"نموذج كتاب عرائس المجالس لأبي إسحاق الثعلبي"
مقدمة:
تاريخ السرديات العربية القديمة حافل بمرويات نشأت في ظلّ سيادة مطلقة للمشافهة و طبعت وما زالت مخيالنا الأدبي والثقافي. موروث حكائي متعدّد الأغراض يحمل مواضيع شتى وباعثة في نفس الوقت على أسئلة كثيرة. ومن هذا المنطلق، فالجنس الأدبي المسمى بـ "قصص الأنبياء" هو عبارة عن كمّية هائلة من السرد تتمحور حول الأنبياء والشخصيات والأمم الغابرة السابقة لنبوّة رسول الإسلام. حكايات مشهورة داخل المخيال الديني الإسلامي بحضورها في النص القرآني و التفاسير وكتب التاريخ وكتب قصص الأنبياء. فهناك نماذج عديدة لشخصيات مروية تدخل في سياق تعبير ديني تولّى روايتها مجموعة من الرواة اختلفت مراتبهم المعرفية وطرق رواياتهم باختلاف انتماءاتهم وعصورهم. حكايات غذّت، ومازالت، مخيال الملايين من المستمعين والقرّاء قرونًا عديدة.
يلتقي قارئ هذه السرديات بلائحة طويلة من الأنبياء المشهورين في المخيال الديني التوحيدي ابتداء من آدم ونوح ثم إبراهيم وهود وصالح وشعيب وذي الكفل وأيوب ويوسف ويعقوب وإسماعيل وإسحاق وموسى وسليمان ويونس وزكرياء ويحيى وعيسى وغير ه مع ذكر بعض الشخصيات التاريخية المشهورة كالإسكندر و بوختنصر و أخرى كالحكيم لقمان.
وابتغاء لدراسة مكوّنات هذا الجنس الأدبي سيتمحور بحثتنا حول كتاب اشتهر بتتبعه لسرديات قصص الأنبياء قديمًا و مازال مقروءاً في أقطار عديدة من العالم العربي وخارجه. و قد عرف هذا المؤلّف عدّة ترجمات إلى لغات أجنبية. إنّه كتاب عرائس المجالس في قصص الأنبياء ( العرائس) من تأليف أبي إسحاق الثعلبي (ت427/1035).
نظّم الثعلبي كتابه على شكل مجموعة من الحكايات والقصص برمجها في خانات سردية سمّاها المجالس موضوعها الأساسي الدرس الديني والعبرة، بحيث يكون تصوير الخطاب الديني مستفاداً عن طريق المعارضة المُتمثّلة في نماذج قديمة كفرعون وهامان. و تُصبح المُطالبة باتّباع الرسول وما ينجم عن ذلك من نجاة هو المقصد الأسنى الذي يتوخاه كلّ راوٍ لهذه القصص. قصص تُعيد نفس الموضوع لكنّ الأشخاص والديكور والتشويق والتخويف والتأثير في الوجدان تتغيّر من قصة إلى أخرى. فنحن أمام مشروع واضح المعالم يمكن وضعه بسهولة في خانة الوعظ والاعتبار.
لماذا وقع اختيارنا على الثعلبي ؟
كتاب "العرائس" حلقة مهمّة داخل سلسلة الروايات والكتابات المتعلّقة بالسرديات الدينية في الإسلام الوسيط. فهو خطاب له خصوصيته بالنسبة للكتابات العديدة التي تطرّقت لنفس الموضوع قديما وحديثا.
فإذا كان الاهتمام بموضوع القصص الديني عرف بداية جنينية منذ أواخر القرن الثاني للهجرة عن طريق كتابات منسوبة لراوية يُدعى وهب بن منبه (تـ 114/732) وتكلّف بإيذاعها غالبية أفراد عائلته، فقد تميّز الثعلبي على سابقيه ولاحقيه الذين كتبوا واهتمّوا بقصص الأنبياء بخاصيات عديدة نذكرها في صلب الكتاب، لكن لا مانع من ذكر بعضها في هذا التقديم: أوّلا شخصيته و تكوينه. فنحن برفقة راوٍ مشهور في تاريخ التفسير القرآني، مُتمكّن من سرديات القصص الديني. فهو من هذه الزاوية يتأرجح بين ثقافة عالمة وأخرى تهتمّ بخطاب يُعطي للمتخيل والعجيب حرية كاملة. ثانيا، تمكّن هذا الراوي من موضوعه و عنايته بمحاولة توصيل خطابه لجمهور واسع من المستمعين والقراء، وعدم اقتصاره على قارئ معيّن له مواصفاته الخاصة، مترجما، بهذه المنهجية، الخطاب الديني الإسلامي والمقدس بصفة عامة، عن طريق كلّ ما هو سردي و عجائبي. ثالثا حضور هذا الكتاب وتداوله وقراءته من طرف سلسلة طويلة من القرّاء وذلك خلال قرون عديدة، ممّا أعطى له شهرة وصيتا.
وقد اخترنا هذا المؤلف للتساؤل حول مستويات مُوجِّهة لبحثنا في عالم القصص الديني في القرون الوسطى والتي تمثّل العمود الفقري لدراستنا، وهي: أولا،الاهتمام بالكتابة في موضوع قصص الأنبياء و التطرّق لبعض متاهات وأسفار كتاب العرائس. ثانيا، مكانة ودور الثعلبي في تصنيف وتنظيم سرديات هذا الجنس الأدبي. ثالثا العناية بهندسة هذا الخطاب وكيفية تأسيسه للقصة الدينية. وأخيرا في مقال لاحق ، نتساؤل حول المكانة المُخصّصة للمتخيل والعجيب والغريب في تكوين القصة.
2البيوغرافيا المستحيلة
تنتمي العناصر البيوغرافية التي تركها لنا كتّاب التراجم بخصوص أبي إسحاق الثعلبي إلى النوع الأدبي المعروف بــ" كتب الطبقات ". وهي معلومات ضئيلة وفقيرة للغاية يمكن وصفها إجمالا بأنها تتطرّق عموما لبعض المناحي المعرفية والدينية لشخصيته.و ذلك بذكر عبارات و ملاحظات تتضارب فيها الآراء وتختلف فيها أقوال الرواة، ممّا يصعب على القارئ المعاصر الخروج برؤية واضحة.
