رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، المسلمة والعربية في منطقة الشرق الأوسط والمغرب العربي. وهي جريئة لأنها اهتمت بالذات بعذرية الفتاة التي تعد إحدى أهم طابوهات مجتمعات الشرقيين والمسلمين. ولهذا ليس من الغريب أن تجلب إهتمام المفكرين والنقاد حيث كتب عنها الاستاذ إبراهيم البليهي مؤكداً على أهميتها وتأثرها بكتّابٍ أوروبيين وعرب عقلانيين مثل شكسبير ونجيب محفوظ والعروي وبن جلون وآخرين، ويرى أن “نهاية سرّي الخطير” تتميز “بمعالجة عقلانية باهرة لقضية ثقافية وإجتماعية شديدة التعقيد”. ص 5. كذلك كتب عنها الدكتور خليل إبراهيم حسونة والكاتب أحمد محمود القاسم ويوسف عز الدين والأديب والشاعر عبد الكريم الكيلاني و د. عبد العلي جبار و د. يوسف الكايدي. وأحاول هنا تسليط الضوء على بعض جوانب هذا العمل الجاد من خلال قراءتي الشخصية لها. يقوم معمار هذه الرواية على صيغة سردية قديمة: لقاء- فراق ومعاناة – لقاء ونهاية سعيدة من خلال ستة عشر فصلاً، يبدأ بالأول بعنوان “أشهد أنك عذراء” مثير ومقلق ويوحي بمضمون معقد، وينتهي بالأخير “وعادت شهرزاد إلى فاس” عنوان رحب يشير إلى نهاية سعيدة بعد أقل بقليل من خمسمائة صفحة. تعتمد هذه الرواية على موضوعة مهمة للغاية إذ إن البطلة المراهقه غاليه تتعرض لشيء بسيط جداً لو كانت تعيش في بيئة عائلية ومجتمعية متفتحة، لكنه هنا حدثٌ “لا يرفع رأسها” وتخشى منه: قطرة دم تنزف منها على ملابسها الداخلية. تُخبر غاليه اختَها غير الشقيقة “العنود” بالأمر، التي تقول لها بعد أن "بتسمت إبتسامة خبيثة…لنذهب بسرعة إلى الحمام لكي أغسل بقعة الدم من سروالك ولا تقولي لأحد عن هذا السر الخطير. قالت غالية وجسمها يرتعش: سر خطير؟ ماذا تقصدين؟ هل أنا مريضة؟ هل عندما يخرج الدم من الفتاة يعتبر عيباً؟ وسراً خطيراً هل، هل، توقف الكلام في حلقها وانفجرت تبكي، وإذا بأختها تمسك بيدها بقوة تجرها إلى الحمّام غسلت سروالها وقالت لها بلهجة المعلم إن اخبرت امك ستضربك لأن الدم عندما يخرج من البنت يعتبر عيباً كبيراً إحفظي هذا السر بيني وبينك كأن شيئاً لم يكن”. ص 14.
أوهمتْ “العنود” أختَها غاليه أن هذا يعني أنها ليست عذراء، ويجب عليها أن تخفي الحديث مع والدتها حول هذا الأمر! الكاتبة تبني روايتَها ال 475 صفحة على هذا الحدث “الجلل” الصغير الكبير، وتصور البطلة منذ تلك اللحظة وهي في خوف وألم كونها “ليست عذراء. وهكذا تُصاب الطفلة بأزمة نفسية تؤدي إلى إضطرابات في شخصيتها وتؤثر على سلوكها اليومي وتصبح العائلة كلها مشغولة بها و”بمشاكساتها” مع أخوتها الأولاد الذين يأمرون وينهون، و”إضراباتها” عن الطعام والدراسة. كثيراً ماتسمع غاليه أهلها يرددون على مسامعها كلاماً من قبيل: “إذا جلستِ في البيت بدون دراسة علينا تزويجك"! من المؤسف أن هذه الموضوعة اهم شي بالنسبة للبنت في أغلب الأسَر الشرقية، وهي أن تتزوج بناتهم بأي ثمن وبأسرع وقت لكي يسترن أنفسهن وشرفهن وبالذات في الأرياف والأوساط المحافظة. لكنها كانت تعاني ما تعاني وتبذل كل جهدها من أجل أن تحصل على المساواة مع أخوتها، وهو أمر شبه مستحيل، كونها تنتمي إلى عائلة تقليدية لدرجة أنها لا تستطيع أن تتحدث عن هذا الأمر العادي مع والدتها رغم أنها تربوية تعمل في التدريس. عَمّتُها تسكن معهم في نفس البيت، تتعاطف معها لكنها مغلوبة على أمرها، ولا يمكن أن تتحسن الامور، ولهذا تظل تعيش في هاجس خوف إنكشاف “السر الخطير”.
