عند تصفحي لرواية " صابرين" للكاتبة نُعمى شاكر، المغربية المولد، العربية الانتماء، المهجرية الإقامة، لم أشعر إلا وأنا أجاوز العتبات بسرعة فائقة، تتجاذبني الحكايات المتتابعة مثل غزلان تتهادى بلا توقف، لأجد نفسي إزاء الصفحة الأخيرة أتساءل معها: (ماذا لولا القبو؟)
الكتاب سيرة ذاتية بحس نفسي عميق، لكاتبة باحثة في علم النفس، وهذا ما أعطى للحكي بعدا جماليا من نوع خاص. فإذا قيل بأن الكتاب الأول لا يُعوَّل عليه، فإن الانطباع الأول الذي ينتاب القارئ يبدو إيجابيا إلى أبعد الحدود باتجاه ضمان استمرارية الكاتبة، لما تتوفر عليه من قدرات لغوية ومعرفة سيكولوجية ونفسية وغزارة في الحكايات، وسهولة في السرد الذي ينزاح صوب السهل الممتنع...
تطالعك العتبات المتداخلة بشكل غريب، تتحسس من خلالها مضامين الرواية، حيث تمتزج جمالية الإسم (صابرين) بحمولة معنى الكلمة وما توحي به من حث على صبر النفس بصيغة الجمع... وتمتزج في لوحة الغلاف للفنان معاذ السيد، صورة شابة تُسند همَّها على ركبتيها وتعطي ظهرها للكون ، بصورة بدر مكتمل خلفها يرسل بارقة أمل وسط الظلام المخيم... تُجاوز صفحات الرواية مائةً وخمسين صفحة بقليل، وهي صادرة عن دار "اسكرايب للنشر والتوزيع، بجمهورية مصر العربية". وقد اختارت الكاتبة أن تؤثت الغلاف الخارجي الخلفي للكتاب بفقرة معبرة، تلخص معاناتها ونظرتها للحياة، مذيلة كل ذلك بصورتها الشخصية وهي مبتسمة، في إشارة واضحة إلى الأمل والصمود الذي يجب أن يتحلى بهما الكاتب حتى في أحلك مراحل الحياة... كما اختارت أن تهدي هذا الكتاب إلى كل من يصر على الحياة ويحارب كي يعيش... بل اختارت أن تنهي الكتاب من حيث بدأت: تحذير القارئ من دخول القبو، سواء دخله أو لم يدخله، والتجاؤها إلى القبو في النهاية كحل أخير وهي تتساءل عن مصيرها في حال غياب هذا "القبو..." تاركة للقارئ مساحة التأرجح بين قبو معنوي وقبو محسوس...
ورغم أن الكاتبة جعلت من الحكايات المؤطرة فصولا مرقّمة بلغت عشرين فصلا، إلا أنها تبدو فصولا بلا فواصل، بل إنها حكايات مندمجة ضمن الحكاية الإطار، حكاية صابرين، تسردها في تتابع وانسجام مبرزة أدق تفاصيل الأحداث والأوقات والفضاءات والشخوص، عبر مراحل متفرقة ومجتمعة في آن واحد من حياتها، بنكهة نوسطالجية ، وتحليل نفسي لمختلف الحالات التي طبعت ذاتها والشخصيات المصاحبة...
تركز نعمى شاكر في حكيها على وصف الأمور والأشياء والأحاسيس بدقة وإسهاب، تحس وأنت تقرأ البداية كأنك إزاء امرأة تتقن فن الوصف، كما تفعل نساؤنا في جلساتهن الخاصة، فتشدك إلى الحكاية بسلاسة، تقول: "أنا صابرين، فتاة عادية أحب الحياة والصداقات وأتواصل بسرعة مع الناس. يقال إنني جميلة وذات قلب طيب، وأنا من أسرة محافظة، وأول مولود لأمي... (ص:11)
تستدرج القارئ بهذا التعريف الموسع، وتستقبله بوصف دقيق لطقوس الشاي، وكأنها تستضيفه على عادة أهل المغرب...تقول: "أما سحره الأكبر لنا كعائلة، فهو براد أتاي الممتلئ به وبحبوب الشاي الأخضر، ذاك المشروب الساخن صيفا وشتاء، شربناه صغارا وكبارا، بل هو في الزيارة أكبر مراسيم الضيافة والاستقبال...(ص:12)
ولعل أبرز ما يثير في حكايات نعمى شاكر كما أسلفت هو ذلك البعد النفسي الذي يُستشف من التعابير في مواضع شتى، أستقي منها مايلي:
"اندهشت لقولها، وأحسست بخجل يعتريني، ضمتني أمي إلى صدرها قائلة: كبرت يا صابرين، الله يكتب لك الخير. قبلت رأسها ثم انصرفت في خجل إلى غرفتي، جلست أستعيد من ذاكرتي صورة الشاب ونظراته وأنا مشوشة لا أدري ما القادم، وهل أنا صدقا كبرت وحل وقت زواجي؟ وكيف يمكنني أن أرتبط بشخص لا أعرفه؟ ..." (ص:22)
ورغم أن الحكي سيرة ذاتية إلا أن تعدد الشخوص وتعدد الفضاءات والحكايات والأزمنة، يبعد عن القارئ ذلك الشعور بالانكباب على حياة شخص معين، وفي ذلك ما يصرف الانطباع السائد عن كتابة السيرة الذاتية، من حيث الرتابة والتكرار لدى البعض... وتعطي الانطباع بقدرة الكاتبة على اجتراح الحكاية من زاوية أخرى، وإلى كتاب آخر...