فجلّ الأخبار يطبعها عامل التكرار والاختلاف. ويتساءل الباحث أحيانا : هل يمكننا أن نوافق تقي الدين بن تيمية (728هـ/ 1328م) الذي ينتقد بجرأة الثعلبي واصفًا إيّاه بـ"حاطب ليل"، ناقدا بذلك تفسيره المسمّى الكشف والبيان عن تفسير القرآن - الذي سنتطرّق له فيما بعد- والذي خلط فيه بين مادة تفسيرية لغوية ومجموعة من الأخبار والحكايات الأسطورية المستمدّة ممّا سمّيناه خزّان الإسرائيليات ؟ أو يمكن أن نقابل هذا النقد الجرّيئ بأقوال آخرين أمثال عبد الغافر الفارسي (529هـ/1134م)، في كتابه السياق، الذي يصف الثعلبي بالثقة، قاصداً أنّ روايته مُتأصّلة لا طعن فيها حسب معايير منهج نقد الحديث النبوي. أقوال متضاربة سنتطرّق لها في ما بعد. فالمهمّ أنّ كلّ ما يبقى للباحث هو محاولة التعامل واستفهام النزر القليل من المعلومات الإخبارية التي وصلتنا، واستنطاقها من أجل إعطاء القارئ فكرة عن هذا الراوي المغمور الذي ترك لنا كتابا حول قصص الأنبياء استطاع أن يخترق مجموعة من القرون للوصول إلينا حاملا مجموعة من الأخبار والحكايات و واضعا في نفس الوقت أسئلة كثيرة ومُحيّرة.
و يمكن أن نقول إنّ غالبية الوحدات والمقتطفات البيوغرافية التي وصلتنا حول أبي إسحاق الثعلبي ترجع إلى ياقوت باستثناء بعض العناصر القليلة المذكورة عند عبد الغافر الفارسي و آخر يدعى ابن ماكولا. فأقدم شهادة تتحدث عن الثعلبي حسب علمنا نجدها عند عبد الغافر الفارسي، كما سبق أن ذكرناه في كتابه المخصص لمدينة نيسابور ولمشاهير علمائها. ويجب كذلك الاهتمام بما أورده السبكي الذي يصنّف الثعلبي ضمن الشافعية، وإن كانت طبيعة هذا التصنيف الفقهي تستدعي نوعامن التحفّظ.
فأمام هذه الأخبار المتكرّرة اخترنا نبذة ياقوت المُتضمّنة لمعلومات قيّمة تاركين له المجال ليقدم لنا الثعلبي و قائمين في نفس الوقت ببعض الملاحظات المركّزة على بعض العناصر والأفكار.
2-1 الراوي هو
" أحمد بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق الثعلبي : المفسر، صاحب الكتاب المشهور بأيدي الناس المعروف بتفسير الثعلبي. مات فيما ذكره عبد الغني بن سعيد الحافظ المصري, ونقلته من حاشية "كتاب الإكمال" لابن ماكولا، في محرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة. وقال : أبو إسحاق الثعلبي المفسر الجليل خراساني, وذكر وفاته.
وذكره عبد الغافر في " السياق " فقال: أحمد بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق الثعلبي المقرئ المفسر الواعظ الأديب الثقة الحافظ صاحب التصانيف الجليلة, من التفسير الحاوي لأنواع الفرائد من المعاني والإشارات وكلمات أرباب الحقائق, ووجوه الإعراب والقراءات. ثم كتاب العرائس والقصص وغير ذلك مما لا يحتاج إلى ذكره لشهرته. وهو صحيح النقل موثوق به. حدّث عن أبي طاهر ابن خزيمة وأبي بكر ابن مهران المقرئ وأبي بكر ابن هانئ وأبي بكر ابن الطرازي والمخلدي والخفاف وأبي محمد بن الرومي وطبقتهم، وهو كثير الحديث والشيوخ وذكر وفاته كما تقدم. قال : وسمع منه الواحدي التفسير وأخذه عنه وأثنى عليه, وحدث عنه بإسناد رفعه إلى عاصم قال : الرئاسة بالحديث رئاسة نذلة إن صحّ الشيخ حفظ وصدق فأصمى يقال : هذا شيخ كيس وإذا وهم قالوا شيخ كذّاب. وله كتاب ربيع المذكّرين ".
2-2 ملاحظات حول الوثيقة
تتمحور الملاحظة الأولى حول بنية نصّ ياقوت التي تحيل إلى نصوص أخرى مع ذكر أصحابها. فياقوت يذكر مجموعة من الشهادات والعبارات النقدية مع إحالتها أيضًا إلى رواتها، مروية حسب الكتابة الأدبية العربية الإسلامية القديمة التي يغلب عليها طابع الإسناد. فكل خبر منسوب لراوٍ معين، وكلّ قول مضاف لقائله ممّا يعطينا فكرة عن منهج ياقوت. فهذا الأخير صنّف وألّف، حسب منطوق هاتين الكلمتين، الشهادات التي قرأها في الكتب والأخبار التي سمعها مباشرة من الرواة.
و تعنى الملاحظة الثانية بطبيعة الشهادات وقيمتها. فيصعب من ناحية تحقيقها وتدقيقها، ومن ناحية أخرى لا نستطيع نفيها أو تهميشها. فياقوت، عكس بعض المترجمين الآخرين، لا يخفي الرواة بل بالعكس من ذلك فهو يظهرهم ويكشف القناع عنهم محمّلا إيّاهم أقوالهم ورواياتهم ومُضيفا إليها أخبارا أخرى أحيانا مُغايرة ومُتضاربة، داعيا القارئ المتدبّر إلى الفحص والتمحيص والمقارنة .
يتحدث نص ياقوت بصفة عامة على عناصر بيوغرافية تتعلّق بالمواضيع التالية:
الاسم واللقب وسنة الوفاة وبعض الوظائف العلمية والدينية التي مارسها الثعلبي و الأوصاف التي وصف بها وعناوين بعض كتبه ومؤلفاته، إضافة إلى أسماء بعض شيوخه ونقده ببعض المصطلحات النقدية الهامّة.