قد يجد بعضُ القراء صعوبةَ تقبّل هذا الحدث أوالإقتناع به، لكن يمكن توقع كل شيء في المجتمعات والعائلات المتزمتة المغلقة، ويبقى في النهاية معبّراً عن فكرة تجسّد واقعاً مريراً. وتبقى طبعا منذ تلك اللحظة تعيش في هذا الهم الكبير والمعاناة مما يدفعها لأن تكون أكثر عدوانية وإنعزالية من أهلها، فتثير تساؤلات الأهل وشكوكهم، لماذا تبتعد عن العائلة. الأليغوريا: قد يكون من المفيد الإشارة هنا إلى بعض الأليغوريا في هذه الرواية المتجسدة بدءًا من الأسماء: البطلة “غالية” إسم على مسمى، قوية الشكيمة، نَسَوية، ترفض العذرية وطقوس ليلة الدخلة والتقاليد القديمة ولا تقبل الأمور على عواهنها، وتطلب المساواة مع الذكور. والدها القاضي المتخصص بالشريعة المعروف “سلطان“، هو أيضاً إسمه يدل على حقيقته، متسلط ومتزمت يفضل الأولاد على البنات بإسم الدين ويعطيهم إمتيازات. أختُها الكبيرة غير الشقيقة “العنود“، إسم عربي قديم غير متداول كثيراً في المغرب، لكن الروائية تستخدمه هنا، قد يكون لغرض تكامل المنظومة الأليغورية، فهذه الشخصية صاحبة الإبتسامة “الخبيثة” تظهر مرتين في كل هذه السردية الطويلة، في بدايتها ونهايتها، في المرة الأولى أقنعتها أو “أوهمتها” بدافع نفسي عفوي أو “شرّير” مقصود بأن قطرة الدم النازفة منها تعني أنها غير عذراء، وفي الثانية يوم عرسها وزواجها بعادل لتسألها عن عذريتها، فيا ترى هل هذا مقصود أم أنها الصدفة لاسيما وأنها ليست شقيقتها؟ العائلة تجسد أيضاً رمزَ التراث، إنها تمثّلُ شمال أفريقيا الحقيقية، المتمسكة بالتقاليد، فالأب موريتاني والأم سودانية، والأطفال ولدوا في مدينة فاس المغربية التاريخية العريقة. أما الشخصية الأليغورية الأخرى فهو عادل “حبيب قلبها” وفارسها، وزوجها الحقيقي، الذي سنأتي عليه لاحقاً، ونرى أن هذه الفكرة معزّزة بموضوعة أليغوريا الطريق المتجسدة في تنقلات البطلة واسفارها وبحثها عن الذات. وقد يكون لفكرة قطرة الدم النازفة من الأنثى المراهقة غاليه ايضاً أليغوريا رمزية لايمكن إهمالها، تتضح للقاريء المتأمل بعد إنتهائه من هذا العمل. بيان الواقع الإجتماعي: ورغم أن الأم مُدرّسة ومتفتحه، لكنها لا تتحدث مع أولادها وبناتها بصراحة عن هذه الأمور الخاصة، وطبعا يفضلون الاولاد على البنات ويعتبرونهم أهم منهنَ وأفضل، مما يثير رد فعل البطلة غالية واصبحت تعاني نفسياً وتطلب التحرر، تذكرنا برواية “أنا حرة” لإحسان عبد القدوس، وهي تحب دائما وأبداً أن تثبت أنها لا تختلف عن الذكور. وليس عبثاً أن تذكر الكاتبة زكيه خيرهم رواية “طفل الرمال” للكاتب المغربي بن جلون الصادرة عام 1985، فهي من أهم النتاجات التي تعالج موضوعة “الذكورية” في المجتمعات العربية من خلال تكريسها لشخصية “أحمد” الذي هو في الحقيقة البنت الثامنة لوالدها، لكنه ربّاها كولد تعويضاً عن “النقص” الذي يعاني منه. وعندما تتوقف “غاليه” عن الدراسة، تضغط العائلة عليها بقسوة لتتزوج، ويصبح الزواج أهم وأغلى من كل شيء، سيما وأن عائلتها متزمتة دينياً. من المفترض أن