيفية التي تناسبه على عمق المشاكل الاجتماعية والاقتصادية؛ وقد زاد من عمق الرواية الواقعُ العربي المشابه للغربي في بدايته، وما يعيشه من تخلف، وعنف، واستبداد، وسرقة، واختلاس، وحصار فكري، واعتقال، وتنكيل بأصحاب المبادئ الحرية الأنيقة...
ومن الشق الأوروبي ومدى تأثيره في الرواية العربية، انتقل بنا الكاتب إلى العوامل المشرقية المؤثرة في الرواية العربية، خاصة العصر العباسي إبان تأسيس بيت الحكمة، وما يزخر به من عطاء فكري عن طريق الترجمة، وتبادل التجارب الثقافية، خاصة ما خلفه البرامكة من ثقافة دينية فارسية، مبنية على الانفتاح والتسامح بين الديانات والمعتقدات والمذاهب، وكان للأدب العراقي أيضا جانب مهم في إغناء الرواية، إبان لحاقه بالتجديد من قبل الأدب البريطاني، فتخطى الرومانسية لاستشراف الواقع، واستنطاق التاريخ العراقي وأحداث زمانه، ورصد واقع التخلف والاستبداد والانتقام العشائري، والبؤس والشعوذة والأمية والجهل... ناهيك ما استفادت منه الرواية العراقية من تألق على أيدي الأدباء المهاجرين، الذين وجدوا الفضاء الرحب للتعبير عن القلق، ومساءلة الذات، وانتهازية الفاعلين السياسيين، والواقع المتردي وانحطاط المؤسسات.. كما كان للغزو الأمريكي شحنة إضافية ضخت في الرواية العراقية دماء جديدة، نظرا لما لاقاه العراقيون من تفتيت وتشظٍّ للمجتمع، وما عاشوه من جراح وعنف مضمخ بالقتل، وما خلفته نوائب الحروب، وآليات التعذيب المتنوعة، ونوازع الاحتلال الأمريكي من انقسامات اجتماعية وتيارات مذهبية؛ فكان هذا كله ميدانا خصبا لتحتل الرواية العراقية مكانة مرموقة في الحقل الروائي، ومن تربع على عرش الرواية العراقية نذكر جبرا ابراهيم جبرا، وعبد الستار ناصر وعبد المجيد الربيعي، وآخرين لا يسمح المجال لذكرهم جميعا.. وتسللَ التفجيرُ الروائي عن المآسي من خلال التنوع الثقافي، والاحتكاك بالأدب الأوروبي عن طريق الترجمة والهجرة، والأوضاع المقهورة، إلى كل بقاع الوطن العربي...
ولا يفوت الكاتبَ أن يضع رحاله بين أحضان الرواية المصرية، ليضع بين أيدينا قائمة من الأدباء ذوي الكعب العالي، في مختلف فنون الثقافة والأدب والسرد الروائي المصري، من أمثال جرجي زيدان، ونجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، ومحمد حسنين هيكل، وصنع الله ابراهيم، ويوسف السباعي، ومحمد مندور، والطهطاوي قيدوم الترجمة، المنافح بقوة عن الوطنية والنزعة الإسلامية، والذي أغنى توَجُّهَه اطلاعُه على الإنتاجات الفكرية القديمة والحديثة.. قائمة من الجهابذة وضعوا أعينهم الناقدة الفاحصة من جوانبَ مختلفة، فخلخلوا في الواقع المصري قضايا شائكة، وفضحوا عورات المجتمع.. هذا ما جاء في الشق الأول من الكتاب ...
وفي الشق الثاني، ينتقل بنا الكاتب إلى الرواية المغربية، عبر عدة فصول ليطلعنا على الأدب المغربي في مجال الرواية، والمؤثرات التي ساهمت في إغنائها، والمواضيع التي طرحتها، والكيفية التي صاغها بها روادها، موضحا
أن الرواية المغربية لم تنشأ مكتملة المعالم، بل كانت في بدايتها عبارة عن رسائلَ ودواوين، وشعر ونثر، لثلة من الفقهاء يعبرون فيها عن الأزمات الاقتصادية، داعين إلى الجهاد للتغيير، والانتقال من التفكير الخرافي إلى حركة فكرية متطورة، فبدؤوا في تجميع التراث الأدبي، ساعدتهم في ذلك جامعة القرويين، ومراكز ثقافية بسلا والرباط، فظهرت مؤلفات لكل من أحمد النميسي وعبد الله قباج وعبد الله كنون ، و((جمعية طلبة شمال أفريقيا المسلمين )) بباريس، والمكي الناصري وغيرهم...لا يمكن ذكر الجميع؛ وقد تضاربت الآراء واختلفت حول أسبقية نشوء الرواية المغربية مكتملة، فمنهم من رجحها ((للرحلة المراكشية)) التي وضعت إصبعها على قضايا اجتماعية كالتربية والتعليم، ومنهم من نسبها إلى عبد المجيد بن جلون في روايته ((في الطفولة)) لما لها من خصائص روائية، كالشخوص، والأحداث، والزمان والمكان، وإن كانت عبارة عن سيرة ذاتية، فالرواية جمعت بين ما هو تخييلي في تأصيل القيم، وواقعي في محاربة الظلم والفساد.. وكان للحرب العالمية الأولى والتحولات الكونية دور لا يستهان به في تطور البنية الفكرية لدى المفكرين المغاربة، فأصبحت لهم تطلعات لحل مشاكل البلاد بتغيير ما هو تقليدي، الذي يصب في الفقهي التعبدي الطقوسي والعقائدي المتخلف، بما هو تطويري حداثي، لتحقيق الطموح والمجد، والقضاء على المفسدين، وكل ما يتسبب في التقهقر والتردي..