2-3 اللقب والسنة والوفاة
أحمد بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق الثعلبي، هذا هو الاسم الكامل والحامل، بطبيعة الحال، اسم الأب والجد وجد الجد.أما فيما يتعلق باللقب " الثعلبي " فيتحدث ياقوت فقط عنها تحت صيغة" الثعلبي"، في حين يضيف ابن الأثير داخل ترجمته شكلا آخر لهذا اللقب تحت صيغة "الثعالبي"،و تبقىهذه الصيغة نادرة ويطلقها المترجمون عادة على أبي منصور الثعالبي (429/1037) عالم وأديب من علماء نيسابور عاصر كاتبنا و ولد كذلك في مدينة نيسابور .
و يرجع ابن الأثير لقب الثعالبي إلى قبيلة عربية تدعى ثعلبة. لكن التفسيرات والتعليلات التي أعطاها هذا المترجم لا نجد لها ذكرا لا عند ابن ماكولا ولا عند الفارسي ولم يُعرها ياقوت أيّ اهتمام. فنحن نعرف أن مسألة الكتابة النَسبية قد عرفت نوعا من المزايدة ويصعب التمحيص والفحص فيها، و لكن لا نجد مع ذلك جوابا للدافع الذي دفع ابن الأثير إلى إعطاء الراوي الثعلبي أصلا عربيا ؟
ونقول اتباعا لياقوت أن راوينا ولد في نيسابور التي تعتبر من بين أكبر وأهمّ مدن خراسان على غرار مدن إيرانية أخرى قديمة كبلخ والحيرة ومرو . وإذا أخذنا بعين الاعتبار سنة 427/1035 فيكون الثعلبي قد أمضى مدّة طويلة تحت حكم دولة الغزنويين. هذه الدولة التي يمكن اعتبارها في الواقع أول انتصار للعنصر التركي في صراعه مع العنصر الإيراني تنسب إلى سبكتين أحد مماليك القائد التركي البنكين. وخلف سبكتين في حكم الإمارة الغزنوية ولده محمود 387/421 الذي امتاز عهده بنشاط حركة الجهاد في الهند. فلا يمكّننا هذا السياق التاريخي من جميع الأحداث والعناصر المرتبطة براوينا. فهناك أسئلة عديدة لا نملك الإجابة عليها. فكيف كانت علاقة كاتبنا بالسلطة الغزنوية ؟ وكيف عاش الأحداث التاريخية الهامة التي ذكرناها بعجالة ؟ هل كان فعلا داخل الفضاء السياسي الغزنوي أم خارجه ؟ أسئلة كثيرة تراود فكرنا ولا نجد لها جوابا أو معطيات لترجيحها. وكلّ ما يمكننا قوله هو إن عصر الثعلبي يصادف عهد هذه الدولة وحكمها وتقلّباتها السياسية .
2-4 راِوٍ يتأرجح بين الجرح والتعديل
استعمل ياقوت في تعريفه للثعلبي مجموعة من العبارات الوصفية والمصطلحات النقدية التي ترمز إلى المرتبة العلمية والدينية و الوظائف الثقافية التي شغلها راوينا . و هي كلمات هامّة للغاية سنتطرّق لها في هذا المبحث.
يقدّم ياقوت الثعلبي كمثال للعالم العربي الإسلامي الوسيط: له معرفة جيدة باللغة العربية وبالعلوم الدينية كالقراءات القرآنية والتفسير والوعظ والأدب. ومعروف كـ " مفسّر وصاحب الكتاب المشهور بأيدي الناس المعروف بتفسير الثعلبي ". ولقد غطى بالتفسير راوينا اهتمام الوظائف والاهتمامات المعرفية الأخرى التي مارسها.
و لهذا يصف ياقوت الثعلبي " بالأديب " رامزا بذلك إلى معرفته العامة التي تأخذ من كلّ شيء بطرف على غرار التكوين الثقافي للعلماء المسلمين القدامى في العصر الوسيط. و لكن هذا لا يجعل كاتبنا يرقى إلى مكانة ومنزلة بعض الأدباء القدامى الذائعي الصيت كالجاحظ وابن قتيبة وغيرهما. وُصف الثعلبي كذلك بالواعظ. وهنا يمكننا التساؤل هل هي وظيفة قام بها داخل إطار معين، كالمسجد مثلاً؟ وما هي الدلالات التي كان يحملها فعل الوعظ في هذه الفترة الزمنية ( القرن الخامس الهجري)و في هذا الفضاء الجغرافي بالذات (إيران/خراسان) ؟ ثم ما هي العلاقة بين الوعظ والقصص ؟ وهل يمكن اعتبار راوينا قاصا من بين قصاص نيسابور، أم لا ؟
علاوة على الملاحظات و الأسئلة السالفة والتي يصعب الإجابة عنها، استعمل ياقوت بعض المصطلحات التي خصّ بها الثعلبي والتي تندرج في سياق علم الحديث، خصوصا باب " الجرح والتعديل " ( نقد الرواة). و نستخرج من تعبير ياقوت أن الثعلبي راوٍ لا إجماع على صرف روايته،و لكن في نفس الوقت نجده يستعمل حياله كلمتي "حافظ وثقة". وهما مصطلحان هامّان يعطيانه مكانة مرموقة في سلّم النقد الحديثي. وانطلاقا من هذا النقد يظهر الثعلبي في البداية كراو محترم، و لكن كلما تقدّمنا في قراءة ترجمة ياقوت يظهر في صفة سلبية، خصوصا حين يوصف من طرف بعض النقاد "بالكذاب". وهي صفة خطيرة تخرج صاحبها من دائرة الرواة الثقاة المحترمين وتُطعن فيهم. فكيف نفسر هذا النقد المزدوج، الإيجابي طورا والسلبي طورا آخر؟
فهذا الاختلاف أو شبه الاختلاف ناتج لا محالة عن نقاد اعتبروا الجرح أساسا فهمّشوا التعديل وآخرون أخذوا بعين الاعتبار فقط الجرح . ومن هذه الزاوية حاول ياقوت تفسير الجرح عن طريق مسألة الشك في المرويات أو الوهم الذي يفترض أن ذاكرة الثعلبي أُصيبت به. واستنادا إلى لسان العرب، يقول ابن منظور، فيما يتعلق بالوهم : "أوهم الرجل في كتابه وكلامه إذا أسقط". فالوهم يدخل صاحبه في عملية إسقاط الكلام وعدم الرواية الكاملة. و هذا الوهم يضرب الذاكرة الحافظة التي كانت تعتبر في القرون الوسطى من بين الوسائل الهامة لتوصيل وتبليغ المعرفة. ا لشئ الذي يؤكّد قول ياقوت في سياق نقده للثعلبي : "وإذا وهم قالوا شيخ كذّاب".