يكون من الطبيعي أن ترجع البنت إلى أمها وتستفسر منها عن قطرة الدم النازفة من أعضائها التناسلية، لكن الخوف كبير جداً بالذات بعد “نصيحة” أختها العنود، ورغم التطورات والبرامج وبعض الإنفتاح في العالم العربي. وفي الحقيقة، حتى في الغرب هناك عائلات لا يحسن أولياء الأمور الحديث مع أطفالهم في قضايا حساسة، يشعرون بالخجل، لكن على الاقل هناك طرق أخرى يفتحون بها مثل هذه المواضيع. توظف الروائية هذا الحدث لتبني عليه الحبكة والمضمون وتصف تطورها من خلال السلوك النفسي لبطلتها غالية، وتلتقط حالات اجتماعية كثيرة تعينها في بيان الواقع، بإعتباره أهم مقومات النوع الروائي. وقد يعود لهذا السبب إتسام لغة بعض مقاطع الرواية بالمباشرة الإجتماعية والتلوين بالأسود والأبيض أحياناً وعدم تناول الشخصيات من الداخل وتحليلها، وهي من الأمور المتوقعة في مثل هذه الأعمال. كمثال على ذلك نلاحظ أن الكاتبة لم تتطرق لشخصية أختها “العنود” حتى بعد زواجها من عادل، وإستفسارها عن عذريتها، بل أهملتها، لإنشغالها بطرح القضايا الإجتماعية على حساب المستوى الفني في بعض المقاطع، لاسيما أن هذا العمل (475 صفحة) وأن كتابة الرواية الطويلة بالذات جهدٌ مضنٍ يحتاج بالتأكيد إلى المزيد من التأني والمراجعة. يمكن أن نلاحظ هذه السمة في مقطع طويل تعبر فيه الكاتبة عن فكرها على لسان بطلتها: “لا أريد أن أتزوج رجلاً يمتحن شرفي بدمي ويضعه على خرقة بيضاء ويقدمها في صينية لكي يراها أهلي .. إن الشرف لايقاس بالبكارة…إن الرجل من غير شرف مادام يروي لزوجته مغامراته الغرامية مع البنات قبل ان يرتبط بها…”. ص 119. ونفس الشيء يقال في مقطع آخر، حيث تقترب اللغة من المقال، وتورد الكاتبة هنا عدة امثال ضد المرأة دفعةً واحدةً بدلاً من توزيعها في الحوارات الحيوية أو المونولوجات. “إن في بلاد العُرب من الأمثال التي لا تحمل للمرأة إلا إهانات تحطم كلَّ شيء جميل… كل بليه سببها وليّه، يابن مقطعة البضور، البنت عار ولو كانت مريم، اللي بغى العذاب يرافق النسا والكلاب.. ص .123
تركز الكاتبة على تخلف التربية الاجتماعية وتنتقد التقاليد البالية وبالذات تفضيل الاولاد على البنات، وأيضا تفضل دائما أن تكون هي في المقدمة ولا تحب أن تكون في المؤخرة، كرمز التنافس بين الذكور والإناث. مرة أخرى أقول إن هذه الرواية مهمة لأنها تدخل في عمق التابوهات/ المحرمات التي تبقى سرية ولا احد يعلم بها، مع الأسف! تصوروا أن مراهقة تنزفُ منها قطرة دم ولا تعرف فيما إذا هي الدورة الشهرية أم لا. وتخشى مراجعة الطبيب ليفحصها في كل هذه الفترة علماً إذا إكتشف الطبيب مثلا أنها ليست عذراء، فهذا أمر خطير حقاً، يمكن أن يعرضها للمضايقات أو حتى الموت. وتبيّن الروائية الواقع الإجتماعي المتخلف، أيضاً من خلال التعامل مع البنات، مثل فحصهن بين فترة وآخرى في المدرسة للتأكد من عذريتهن، وتنتقد هذا الأمر على لسان بطلتها غاليه، وتقول لوالدها: “المستقيم مستقيم سواء كان في المغرب أو في أمريكا. لم يعجبه كلامها. إعتبره تحدياً فهو القاضي والإمام، وهو الدكتور في الشريعة والقانون، وهو الذي سبقها إلى الحياة وسيد العارفين، وهي عليها أن تطيع وتسمع من غير نقاش، لأن طاعة الوالدين طاعة لله…”. ص 22
