زيارة عابرة، هلوسات من زمن الكوفيد، مجموعة من النصوص أو أضمومة، تتوزع على (...) نص يجمع بين الرصد والتخييل، تحاول من خلالها الكاتبة رصد واقع حال الأزمة الصحية الكارتية التي أصابت العالم و شلت حركته.
أول ما أثارني و أنا أطالع نصوص هذه المجموعة من النصوص عن الكوفيد وتجلياته، أننا إزاء كاتبة تميل في كتابتها إلى السرد على شكل الحكاية، نصوصها تتسلسل فيها الأحداث مُشوّقة بأسلوب بلاغي والفاظ معبرة ذات شحنة عاطفية و في نفس الوقت حاملة لرسالة.
كل نصّ من زيارة عابرة يسرد لنا حكاية من زمن الكورونا بطريقة مختزلة ومكثفة.
تبدأ الحكاية عن المنبع الأول لهذا الوباء في" الصين" وتسرد الكاتبة بشكل دقيق أثر الحجر المشوب بالانتظار والاحساس بالخوف، تجربة قاسية سببت شللا عارما لكل أشكال الحياة. أسلوب يتخلله التشويق، نستمتع من خلاله بالاسترسال في قلب صفحات الكتاب بشغف لجمال الأسلوب ورُقيه.
في أول نص، تضعنا الكاتبة في الإطار العام لحالة الوباء الذي شل العالم، راسمة لوحة تجسد من خلالها ما آل إليه الوضع، واصفة بدقة وحرفية عالية واقع الكوفيد وآثاره النفسية والاجتماعية حين انقطعت الصلة الفيزيقية بين الناس وعوضتها وسائل التواصل الاجتماعي، تقول " مشهد فرضه الكوفيد وجعل الفضاء الأزرق نقطة ضوء نُطلّ منها على العالم الذي تجمّد فجأة وبدون سابق انذار، حيث أصبح التماس محظورا والعزلة قانونا. لحظتَها استسلمت الى الوحدة داخل صمت العالم"، وتسترسل في اسلوب شيق عن معاناة الإنسان في زمن الكوفيد، عن الرعب الذي ينذر بمستقبل مجهول، لتنهي النص بالأمل المفتوح على "غد يندثر فيه الوباء".
بعده تبدأ المشاهد في التواتر وملامح اللوحات النصية تؤثث فضاء الأضمومة.
في المشهد الثاني، وتحت عنوان "حزن إيطالي"، تأخذك الكاتبة في خشوع و في مشهد سريالي، لتجوب بك في دروب المدينة المائية، فنيسيا، المدينة الأكثر جاذبية للعشاق و السياح من كل أقطار العالم، والتي تحولت فجأة الى مدينة أشباح، لم يبق فيها الا سكانها المضطرون للالتزام بحظر التجوال. وفي تمازج بين ماض قريب وحاضر بئيس، تقدم الكاتبة صورة مقارٍنة بين حال المدينة قبل الجائحة: "أطفال يلتفون حول آبائهم بشغب وطمأنينة. مسنون يأتون لإحياء ذكرياتهم الجميلة حاضنين بعضهم بحب لا يتقادم مع الزمن". ملونة الصورة بألوان تاريخ المدينة العريق وحضارات توالت عليها و"غزوات تعرضت لها جزرها وقصورها المرصودة التي "تصارع عليها الأمراء لامتلاكها، وحفلاتها التنكرية وزمن متعة فائضة بحب طافح". استطاعت الأديبة خديجة أميتي أن تجسد المعاناة والحزن الذي عمّ بإيطاليا بطريقة مكثفة وبأسلوب شعري وغزارة في الأحداث. صورة ابداعية لمدينة تحتضر، تتساقط فيها الأرواح وتكثر فيها الوفيات، ورغم ذلك ظلت ايطاليا مستبسلة أمام الموت. وكأنني أمام لوحة من تلك اللوحات العالمية التي تثير فيك الدهشة، كلوحة دافيد "موت سقراط" تفاعلُ بين عناصر تاريخية وشخصية وسياسية وجمالية قُدمت ببراعةِ وبإتقان. فرغم بشاعة الموت نرى أيضا جمالية الفن والابداع.
من فنيسيا تطير بك الى برج ايفيل والشانزيليزي وشاطو فرساي بأسلوب أخاذ مُشوق وممتع، يتابع القارئ من خلاله بترّقب واستنفار، ثم الإغلاق في مدينة الأنوار. تقول الكاتبة " فراغها يزيد الحب إليها قوة والحنين بضجيجها حدّة". ثم تسترسل في الوصف بشكل يجعلك جزءا من المكان وشاهدا عليه، تسافر فيه معها الى عمق حضارة المدينة وأنوارها التي انطفأت وإلى المشاكل الاجتماعية التي طفت وإلى العنف داخل البيوت المغلقة واقتحام اللوحات الالكترونية الى عالم الأطفال وما سيخلّفه من سلبيات، لتنهي الكاتبة سردها بهذا الختم الجميل قائلة: "رغم أجواءِ الخوف والشّك، امتدت حبال التضامن عن بعد، لتنقِذَ أرواحا وتساعدَ من يصرخون من ألم الجوع والمرض والعزلة والنسيان. زمن أصبح الحب فيه لا يقاس بالقبلات بل بما تُقدّمه الإنسانية من دعم.