2-5 شيوخ وكتب وتساؤلات
ذكر ياقوت أسماء بعض شيوخ الثعلبي، ونجد صعوبة كبيرة في الكلام عنهم انطلاقا من المعلومات الناذرة التي أوردها المترجم عن هؤلاء الشيوخ أو تذكرها بعض كتب الطبقات. ولا نملك أجوبة عن الأسئلة التالية: كيف كانت علاقة الثعلبي بهؤلاء العلماء ؟ وهل ذكرهم ياقوت على سبيل المثال أم الحصر؟ فخلال قراءتنا لكتاب عرائس المجالس صادفنا أسماء أخرى سكت عنها ياقوت. والشيوخ الذين ذكرهم ينتمون كلهم إلى مدينة نيسابور أو لهم أصول خراسانية، مما يجعلنا نفكر في مركز ثقافي وديني ازدهر في هذه المنطقة الشرقية ( إيران) حيث تلقى الراوي تعليمه.
لا نجد داخل ترجمة ياقوت معلومات دقيقة ومفصّلة حول كتب الثعلبي، اللهم إلاّ ملاحظات لا تتجاوز بعض السطور حول تفسيره الذي سنتحدث عنه لاحقا. ويؤكد ياقوت أن راوينا كتب كتابا حول قصص الأنبياء يسمى عرائس المجالس وكتابا آخر يدعى ربيع المذكرين. فباستثناء هذه المؤلفات الثلاثة التفسير والعرائس وربيع المُذكرين لا يحدثنا ياقوت عن الكتب الأخرى.
واستنادا إلى نفس نص الترجمة يخبرنا ياقوت بطريقة غير واضحة أن الثعلبي يملك عددا من الكتب "وغير ذلك مما لا يحتاج إلى ذكره لشهرته". فهذه العبارة توهمنا أن الثعلبي كتب كتبا أخرى كانت مشهورة في عصره وفي عصر ياقوت، إذا اعتبرنا هذا التأويل صائبا. ويبقى في نظرنا تفسير الكشف والبيان مع كتاب عرائس المجالس من بين الكتب المعروفة حاليا لأبي إسحاق الثعلبي وإن كان المؤلف الثاني (العرائس) ذو شهرة كبيرة لأسباب سنتحدث عن بعضها في الفصل اللاحق.
2-6 تفسير وقصص
يدعى تفسير الثعلبي " الكشف والبيان عن تفسير القرآن " (الكشف) وهو تفسير تتبّع آيات القرآن حسب ترتيب المصحف بالشرح والتأويل. و يتحدّث ياقوت في نصه عن بعض مظاهره ومواضيعه واصفا هذا التفسير بـ "الحاوي أنواع الفوائد من المعاني والإشارات وكلمات أرباب الحقائق ووجوه الإعراب والقراءات ".
فإذا كانت شهرة هذا التفسير في الماضي مأثورة فقد تقلّصت حاليا حيث إنه مازال مغمورا ولا يعرفه إلا بعض المتخصصين، وغالبا لا يذكر في بطون كتب تاريخ
التفسير. و قد أثار قديما ملاحظات نقدية لاذعة من طرف كلّ من ابن الجوزي (597/1200) وأحمد بن المختار الرازي (631/1233) وابن تيمية. ويرجع هذا النقد إلى ذكر هذا المفسّر لأحاديث ضعيفة ناجمة عن اهتمامه بالأخبار والحكايات الغريبة والعجيبة، و عدم احترامه الدقيق للإسناد ورواياته المتعددة للإسرائيليات.
وتعطينا الصفحات التي خصّصها حسين الذهبي لهذا التفسير فكرة عن المنهج الذي اتبعه الثعلبي في تفسيره. ففيما يتعلق بالأسانيد فقد اكتفى المفسر بذكرها في مقدمة التفسير كما تطرق للمسائل النحوية واللغوية وللأحكام الفقهية والقراءات القرآنية. يقول الثعلبي: "خرّجت فيه (أي التفسير) الكلام على أربعة عشر نحوا : البسائط والمقدمات والعدد والتنزلات، والقصص والنزولات والوجوه والقراءات والعلل والاحتجاجات والعربية واللغات والإعراب والموازنات والتفسير والتأويلات والمعاني والجهات ، والغوامض والمشكلات والأحكام والفقهيات والحكم والإشارات والفضائل والكرامات والأخبار والمتعلقات أدرجتها في أثناء الكتاب بخلاف الأبواب."
و يظهر ولع الثعلبي بالقصص والأخبار العجيبة داخل كتابه العرائس.وهي قصص يرويها، كما يقول السيوطي، ويكثر روايتها عن السدي الصغير وعن الكلبي و أبي صالح و ابن عباس. و يخصّص لذكرها مكانة كبيرة للأحاديث الضعيفة التي يمكن اعتبارها ملجأ المتخيل والعجائبي، مما يعطينا فكرة عن تعامل الراوي مع الحديث النبوي. فهذه الأخبار والحكايات الأسطورية جذبت له النقد اللاذع من طرف ابن تيمية الذي وصفه كالتالي :" والثعلبي هو في نفسه كان فيه خير ودين وكان حاطب ليل، ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع" .