هذا الحديث عن الأب يعني أيضاً رمزية العالم الأبوي، الذي اشرنا إليه، كذلك تقول له وهي تحاول أن تتمرد على والدها لأنه رفض أن تذهب للدراسة في أمريكا: “يا أبي أنا أطيعك ونحن كذلك عندنا فرن كبير في المطبخ. إن أردتني الآن أن أوقده وأدخله سأفعل في الحال لكن، تأكد أنني لست ذلك الطفل الصالح الذي نجا بمعجزة من الله. فزمن المعجزات قد انتهى وهذا الفرن سوف ينهي حياتي ويضع حداً لها وهذا ما أتمناه غادرها الخوف دون ضجة ولامسها حد الجنون. هرعت الى المطبخ، أمسكت علبة الكبريت … تحاول إشعال الفرن كي تدخل فيه ص 24”. وتخلت عن التقاليد وأصبحت ترفع صوتها على والدها كموقف جديد من الكاتبة التي تصور تطور الشخصية الروائية وهي تتجه نحو “التمرد” حسب حالتها النفسية، “أما أخواتها فاتخذن الصمت مدادا وكنَّ فقط ينظرن إليها مندهشات لانقلابها على والدها الذي يعتبر الحاكم الذي لا ترد له كلمة ص 24”. لاحظ مفردات مثل “إضرابها وتمردها وانقلابها” لها دلالات رمزية كبيرة جدا هنا في البنية الروائية وتطور السرد إذ إنها تعبّر عن تحول جذري في شخصية البطلة غالية، وأصبحت ثائرةً رغم قلقها على والدها وهذا يعني موقف الروائية “الثوري أو المعارض” كأنها تدعو جيل الإناث الجديد إلى المطالبة بحقوقه والوقوف ضد أساليب التربية القديمة، “ثلاثة أيام وهي مضربة عن الطعام والشراب ص 25”. لكن التربية الدينية العميقة و”خوفها من النار جعلها تخرج من غرفتها معلنةً هزيمتها، تتعثر صوب مكتب والدها وأسمال روحها ممزقة، ثملة بكل انواع الخنوع. وجدته يطالع كتاباً، اقتربت منه في هدوء أقرب إلى الخوف، قبلت يده في صمت منكسر، اما هو فكان يسترق النظر إليها بطرف عينه من وراء كتابه وابتسامة رضا ملثمة بقناع من هدوء مفتعل تعلو وجهه ص 25”. ومع ذلك تحلم بالكوابيس حيث “يحمل والدها خنجراً” ويحاول أن يقتلها رغم أنها تحبه وهو يحبها ص 27!
توظفُ الكاتبة الموضوعة الإجتماعية لتسلط الضوء على تساؤلات كثيرة حول التقاليد خاصة عن “ليلة الدخلة” التي تبدأ روايتَها بوصف تفاصيلها، حيث تتجمع العجائز بالذات يحاولن معرفة فيما إذا كانت العروس عذراء أم لا، من خلال المنديل الأبيض الملطخ بقطرة دم، وتنتهي بها ص 8-9. تعتمد بنية الرواية على الحركة الدائمة، وتغير الزمان والمكان، ونحن نتحرك في زمن آخر من خلال السفر من المغرب إلى فضاء آخر، نخرج منه إلى الجزائر ومنه إلى ليبيا ومنها إلى تونس ومنها إلى أمريكا ومنها العودة إلى الوطن المغرب، وبعدها إلى النرويج حيث تستقر مع زوجها. تتكون علاقات الزمان والمكان أو ما يسمى بالهرونوتوب (الزمكان) بالتدريج، وليس صدفةً أن يصبح النرويج هنا رمزَ الإستقرار وأنه المكان الذي تذهب فيه إلى مستشفى الأوليفول ليتحقق طبيبُها من عذريتها أو عدمها، ويصير مكان النهاية السعيدة بعد إزالة غشاء بكارتها بعملية خاصة ص 460.