وإبان الاستقلال انفردت الرواية المغربية بخصائصها الفنية، فظهرت الروايات التاريخية والاجتماعية، ساهمَ في ذلك، تطور البنية الفكرية للمثقفين المغاربة، بفضل اطلاعهم على الإنتاج الأوروبي والمشرقي، واحتكاك المغاربة بالسوق العالمية والرغبة الملحة في التعبير عن طموحهم، ناهيك عما تزخر به الأوضاع من بؤس وتهميش، فتشبع بعض المثقفين بالفكر النضالي إبان ظهور أفكار ماركس ولينين، وتلاقح تجاربهم بالأدباء المصريين، واطلاعهم الواسع على الفلسفة، فلاحَ في أفق الإبداع الروائي، ثلة من الروائيين عبروا بمختلف الطرق عن قضيا الفقر والتخلف والعروبة والقومية العربية، وأوضاع المثقفين وغياب مناخ الثقافة، من بينهم عبد الكريم غلاب في رواية ((دفنا الماضي)) ومبارك ربيع في (( الريح الشتوية))و((رائحة الجنة)) لشعيب حليفي وغيرهم.. وانتقلت الرواية من الواقعية، لتؤسس متنها الروائي بكل قرائنه في مجالات متعددة، سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية، ووجودية وغيرها، موظفة مفاهيم فلسفية وسوسيولوجيا وسيكولوجيا، لتفكيك الواقع وتعرية ظواهره، وما خلفه من أثقال سلبية على المواطنين تجلَّى في السطو والتهجير والتفقير؛ وبتحليل عميق قدّم لنا الكاتب نماذجَ روائية لكتاب مغاربة، موضحا طرق تعابيرهم وأساليبهم السردية، ومواضيعهم المطروحة التي تتناول البعد الاجتماعي والتاريخي والنفسي، وبطش الاستعمار، وبعض الأفكار الأصولية والرجعية المهيمنة، والمرجعيات التي شحذت أقلامهم، كما الشأن مع محمد برادة وأحمد المديني ومحمد شكري ومحمد زفزاف وغيرهم ..
وفي إطار هيمنة العولمة وتغيُّرها الفاحش، وما أتت به من معضلات لا إنسانية، وتغييرات على جميع المستويات، منها التفجير الصناعي، وانتشار المعلوميات، كان لزاما على الرواية العربية أن تتحول من الواقعي والتجريبي، لتؤسس كيانا آخر مبنى ومعنى، بمداخل موضوعاتية ومنطلقات جديدة، بحثا عن حيز لها ضمن الرواية العالمية؛ وهذا ما فتح الباب على مصراعيه للكثير من المبدعين في مجال العلوم الإنسانية ، لتوظيف مقاربات ونظريات ومناهج علمية لدراسة اليمات السردية على اختلافها، أو توظيفها في المتن السردي مما يوحي بأن الروائي في أغلب الأحيان محللا اجتماعيا أو نفسانيا...
وإلى جانب الرواية المغربية باللغة العربية، فقد بزغت مجرّة من رواد الرواية باللغة الفرنسية، نذكر من بينهم محمد خير الدين، وإدريس الشرايبي، وعبد الكبير الخطيبي، ومنجزه (( الذاكرة الموشومة))، وعبد اللطيف اللعبي وروايته ((مجنون الأمل ))، حيث كان للمستعمر الفرنسي أثر بالغ فيها، وإن كانت أغلبها سيرا ذاتية، فقد كانت فاضحة لغطرسة الحماية الفرنسية، مشخصة فترات الاضطهاد والفقر، ومآسي المواطنين وانفعالاتهم، وعاداتهم الرجعية كزيارات الأولياء والأضرحة، والقيام ببعض الطقوس، شاجبين بشدة طرق القمع والتنكيل بالمعارضين، واختطاف المثقفين الأحرار المناهضين لمختلسي ثروات البلاد، والمسؤولين عن التفاوت الطبقي، معبرين بجرأة عن طرق التعذيب في المخافر والمعتقلات...