و يشيد المستشرق I.Goldfield، في نشره لمقدمة تفسير الثعلبي، بتعامل هذا الأخير مع مجموعة من التفاسير السابقة التي ترجع إلى كل من مقاتل بن سليمان ووهب بن منبه ومجاهد والكلبي والطبري و آخرون. و تُظِهر لنا هذه الإحالات التفسيرية معرفة الراوي بالأخبار والأساطير السالفة التي تناقلها بعض المفسرين القدامى والتي ترجع بدون شك إلى خزان شفوي و قصصي مشترك.
و الذي يهمنا داخل هذه المنهجية التفسيرية التي توخّاها الثعلبي في تفسيره الكشف هو اهتمامه بالقصص والتوسّع فيها بذكر الإسرائيليات بدون نقدها روائيا. و هذا ما يؤكّد عليه الذهبي بقوله :" وقد قرأت فيه قصصا إسرائيلية نهاية في الغرابة ".
2-7 في انتظار معلومات أخرى
إنّ الشهادات التي تتعلق بالثعلبي يمتزج داخلها المستوى الديني والأدبي والتاريخي،وهي منظّمة داخل منطق كتب الطبقات والتراجم. وهذه الكتابة لم يعرف سياقها البراءة والنزاهة والموضوعية حسب مفاهيمنا النقدية الحديثة. فهي وليدة النزاعات والسجالات المذهبية والفقهية والفرقية التي عرفتها الثقافة العربية الإسلامية في القرون الأولى. فأحيانا تصبح الترجمة المتعلّقة بعالم من العلماء مكانا للتذكير بأمجاده والتنوير بعلمه وإعطائه مكان الصدارة العلمية والدينية وجعله بحرًا في فن من الفنون. وأحيانا نجد نفس الكاتب يتحدث عنه مترجم آخر انطلاقا من معايير أخلاقية أخرى تدفعه إلى استعمال كلمات نقدية لاذعة. فالجانب التاريخي يمتزج أحيانا مع الجانب الأسطوري ممّا يجعل التعريف بكاتب معيّن في القرون الوسطى بشكل موضوعي وتاريخي صعباً جدًا.
و في الصفحات السابقة التي خصصّناها لراوينا تعاملنا مع ترجمة ياقوت طارحين أسئلة عديدة وتاركين دائما الأجوبة معلّقة. فالدراسة المعمّقة لكلّ من كتاب العرائس وتفسير الكشف هي الوحيدة التي يمكنها أن تعطينا فكرة واضحة عن هذا الراوي. و أما الأسطر القليلة التي احتفظ لنا بها ياقوت فهي عبارة عن شهادة من بين شهادات لم تسلم من نقد ينتمي إلى جرح وتعديل الرواة في حين فإن مؤرّخ الأفكار والفكر له مقاييس ومعايير أخرى !
3-1 العرائس والمكتبة الصفراء
منذ كتابته في القرن الخامس الهجري إلى الفترة الحالية مرّ كتاب عرائس المجالس بمجموعة من المراحل الروائية أثّرت لا محالة في متنه و روايته. وهي ظاهرة طبعت مجموعة من الكتب العربية المنتمية إلى الثقافة العربية الإسلامية الوسيطة. و علاوة على هذا فالخطاب القصصي الذي ينتمي إليه كتاب الثعلبي زاد من عمق المشاكل التي ما زال يتخبّط فيها. وهذا ما دفع الباحثين في وضعه في خانة ما يسمى بالأدب الشعبي. و نحن نعلم جيّدا المكانة الهامشية التي توليها الثقافة العربية القديمة لنوع هذا الخطاب، محاولين تقديم بعض الملاحظات حول المكانة التي وضع فيها خطاب قصص الأنبياء، و دور ما يدعى بالمكتبة الصفراء أو كتب مكتبات الرصيف في تعميم وتعميق هذا الهامش؟
يلاحظ المتجوّل في بعض المدن والعواصم العربية أنّ أرصفة المساجد وأماكن عمومية أخرى تحوّلت إلى مكان لبيع الكتب، خصوصا منها تلك التي تعنى بالكتب الصفراء والتي تعرف أحيانًا رواجًا لابأس به. وقد سمّيت بالكتب الصفراء رمزًا للورق المستعمل للطبع. و هذه الكتب التي سنذكر بعضها مررنا بها ونحن صغار في بعض المدن المغربية. كتب يتعلّق بعضها بالقصص والحكايات كحكايات الصالحين والأشعار الصوفية وحكايات ألف ليلة وليلة والإسراء والمعراج، و البعض الآ خر بمواضيع تتّخذ صبغة شبه طبية أو ذات وظيفة طبية مثل كتاب الرحمة في الطب والحكمة المنسوب للسيوطي أو كتب أخرى مثل الروض العاطر في نزهة الخاطر للنفزاوي. فجل هذه الكتابات والسرديات التي تنتمي إلىالمكتبة الشعبية يتقاسمها متخيّل ديني أو جنسي أو روائي. و تتجاور جميع هذه السرديات داخل فضاء هذه المكتبة. و يجد القارئ الذي يبحث عن هذا النوع من العجيب والغريب مبتغاه داخلها.
وإجابة على التساؤل حول المكانة الهامشية التي وضع فيها كتاب العرائس وخطاب قصص الأنبياء بصفة عامة سنطرق إلى بعض العناصر المكوّنة لخطاب الثعلبي أو ما اصطلحنا على تسميته هندسة الخطاب القصصي ، و الحاضرة في البداية فيالعبارة الشيّقة التي اختارها الثعلبي كعنوان لمُؤلّفه.
3-2 جاذبية العنوان
يلاحظ القارئ المنكبّ على كتب الثقافة العربيّة الإسلاميّة الكلاسيكيّة الاهتمام الذي يوليه العلماء والأدباء القدامى لاختيار عناوين كتبهم. فهناك كميّة هائلة من العناوين المسجوعة والمنمّقة والتي استدعت من مؤلفيها جهدا في الاختيار واعين بمكانة العنوان وجاذبيته. و هذا التصنيف للعنوان ظلّ مستعملا قرونا عديدة. وما زال له مدافعون. و تلعب اللغة في هذه الاستعمالات بروافدها من استعارة وتشبيه ومجاز وبديع دورا أساسيا.