نلاحظ هنا أن الكاتبة تبدأ روايتَها بالحديث عن غشاء البكارة والعذرية وخوفها من فقدانها وتكوّن عُقَدِ سرِّها الخطير، وتنتهي به في الصفحات الأخيرة حيث تصف بالتفصيل فحص الطبيب النرويجي الشاب لها ليخبرها بأنها عذراء. وتتفق معه على موعد لإزالته بعملية جراحية، لتقول لخطيبها عادل: “إن كنت تريدني أنا، قبلتك زوجاً. وإن كنت تريد عذريتي فهي هناك في مستشفى الأوليفول ص 468”. من المؤكد أن قسماً كبيراً من القراء الشرقيين لن يتفهمَ هذا الموقف المتحرر من العذرية، لكنه ينسجم مع كل مغزى الرواية وهدفها. الحركة والسفر في هذه الرواية رمز أليغوري يُعبّر عن طريق حياة البطلة، التي تتعرض إلى مظاهر حزينة ومؤلمة تفضح المجتمع العربي، منها مثلاً أنها تسافر مع رجل كبير بالسن وزوجته الشابة، المفروض أنه يحافظ عليها ويهتم بها كما أوصاه والدها الذي ساعده وأعطاه نقوداً، لكنه بالعكس تنكر له وتحرش بها، إلا أن السائق عرف بذلك وطرده من السيارة، وقال له “ألا تخجل من نفسك؟ ص 68، وأنه أيضا يعامل زوجته معاملة الحيوان. تصفُ الكاتبةُ بدقة كيف تحرشَ بها هذا الشيخ المسن الذي يدعي التدين: “… حتى وضع يده مرة اخرى على ظهرها ويدأ ينزلها شيئا فشيئا إلى الأسفل، فنهضت من مكانها ودموعها خرساء على جسدها المنهك. جلست على أرضية السيارة مقرفصه حتى شعرت بتنميل رؤوس أصابع رجليها من ثقل جسدها. … لم تعرها فاطمه اي انتباه. ولم تسأل نفسها ما الذي دفع غاليه للجلوس بتلك الطريقة. … ماذا كان بوسعها أن تفعل؟ إكتفت بانشغالها برضيعها الذي يبكي الضجيج المتغلغل في أحشائها ص 66”. تقدم الروائية زكيه خيرهن مقاربة إنتقادية للمجتمع من خلال وصف لسردية ذات مغزى عميق: سائق السيارة سمير، مدرس الفلسفة سابقاً، يريد التخلص من التقاليد البالية، تضايق جداً من العجوز الدجال، كأنه هو جرثومة يعمل على إستئصالها من المجتمع، قال للمسافرين بتلقائية: “إن هذا الرجل العجوز تطاول على الفتاة.. العطب ليس في السيارة ولكن في هذا العجوز لا أريده في سيارتي ص 67“. تتحدث الكاتبة عن رواية الطاهر بن جلون “طفل الرمال” الإجتماعية مع سائق السيارة سمير الذي تنشأ بينها وبينه علاقة جميلة، علاقة تفاهم في ليبيا، إلا أنه أيضا إسم على مسمى، مجرد سمير في الحكي والنظرية والشعارات، لا يتقبل فكرة أن تكون زوجته غير عذراء رغم انه ناصرَ المرأة وأخته كما يدّعي. تضع الروائية بطلها ضمن فكرة الإختبار، فكثيراً ما تحدّث لها هذا السائق الشاب سمير عن الآلام التي تعاني منها أخته وعن التمييز في التربية بينها وبينه في عائلته، لكنه عندما يحب غالية يواجهها بأنه لا يقبل أن تكون زوجته غير عذراء، وتبين تناقضات الرجل الشرقي. وبعد وصولهما إلى ليبيا يواصلان اللقاءات بعد قصص طويلة جدا مع عائلة الشيخ وسوء تصرفاته، وهي تحاول بهذه الطريقة أن تفضح الناس الذين يتظاهرون بالتدين وأنهم في حقيقة الأمر ليس لهم علاقة بالدين الحقيقي وإنما يتاجرون ويتسترون به. توقفت الكاتبة عند هذا الموضوع كما لاحظتُ، في فضاءات أخرى من الرواية، ومن المفيد هنا الإشارة إلى وجود تصورلدى بعض تجمعات المسلمين المغتربين في أوروبا عن إستعمال الدرّاجة يؤدي إلى إنفضاض غشاء البكارة عند الفتيات، ولهذا يمتنعن عن إستعماله مما يؤثر على موقفهن في المجتمع وتمييزهن عن زميلاتهن الأخريات. وتنجح الروائية بتقديم مجموعة شباب من الجيل المغربي الجديد، مثلا هذا السائق سمير يحدّثها عن أخته، يخبرها أن أمه “تدربها دوما على كيفية الجلوس بإحتشام والتحدث باختصار وحياء، وهمّ عائلتي أن توفق أختي بعريس وبحياة عائلية سعيدة، دون الإشارة إلى وجوب بلوغها مراتب العلم والثقافة التي تعتبر بنظرهم أمراً ثانوياً، المهم أن تتعلم الطبخ وتنظيف البيت، ويُمنع عليها اللعب خارج البيت وركوب الدراجة والقفز على الحبل لأن ذلك قد يفقدها عذريتها ص 53”.