ولايني الكاتب أن يذكر المؤثرات المتفاقمة التي ساهمت في تنمية الرواية المغربية منها..
ــ تيار المؤلفين الأجانب من الفرنسيين والمستكشفين الجغرافيين، الذين رأوا في المغرب عالما غريبا يجب علمُ النفس لفهم عقلية وطبيعة سكانه الأمازيغ..
ـــ اتجاه فقهي غارق في الدين الإسلامي يدعو إلى الجهاد لطرد المستعمر، ومناهضة السياسة الخسيسة المتعاونة مع المحتلين..
ـــ اتجاه الالتزام إبان الاستقلال، الذي ساهم في تنمية الأدب المغربي، ليستعرض قضايا سوسيولوجيا كالحرية والمساواة، ومناهضة الوصوليين، ومحاربة الغش والمكر، وإلباس الدين الجهلَ والخرافة، والمطالبة بالحق والعدالة، بالإضافة إلى أسئلة فلسفية كالوجود والعدم..
فوضح الكاتب بأسلوب شيق، كيف تنوعت الرواية المغربية في مواضيعها، فخلخلت ما هو ذاتي وتاريخي، وماضي، وذكرياتي وباطني ونفسي، وسلوكي، واجتماعي، مطعما بحثه بمجموعة من آراء لنقاد عرب وأجانب..
ويسافر بنا الكاتب الهادي الهروي في تخوم الأقسام والفصول الأخرى، مستهلا العمل بسؤال عميق: ما طبيعة العلاقة بين السوسيولوجا و الرواية المغربية؟ ليبين لنا اتجاه كل نوع.. فالسوسيولوجيا تعتمد العلم في تفكيك القضايا والإشكالات الاجتماعية، بأسلوب منطقي ومنهج علمي كما سبق ذكره.. بينما الرواية المغربية تعتمد في ذلك أسلوبا فنيا أدبيا لتعرية الأوهام المتداولة بين الناس، مستحضرة العلاقة السببية، حيث الروائي يلتقي بالسوسيولوجي في عدة قواسمَ مشتركةٍ تهُم الإنسان القضية، والقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كالعنصرية، والهجرة، والإحباط، والسلطة، والرقابة والانتخابات، والفقر، واغتصاب الأراضي، لكن في بنية تخييلية فنية أدبية مطعمة بما ورثه من أخلاق وقيم وموروثات ثقافية؛ مقدما نماذج من منجزات روائية لروائيين مغاربة مثل ((رفقة السلاح والقمر)) لمبارك ربيع، معززا ذلك بنماذج روائية فلسطينية ذات الصلة مثل رواية (( فتى المدينة)) لابن القدس /سمير الجندي، التي تصور ببراعةٍ وحشيةَ الإبعاد والتغريب والنكبة والقتل وما إلى ذلك؛ ويوضح المبدع الهادي الهروي، أنه اختار نماذج من الروايات لشباب مغاربة لارتباطها بالواقع، وما يعج به من ظواهر إنسانية مشتعلة، وبما تنفرد به من خصائص، تتشكل في طريقة السرد النفسي أو الحكي التاريخي، وسلاسة الأسلوب، وبساطة اللغة، و ما يوظفه البعض من أساطير وميتافيزيقا كتكملة واتصال للأساطير القديمة.. عارضا كل مجموعة حسب الفترة الزمنية التي أنتجتها، والتنشئة الاجتماعية والدينية والعادات والتقاليد، وما خلفته في اللاشعور، والمواقف المتخذة، باعتبار المؤلف ينتسب إلى المجتمع بإنسانيته بأفكاره، موضحا، حركية النص من الخارج من حيث الكلمات والألفاظ، ومن الداخل في عمق المعنى، وغور الدلالة القابلة للتأويل.. واقفا على المصطلحات بتحليل مطنب؛ ومن ضمن القائمة التي كان لها حظ وفير لدى ناقدنا الهادي الهروي، مصطفى لغتيري، وإحدى رواياته ((أسلاك شائكة))، أحمد بوزفور، وروايته ((الرواية والنهر ))، محمد بن ابراهيم، وروايته ((تفاح الحلمة)) وابراهيم حريري، وروايته ((محجوبة))، حيث عرض الناقد الهادي الهروي محتويات كل منها، بتحليل عميق، واقفا على عمرانها، والأسلوب، واللغة، والصياغة، وبنية الحكي، والقيم، والظواهر الإنسانية، والأحداث الماضية منها والحاضرة، والشخوص وما إلى ذلك ..