ومن الناحية الشكليّة يقوم العنوان بوظيفة إشهارية للمؤلّف. فهو الباب الأول الذي يلج منه القارئ إلى عالم الكتاب. و يتحدّث إلى القارئ ويطبع استطلاعه ويدفعه إلى قراءة الكتاب. و قد اختار الثعلبي لمؤلفه عنوانا أراد أن يجذب به مخيّلة القارئ. و لا نملك تعليلا لاختيار الراوي لهذه العبارة. فأحيانا يُفصح الكتّاب العرب القدامى عن سبب اختيار عناوين كتبهم وأحيانا لا يفصحون.و عنوان الثعلبي مركّب من شقّين، شقّ يُشير إلى الموضوع "قصص الأنبياء"، وشقّ يسمي موضوع السرديات بطريقة استعارية "عرائس المجالس". فهناك جانبان، واحد جمالي والآخر موضوعي. فلنحاول استفساراً مُعجميًا للجانب الجمالي للعنوان وربطه ببنية الكتاب السردية.
3-3 عرائس المجالس
وننطلق من المعجم وبالضبط من جذر "ع-ر- س"، مقتصرين على النبذة التي خصّصها لها ابن منظور. فكلمة "العرس" بالتحريك تعني الدهش. و العبارة "عرّس الرجل عرسا فهو عرس فتعني بطر. وأعرس فلان أي اتّخذ عرسا. والعروس نعت يستوي فيه الرجل والمرأة. والمعرّس الذي يسير نهاره ويعرّس أي ينزل أول الليل.
فهذه جملة بعض المعاني التي يذكرها ابن منظور. و نتساءل بعد قراءتنا لها عن المعنى الذي يرمز إليه الثعلبي باستعماله كلمة "عرائس". فهل هي جمع "عروس"؟ فهناك كما نعلم تعدّد في المعاني حسب السياقات والاستعمالات والتأويلات. وانطلاقاً ممّا سلف هناك فكرتان أو معنيان يمكننا بهما وصف "المجالس" التي تحكي قصص الثعلبي. فمن جهة هناك فكرة الدهش والمحاور المعنوية التي تحفّها، ومن جهة أخرى فكرة الزواج والمتعة والجمالية التي ترمز إليها. فقصص الأنبياء، كما تروى داخل كتاب العرائس لها جمالها ومتعتها السردية. فإذا كان هذا التأويل صائبا يمكن القول إنّ الثعلبي يريد إخراج طريقته في سرد قصص الأنبياء ووضعها، بطريقة استعارية، في الاختلاف بالنسبة للروايات الأخرى لنفس القصص. وهذه العملية استعملها الكتّاب العرب القدامى من أجل إعطاء كتبهم نوعا من الإشهار و التميّز.
فإذا كانت المجالس وصفت بهذه الطريقة، فما هو تنظيمها وماهي برامجها السردية؟ سنجيب لاحقاً على هذا السؤال. ولنتطرق الآن للشق الثاني من العنوان.
3-4 قصص الأنبياء
لقد استعملت هذه العبارة قديما وحديثا كعنوان لمجموعة من الكتب المتعلّقة بقصص الأنبياء. وبذلك أصبحت تدلّ على هذا النوع من المرويات والكتابة فيه. واستُعمِل جدر ق/ص/ص بكثرة في النص القرآني وصفا وتعريفا لهذه القصص الدينية التي تدور حول الأنبياء الغابرين والذين يوضعون زمنيا قبل نبوّة محمد. وتستوقفنا في القرآن عباراتي "القصص الحق" و "أحسن القصص"و التيترمز إلى نوع قصصي متعلّق بعالم الإيمان والمقدّس. فقصص الأنبياء مروية، قرآنيا، داخل خطاب الوحي . وبهذا السياق تقحم في أنطلوجيا الخطاب الديني. فهي ليست قصصا عابرة وإنّما اعتبارية. ولهذا فلا جدوى في مناقشة حقيقتها التي تنتمي لعالم المقدّس الذي يعطيها شرعيتها ومشروعيتها. ومن هذه الزاوية يدعونا الثعلبي للولوج في حقل السرد الديني والاستماع إليه.و عبارة » القصص الحق « هي مقابل « أساطير الأولين « ، عبارة قرآنية أخرى استعملت مرارًا في القرآن على لسان مُكذّبي الوحي والخطاب القصصي القرآني من بين المكيّين المعاصرين لنبيّ الإسلام. و قد سجّل لنا القرآن بعض السجالات التي دارت بين محمد وبعض مُعارضي دعوته، والأوصاف التي وصفوه بها كساحر ومجنون وكاهن. فالمعارضة القريشية استعملت هذه العبارة، حسب القرآن، لوضع القصص الديني وخطاب الوحي في خانة البشر، في حين يُؤكّد القرآن على إلهية هذا الخطاب وأصله غير الإنساني.
وداخل سلسلة الكلمات القرآنية هناك مفردة "نبأ " التي نجد جدرها في كلمة "أنبياء"، و الحاضرة كذلك في العبارة القرآنية " النبأ العظيم". فجدر "ن- ب- ء" مكرّر 51 مرّة في القرآن في حين أنّ كلمة "نبيّ " استعملت 53 مرّة في القرآن.
فبناء على ما سبق يمكن القول إنّ عنوان كتاب العرائس مُكوّن من شقّين. شقّ جمالي ترمز له عبارة" عرائس المجالس" وشقّ موضوعي يستشفّ معناه من كلمات قرآنية لها دلالاتها العميقة و التي تختزلها عبارة " قصص الأنبياء".