وفي نص "وحدي أحكم العالم"، رغم قصره، فإنه يحمل من العمق والمعنى عما يحصل في عالم البشرية... ويعبر عن خفايا الكوفيد وما وراء التخوم من الشرور والآلم الإنسانية، وتنهي الكاتبة هذا النص القصير جدا، الغني والمكثف، بأن هذا الفيروس الذي يحكم العالم ترعبه عيون العلماء التي تحمر عيونَهم من البحث دون لغط ودون كلل في إشارة إلى ما ينتجه الفراغ من توالد للإشاعات وتصورات نابعة عن الجهل.
من فينسيا وباريس تطير المبدعة خديجة أميتي بالقارئ الى المغرب، الوطن الجميل كما وصفته، وتضامن الشباب والشيوخ والاغنياء والفقراء والجيران. حتى من كان ينفر من الآخر تقرب اليه. الكل تلاحم وتظافرَ، وقفوا وقفة واحدة ضد جبروت هذا الفيروس. وتنهي كعادتها الكاتبة بقول مأثور:" سلام عليك يا وطني من بلاد غربة اخترناها مجبرين. فحبّك لا توقفه طائرات مجمدة على الأرض ولا بواخر راسية على الموانئ. لم تترك الكاتبة قضية في زمن الكوفيد إلا وطرحتها: نداء الأطباء للناس ان يمكثوا في بيوتهم رحمة لهم ورأفة بأطباءِ يعملون ليل نهار من غير كلل. كما تطرقت لمعاناة المسنين وحرمانهم من لقاء أحفادهم كما تعودوا، عادة هي خيط أملهم في سعادة نادرة. المجموعة ضمت كذلك مشاهد كثيرة عن مواقفَ انسانية جليلة واخرى غيرت من رتابة المرء وروتينيته الى حياة مليئة بالحيوية رغم قهر الكوفيد.
من خلال هذه المشاهد، وفي حركة ذهاب وإياب، ترجع الكاتبة بالقارئ إلى حيث تقطن، الى باريس وإلى حيها: ممر الكميليا، تصف المكان بدقة واتقان تجعلك حاضرا معها في الزمان والمكان. وتُعرفك عن تاريخ المنطقة وعن شوارعها وحدائقها: "صندوق تحرص ساكنة الحي على تطعیمه بما لذ وطاب من عالم الثقافة والفكر والروایة". مضيفة "ما أثارني وجذبني لھذا الصندوق العجیب ھو كم ونوعیة الكتب التي أعثر علیھا. الواقع أن في كل فضاءات الأحیاء الباریسیة تقف صناديق للكتب، ممشوقة القامة، متحررة من أیة جدران"، هكذا رسمت خديجة اميتي اللوحة بدقة وبراعة فنان متمرس.
نقاط كثيرة في هذا الكتاب طرحتها الاديبة من ضمنها اولئك المهاجرين الافارقة والاسويين والمغاربيين من الفقراء الذين لفظتهم بلدانهم ودفعت بهم الى الاقصاء. والعنف الاسري تحت ظل هذه الجائحة، وهي المختصة في علم الاجتماع والشاهدة على هذه النماذج التي تراها حسب قولها "شهابا من لهيب جهنم"، العنف التي تتوارى وراءه الستائر المُسدلة تكتوي بها نساء أدمنّ الصمت. كما تحدثت عن الشعور بالوحدة بالتأمل والترقب والامل والمشاكل الاجتماعية في المدارس في فرنسا ومعاناة رجال ونساء التعليم وعلاقات التلميذات والتلاميذ باساتذتهم، والاختلاف الثقافي والديني. وعن النوافذ في تلك المدينة التي تُفتح بشكل متزامن، لتنطلق التصفيقات بأكف واحدة مضيفين الى جمال اللحظة ترانيم موسيقية تبعث بالأمل لغد أفضل. ولم تستثن الكاتبة معاناة السياح الذين وجدوا أنفسهم "عالقين" في بلاد المهجر، وحملة التضامن معهم ...
أما اللقاح و ما راج عنه من شائعات فقد أفردت له فقرات عدة بأسلوب ساخر ينم عن روح المرح لدى الكاتبة، حيث قامت بنقل حوارات افتراضية تنم عن جهل الناس وأنانية بعضهم وعدم اكتراثهم بجدية الفيروس.
و الأجمل في الأضمومة أن الكاتبة خديجة أمتي جعلتنا نطل على الحياة في البداية من نافذة الحزن الإيطالي و مأسي الكوفيد، لتغلقها في النهاية و تفتح باب الأمل عبر "رقصة الحياة",
مواضيع كثيرة طرحت بأسلوب متميز ينم عن إلمام الكاتبة بميكانيزمات الكتابة و جماليتها.
بإيجاز شديد، هذا الكتاب بنصوصه المختلفة لما تحتويه من مواضيع أصابت الجسم الاجتماعي في العالم، يعلمنا كيف نتسائل ونجعل الأشياء والحياة والمعتقدات والوقائع والانفعالات موضوعا للتأمل والمساءلة والنقد والتحليل.