ولم يفت دكتورنا الهادي الهروي، أن يطل من شرفات الأدب على الرواية النسائية، مستهلا مبحثه بالمراحل الدونية التي مرت بها المرأة عبر العصور، مرورا بالحركات النسائية الغربية من أجل انتزاع حقوقهن والعيش الكريم، فكان لهن ما أردن، بينما ظلت المرأة العربية تعاني من التمييز والإقصاء والتهميش، ورغم الأفكار الظلامية الرجعية، والعقول الذكورية، فقد تم تحرير المرأة العربية على أيدي أفكار تقدمية، ونضالاتهن المستمرة، لتتبوأ مكانتها في الحقل السياسي والثقافي والاجتماعي، فلاحت كواكب مبدعة لكل من غادة السمان، وخناثة بنت بكار، وغيرهما؛ ليتوالى السرد بنوعيه القصصي والروائي، حيث عرض لنا الكاتب نخبة من رائدات السرد المغربيات، (( غدا تتبدل الأرض)) لفاطمة الراوي.. ((عام الفيل)) لليلى أبو زيد والقائمة طويلة..
وقد سارت الرواية المغربية النسائية على نفس النمط، بمواقف نبيلة في تجسيد الظواهر الإنسانية، من طبقية واستغلال، وجهل، وأمية، وحرمان، وتهميش، وغياب العدالة، والهجرة ، والاستعمار ومخلفاته، والإحباط، ونقر المسكوت عنه؛ حيث شقت طريقها بمواضيع مختلفة، جعلتها تحتل مكانة مرموقة إلى جانب الرواية الغربية، لتتألق مع كل من مليكة مستظرف وزهرة رميج، وسعاد الرغاي، وفاطمة المرنيسي، وحنان الدرقاوي اللواتي خلخلن المسكوت عنه، ورفعن رايات العصيان والتمرد من أجل الحرية والمساواة، والحق في الإرث، كما عبرن بجرأة عن الأمراض النفسية والجنسية في مواجهة أسئلة الذات، وأسئلة الهوية والثقافة؛ فاستخلص الكاتب من خلال قراءته العميقة للروايات النسائية، توصيات ومطالب تصب في التحرر المرأة من انحصار دورها في الأشغال المنزلية، وتعديل مدونة الأسرة، وممارسة العمل مثل أخيها الرجل خارج البيت، ورفع وإقلاع النظرة الدونية في التدبير الاقتصادي..
وحتى أختم، فمن خلال تصفحي المتواضع للمنجز، تبين لي أن الدكتور الهادي الهروي متشبع بثقافة عالية متنوعة غربية وعربية ومشرقية، يدل عليها التنويع في المراجع باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية، والزخم الثقافي المتراكم في ذهنه، والذي استقطر منه هذا المنجز الرائع؛ وما را قني أكثر هو تبويبه للكتاب إلى أقسام وفصول وعناوين كبرى وصغرى، حيث حاز كل قسم على الاهتمام الوافر، مع ترتيب مُلفتٍ للعناصر في تتابعها وتلاحقها، أضف إلى ذلك، تحليله النفسي الشامخ لنفسية المبدع، وظروف نشأته والمؤثرات والموروثات التي ساهمت في تنمية شخصيته، وشحذ ملكة إبداعه.. يضع إصبعه على الكاتب، وفي نفس الوقت يقدم منجزه بتحليل مطنب، راقه في ذلك الأسلوب، وصياغة اللغة، والحنكة في طرح المواضيع، والقضايا الإنسانية المختزلة في الفساد والظلم، والطغيان والعدوان، وقهر المواطنين، ونهب خيرات البلاد، ليكون تغذية فكرية لكل متلق... وحتى يكون المؤلف مرجعية مرموقة للطلاب والباحثين، ومن دعاه هاجسه إلى الاطلاع على الإبداع الإنساني عموما، والإبداع المغربي خصوصا، تمّ تطعيم بقائمة من الأسماء اللامعة، والكتب النفيسة التي تعد مرجعية هامة لكل قارئ، مع استشهاده بآراء وأقوال لجهابذة عرب وغرب ومستشرقين.. لذا دون أن أطيل فالكتاب ((الرواية والسوسيولوجيا / مظاهر الاندماج والتفاعل )) جدير بالقراءة، وبالاحتفاظ به كنزا نفيسا بين رموش المكتبة المغربية والعربية.. تحية إجلال للدكتور الهادي الهروي على إهدائه لي هذا المبحث القيم، وأتمنى أن يقتحم الضفة الأخرى بترجمة هائلة، لأنه جدير بذلك ...