4-1 الثعلبي و استقلالية سرد قصص الأنبياء
يستدعي كتاب العرائس مجموعة من الملاحظات والافتراضات المتعلّقة بتاريخ وسياق كتابته. فنحن نجهل زمن كتابته. و لا نجد أيّ تفسير لا في مقدمة الكتاب ولا خارجها. ولهذا فنحن مُلزمين بترك هذا الاتجاه في البحث، ونتساءل هل الثعلبي، إبّان كتابته للعرائس، كان يفكّر في مُؤلّف مستقل ومخصص لقصص الأنبياء مُوجّه للقصاص؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى ماهي المكانة التي يوضع فيها العرائس بالنسبة لتفسير الكشف؟
يعتبر الراوي من بين كبار المفسرين بشهادة ياقوت وآخرين. ومعظم الترجمات المُخصّصة للثعلبي تذكر التفسير أوّلاً وبعده كتاب العرائس. وتدفعنا هذه الملاحظة إلى الا فتراض أنّ الراوي كتب التفسير أولاً وبعد ذلك العرائس. فنفس القصص موجودة في التفسير لكن حسب تنظيم ومقدار يتتبّع النصّ القرآني وعملية التفسير والطريقة الذي تسمح بها. فالمفسّر يتتبّع آيات القرآن حسب ترتيب المصحف. فبعد التفسير المُفرّق خصّص الثعلبي لهذه القصص مُؤلّفا له منهجية وطريقة في السرد تخضع لخانة المجلس وإطارها السردي كما سنتطرق لذلك فيما بعد.
فإذا حاورنا مقدمة العرائس، التي هي عبارة عن خطبة قصيرة تتمحور بصورة عامة حول الحِكم التي تحويها وترمي لها قصص الأنبياء، نقرأ العبارة التالية: " قال الأستاذ أبو إسحاق بن محمد بن إبراهيم الثعلبي رحمه الله تعالى: هذا كتاب يشتمل على قصص الأنبياء المذكورة في القرآن بالشرح والله المستعان وعليه التكلان".
فالجمل السالفة تُؤكد عملية كتابة مؤلّف متعلّق بالقصص الديني المذكورة في القرآن. وتستدعي نظرنا كلمة "شرح" الواردة. فالراوي لم يستعمل كلمة "تفسير" المتعلقة بتفسير القرآن، وإن استعمل في سرده مجموعة كبيرة من السرديات التي تنتمي للتفسير،علاوة على حضور مجموعة من الأسماء التي لعبت دورا هاما في تاريخ التفسير.و لم يذكر الراوي كذلك كلمة "حكاية" أو "رواية". ونستنتج من هذه الملاحظات أن الراوي أدرج مؤلفه داخل خانة و بنية الشرح. فكلّ ما يقوم به في العرائس يعتبره شرحا للقصص المذكورة في القرآن. و يلاحظ القارئ للعرائس أنّ الثعلبي لم يقتصر في سرده على النصّ القرآني وإنّما تجاوزه. فهو يعتبر نفسه شارحا وليس قاصا كما ذكرناه في تعريف سابق. فوراء هذه الاستعمالات والمصطلحات حمولات معرفية هامة سنتطرق لبعض ملامحها في متن هذا البحث.
يمكن اعتبار الثعلبي متتبّعا ومتقصّيا بالمعنى المعجمي والسطحي لفعل" قصّ /يقصّ " للأخبار وباحثا عن الوحدات السردية التي تمكّنه من تقديم حكاية مثيرة وشاملة للرسول أو الشخصية التي توخّى قصّها. وهذا التقصّي قام به داخل كتب التفسير والتاريخ والحكي الديني بصفة عامة، وداخل صٍيغ السرد الأخرى التي مازالت تحت قيد الرواية الشفوية.و هكذا التصق اسم الثعلبي باسم الكسائي ، راوٍ آخر لقصص الأنبياء، الذي أعطى كذلك استقلالية لهذا النوع القصصي من الناحية الكتابية.
وتتحدّث كتب الطبقات والتراجم عن كتب قبل "العرائس" خُصّصت لقصص الأنبياء، ولكن هذه الكتب التي ضاعت أو النزر القليل الذي بقي منها لا تُخوّل لنا الجزم التام بفعاليتها وحضورها مثل الحضور التاريخي الذي تركه كتاب الثعلبي. فمن هذه الزاوية يمكن مقارنة كتاب العرائس بتفسير الطبري. فقد كانت هناك تفاسير قبل الطبري ولكن كتابه في هذا الميدان كان له أثر كبير على الأجيال اللاحقة. فكتاب العرائس حسب منظورنا من أبرز الكتب التي استطاعت جمع وتنسيق وتقصّي قصص الأنبياء وشرحها انطلاقا من زاوية الخبر ووضعها داخل دفتي كتاب مستقلّ. و بذلك تميّز عن جميع الكتب التي وصلتنا في الموضوع. و قد استغل الراوي بدون شك الكتابات والروايات التي تمتّ بالقصص، سواء كانت قابعة في بطون التفاسير وكتب التواريخ والسير والحديث الخ. وهي حصيلة سردية مُوزعّة، كما ذكر، في خطابات عديدة. واهتمام الثعلبي بالتفسير والوعظ سهّلا عليه هذا .الجمع
فمع الثعلبي وقف هذا النوع من السرديات على قدميه وأصبح كتابة قائمة بذاتها لها مؤلّفوها بشكل مُنتظم و إلى عصرنا الحالي، وأضحت تُدعى بـ "قصص الأنبياء". فزمنياً ينتمي كتاب العرائس للقرن الخامس الهجري الذي انتعش فيه التدوين. ويضم مادة سردية منسقة ومنظمة وممنهجة وقائمة على طريقة في التعامل مع القصص وذلك قبل أن تدخل هذه الكتابة القصصية في عملية النقد والجرح مع رواة وعلماء مثل ابن كثير الذي توخّى إقصاء العجيب وكلّ ما يتّصل بـ "الإسرائيليات ".
فمن هذه الزاوية يمكن اعتبار العرائس شهادة على الطريقة التي رُويت بها القصص في فترة معينة من تاريخها وتعامل المسلمين معها ومع خزّان الإسرائيليات الذي ضخّ كتبهم وخطابهم بعناصر دينية لابسة معطف الأسطورة والعجائبية.