تُصوّرُ الكاتبةُ زكيه خيرهم الشبابَ في السيارة وهُم في مزاج جميل، أحدهم يغني أغاني جميلة، ويشعر القارئ أن هذا الطريق وكما أسلفنا رمزُ الحياة، بحلوها ومرّها رغم المتزمتين، تلتقي البطلة مع ذلك بناس منفتحين على العالم مثل سمير، كان متفهما لوضع المرأة ويقول لأحد الآباء منتقداً مظاهر المجتمع وأساليب التربية القديمة: “لا أستطيع أن افهمكم أنتم الآباء ولا أستطيع أن افهم اسلوب الضرب والقمع الذي تمارسونه مع بناتكم!! الضرب لا يصلح الأخطاء، بل يزيد من تراكمها واستعصائها ص 71”. في ليبيا تتغير علاقة غاليه مع هذه العائلة المغربية التي كان والد غاليه يعوّل عليها كثيراً وترك إبنته تذهب معها، لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن. تُضطر غالية للإنتقال من بيت إلى آخر في طرابلس حتى تعرفت إلى الدكتور السوداني الأصيل نبيل الأميركي الذي يشتغل في المركز الأفريقي، بينما اشتغلت في شركة ليبيه وتعرضت للتحرش من المسؤول، فتركته. نلاحظ في هذه الرواية أن الكاتبة تصور أليغوريا الطريق ورمزيته كما أسلفنا، والصعوبات وكأنها تُقدم الحياة الجارية أو رمز الحياة كما يظهر واضحاً: “شرع الرجل في الغناء، والمسافرون يصفقون، أما هي فكانت تنظر إلى تلك الطريق الطويلة وكأن لانهاية لها. طريق مقفرة نائية…لم تكن ترى إلا طريق طويلة وصحراء شاسعة ص 69”. في تونس يحاول الدكتور نبيل أن يسعد زوجته “الرسمية أو الشكلية” غاليه، لكنها تصدّه، تقول بين نفسها “هل أنا مستقلة أم محتلة.. إن أجبرني أن اشاركه حياته فسرّي سينكشف ونهايتي ستكون وخيمة ..هل أنا زوجته أو لستُ زوجته؟ لم اكن أريد منه سوى إقناع والديّ بأن يتركاني أسافر لمتابعة الدراسة ص 342”. وهكذا تحاول أن تصف حياتها مع زوجها “الشكلي” الدكتور نبيل: شخصان يسكنان معاً بلا علاقة زوجية. ومع ذلك تتسائل غاليه: “لماذا شعرتُ بإمتعاض عندما ذكر زوجته؟ لماذا شعرت بالغيرة؟ ص 352. لموضوعة ختان الإناث أهمية ايضا في الرواية من خلال ذكريات الطفولة بالتفصيل عنها حيث تمت عملية الختان، “وأنا أتذكر في وهم طفولتي الممتدة ما بين فتحات رجليّ إلى أن أصبحتا فخذين عريضين كبيرين. ص 353. تصف الكاتبة الاختلافات الثقافية حتى ضمن الدين الواحد، في أمريكا تلتقي المسلمين الأفارقة إحداهم تقول لها: “أفريقيا للأفريقيين وليس للعرب”، ويذكرون أن “المسيحية ظهرت في أفريقيا، والمسيح أسود وليس أبيض”. ص 402. ولأنها تعاني نفسياً وتعود دائما إلى “سرها الخطير“، تقول الكاتبة عنها مثلاً: تريد أن “تنهي دراستها لتسترجع بها قوتها وتبعد بها الخوف من سرها الخطير”. ص 406. إلا أنها تتردد فتتساءل: هل أرجع إلى المغرب فمهما بلغت من الدرجات العلمية فطاعة الوالدين واجبة علي، إن أرغموني على الزواج هل الشهادة الجامعية ستحجب عني الإتصالات وإجباري على الزواج؟ إن الإسلام اعطاني حق الاختيار وحق الرفق، لكن رب الأسرة الذي أنجبتني هؤلاء لهم الامتلاك والتصرف في مستقبلي. ص 406. وتبين الكاتبة أن غالية النَسَوية الرافضة للتقاليد تلتزم بالدين الإسلامي الوسط، فهي مثلا تصلي وتقرأ كتبَ نوال السعداوي. ص 417. كذلك تتحدث عن رفضها للثقافة الأمريكية وتصف مثلا أن احد الأبطال يقول: “ما زالت روح الغزو مسيطرة على العقلية الأمريكية حتى الآن وتظهر جليا في أفلامهم مثل فيلم “الوطني” يبرر القتل والعنف والدماء… فتاريخ “بنجامين مارتن” ليس ناصع البياض فهو بطل مذبحة مثّلَ فيها بأشلاء قتلى الفرنسيين”. ص 412. وتتعرف غاليه إلى أحد زملائها في العمل يتعرض للضرب بالسكين كرمز لمظاهر العنف في هذا البلد ص 425، وعلى اللبناني العربي أنطوان، وتعيش بعض التناقضات بين الثقافتين، لكنها تبين أيضا أن الحرية الغربية ليست هي الفُضلى، من خلال تصوير فتاة تعرضت للاغتصاب، ومع ذلك لا تستطيع الشكوى عند الشرطة لان والدها سناتور وتخشى فضحه. ص 428. لوتشيو زميلها في العمل كان يتصور أنه يمكن أن يمارس الجنس معها من أول لقاء، لكنها ترفض ذلك وتشرح له سبب ممانعتها مثل هذه العلاقة بدون زواج. إنه شخص متحرر غير مبالٍ فتكون التبعات سلبيةً، يتعرض فيما بعد للضرب وتتأثر كثيراً. وهكذا تهيّأ الكاتبة قارءَها لتمهيد الخاتمة من خلال تعرفها على زميل جديد إسمه “عادل” يبدو انه اسم على مسمى، يحمل رمزاً كما ذكرنا، ” اغدق عليها القليل من ثروته والكثير من ذاته وحبه. علّمها أن تؤمن بالحياة …عادل كان لها الفارس القوي الذي يتكلم صامتاً..” لكنه عادل معها ومتفهّمٌ لمواقفها الجريئة من قضايا المرأة في مجتمع محافظ، لا يتخلّى عن مفهوم العذرية. ص 460. هذا هو الموقف الإيجابي الوحيد في حياتها، وقد أتقنت الروائية تقديمه كونه يتناسب مع بنية هذا النوع من الروايات وصيغتها، التي أشرنا إليها في بداية مقالنا: لقاء – مغامرات وصعوبات وأهوال- نهاية سعيدة، كما تعودنا عليها في النتاجات الشعبية القديمة. تقول الكاتبة عن غاليه: “تمنته زوجاً … ارادته حلالاً، لم يكن لها من جسر العبور إليها إلى أن تكشف بنفسها سرها الخطير، لابد أن اذهب عند الطبيب النسائي وأكشف عن حالي، لابد من الذهاب إلى طبيب نسائي كي اقطع الشك باليقين فإما أن أكون له وإما أن يكون الموت لي، لابد أن أبدّدَ الغيوم الهشه وأفسح المجال لرؤية اوضح. ص 460. تتصل بالطبيب في المستشفى وتأخذ موعداً معه لكي يفحصها ويتأكد من عذريتها، وفي النتيجة يقول لها إنها عذراء. وكرست الصفحات الاخيرة لهذه الموضوعة، “ويقول لي الطبيب أنت عذراء… أهذا هو هذا هو سري الخطير؟ هذا هو الوهم الذي قتلني… ازهقَ روحي، بدّدَ حنيني الى وطني. ص 464. تطلب من الطبيب أن يزيل البكارة بإجراء “عملية بسيطة يشق فيها غشاء البكارة” ص 465، وليس في ليلة الدخلة بعرس مع زوجها كما جرت العادة، تعبيراً عن رفضها لهذه العادة البالية حسب رأيها. وتخبر حبيبها وزوجها القادم عادل بهذا الأمر. “تخلصت غاليه أخيراً من وهم العذرية“. ص 467. وأتوقع كما أشرتُ، أن يختلف بعض القراء مع الكاتبة، وقد يعتبرون الفكرة إفتراضيةً وغير واقعية، وهنا تكمن أليغوريتها ورمزيتها. ويُعقد زواج غالية التي يدلّ إسمها على شخصيتها كما أسلفنا، مع “عادل” رمز العدالة والتطور والإنفتاح، على، دون أن نتعرف على سلوكه الشخصي ولا أوصافه الداخلية والخارجية، لأنه هو أيضاً أليغوري (رمزي) الطابع كما ذكرنا، ويذهبان إلى حديقة قصر الملك، “قال لها هل تقبليني زوجاً لك؟ قالت له: إن كنت تريدني أنا؟ قبلتك زوجاً وإن كنت تريد عذرية فهي هناك في مستشفى الأوليفول”، ولم يتضايق، بل بالعكس “انطلق مسرعاً إلى غرفته بالحي الجامعي. أما هي فكانت تضحك، إلى أن وصل صوتها إلى الفضاء”. ص 468. يقول لها هل تقبليني زوجا لك…” بينما تردد هي: “ضمني الى صدرك بقوة، إصهر روحك بروحي… إجمع قلبينا كي يخفقا معاً”. ص 469. إنها النهاية السعيدة كما قلنا كخاتمة لحكايات تذكرنا بألف ليله وليله: الفصل السادس عشر، العنوان التراثي الرحب: “وعادت شهرزاد إلى فاس“، وصلت غاليه مع حبيبها إلى المغرب، حيث أقامت عائلتها عرساً فخماً، هنا، في منزل القاضي سلطان حشد كبير من الناس…إختفى عادل بينهم، … انعقدت حلقات الرقص والغناء للنساء والرجال، … طبول مغربية، إيقاعات موريتانية وسودانية..”. ص 472. لم يتخلَّ العريسان غاليه وعادل عن “ليلة الدخلة” ولا طقوسها كما يُفترَض ويُتوقّع كنتيجة لموقفهما المعارض لها وللمنظومة الأليغورية الوعظية التي أشرتُ إليها، لكنها هنا مجرد “تمثيلية” للتسلية قاما بها إحتراماً لمشاعر العائلة والأصدقاء: “وحانت ليلة الدخلة ودخلت مع عادل إلى الغرفة التي كانت يوماً منفردةً فيها مع عريسها السابق نبيل. دُقت الطبول وارتفعت الزغاريد، وإنهال على باب غرفتهما طرقٌ. …عادل … يخرج شفرة حلاقة من حقيبته ويكشف عن فخذه محاولاً جرحه لإخراج شيءٍ من الدم. كان العرق يتصبب على وجهه ويده ترتعش… لم يستطع أن يجرح نفسه…وأخيرا قام بذلك الإنجاز العظيم… مسحَ بقطعة قماش بيضاء على فخذه … ألقى بها خارج الباب وأغلقه. زادت الزغاريد في الارتفاع وزادت الاصوات في التهاليل”. ص 472. وبهذه الخاتمة نلاحظ أن الكاتبة كأنها تريد أن توصم المجتمع العربي بالنفاق والمظاهر والتقاليد البالية. !
*أستاذ جامعي عراقي مقيم في الدنمرك
**زكيه خيرهم. نهاية سرّي الخطير. وكالة سفنكس للترجمة والنشر والتوزيع 2017