يصعب علينا الكلام عن تلقّي كتاب العرائس و عن قرّائه. وذلك لأسباب تاريخية حيث تعوزنا شهادات دقيقة و عميقة. و كلّ ما نملكه هو بعض الشهادات التي يذكرها كُتاب التراجم والطبقات والتي تنوه بالكتاب وشهرته، كشهادة ياقوت السالفة التي تُؤكّد على "تداول الكتاب بين أيدي الناس". فشهرة كتاب الثعلبي ترجع أولا لاهتمامه بمادّة التفسير،وهو علم له مكانة هامة داخل المخيال الديني والعلمي الإسلامي.و ثانيا تحرّي الراوي الشمولية في حكيه و كذلك الجانب الهام من الأخبار العجائبية المكوّنة لقصصه. فإذا كان وهب من المطورّين الشفويين الأوائل لقصص الأنبياء والإسرائيليات فالثعلبي يمكن اعتباره وباستحقاق من مُنظّمي كتابة قصص الأنبياء في مرحلة تدوينية متأخّرة. وبذلك يعتبر العرائس محطّة هامة لكلّ مُهتم بتاريخ تدوين هذا الخطاب السردي في الأدب العربي القديم.
4-2 بنية المجلس ومؤالفة السرد
يُدرج الثعلبي جميع قصصه داخل 32مجلسا. و كلّ مجلس مُخصّص في الغالب لقصّة نبيّ من الأنبياء وأحيانا أكثر. فباستثناء المجالس الثلاثة الأولى التي تروي قصّة خلق الكون فالمجالس 29 الباقية مُتعلّقة كلّها بقصص الأنبياء. و يخضع المجلس لعملية تألفيّة وتصنيفيّة ناتجة عن مفهوم الكتابة لدى العلماء المسلمين القدامى. فهناك جمع وضبط ووضع و وصل بين مجموعة من الوحدات السردية المرويّة عن عديد من الرواة ينظمها الخيط السردي للمجلس.وهذه العناصر المروية تنسجم بواسطة أُلفة سردية أخرجها المؤَلف. ألفة موضوعاتية ونسق مُنظم ومُرتّب يخرجها المؤلف إخراجا جديدا على شكل مونطاج. فالقصة تصبح عبارة عن جمع قصصي مُتعدّد المشارب ولكنه يصبّ في مصبّ واحد وهو إثراء القصة وإغناؤها بأصناف من الأخبار.
لقد اختار الثعلبي كلمة "مجلس" كإطار لذكر القصص التي يحتوي عليها كتابه. ونجد هذه الكلمة في مجموعة من عناوين الكتب العربية القديمة المختلفة الفنون، كمجالس ثعلب اللغوي المشهور مثلا . فكلّ مجلس من مجالس الثعلبي يحمل عنوانا ومجموعة من الأبواب وأحيانا فصولا إضافية.و تخضع المادة المحكية في الغالب إلى مُقرّر سردي ينطلق من البدايات الأولى لكلّ نبي: مولده ونسبه وأوصافه وأحداث حياته فوفاته. و أطول مجلس هو الذي يحكي قصّة موسى ويتكوّن من 26 بابا، في حين يُعتبر مجلس ذي الكفل أصغر مجلس و لا يتجاوز سرده صفحة واحدة.
و هكذا فالمجلس هو عبارة عن مجموعة من الوحدات السردية التي تترجم أحداث نبيّ من الأنبياء بذكر تفاصيل وجزئيات روائية غائبة في النصّ القرآني. ومن هذا المنظور فقصص الأنبياء نُظّمت داخل مجالس على شاكلة حكايات ألف ليلة وليلة مُقسّمة على ليالي وسرديات الهمذاني والحريري في المقامات. فبوضع قصصه في خانة المجلس أعطى الثعلبي بنية تدوينية لوحدات قصصه حيث التصقت هذه الأخيرة بهذه الكلمة واحتوت ماض حكائي ديني بجميع رموزه.
المقرر السردي
لم يعلّل الراوي تقسيمه السردي والتراتبية القصصية التي تبنّاها. فإذا كانت المجالس الثلاثة الأولى تتمحور حول موضوع الخلق فالمجالس الأخرى تبتدئ بآدم وتنتهي بقصة أصحاب الفيل. ولا نجد في العرائس تفسيرا للقائمة الطويلة للشخصيات السردية التي حكاها الثعلبي. وليست جميعها مذكورة في القرآن، كموسى بن ميشا وجرجيس وآخرون. فالبرمجة تخضع إلى حد ما لتتبع قرآني وتوراتي. وأحيانا تتبع سرد القرآن فيما يتعلق بالأنبياء غير المذكورين في التوراة والإنجيل. ويختلف ترتيب قصص الأنبياء عند كلّ من الطبري والكسائي. و يبدو أنّ المكانة التي أعطاها القرآن لهؤلاء الأنبياء هي التي حدّدت، نسبيا، مكانتها ومراتبها. لكنّ هذا لا يمنع استقلالية بعض الرواة، مثل الثعلبي، ببعض القصص كقصة بولوقيا (مجلس 28) المذكورة كذلك في سرديات ألف ليلة وليلة.
4-3 المجلس وتركيبة التناص
يصادف قارئ مجالس الثعلبي عبارات عديدة تُحيل إلى قراءاته المتعددة والمصادر التي زوّدته بالمادة القصصية، مذكورة على الشكل التالي:
- قال أهل التفسير،
-قال أهل التاريخ،
- قال أهل السير،
- قال العلماء بأخبار الأنبياء،
- قال العلماء بقصص الأنبياء و سير الماضين،
- قال أهل الأخبار،
- قال الحكماء،
-قال الرواة أو أكثر الرواة أو عامّة الرواة،
- قال الرواة بألفاظ مُختلفة ومعانٍ متّفقة..الخ
وتربط هذه الجمل المتكرّرة بين الوحدات السردية التي أدرجها الراوي في مجالسه. و هذا يدفعنا إلى التأكيد بأنّ مشروع الثعلبي السردي اعتمد على نصوص كتابية وإن كنّا لا نستبعد حضور شكل شفوي قصصي مازال حيّا في عصره. فالجمل الروائية توحي بشيوع الأخبار المتعلّقة بقصص الأنبياء عن طريق رواة نجهل أحيانا هويّاتهم و يصفهم الراوي بـ " أكثر الرواة" أو "عامة الرواة" أو "أهل الأخبار"، و يصبح السرد هو الأساسي في حين يختفي الرواة تحت أقنعة لا ندري هل تعمّدها الثعلبي أم أنها استعمال متعارف عليه فالعبارات تؤلّف بين المحدث والمؤرخ والمفسر والراوي المجهول والإنجيل والتوراة والقرآن والإخباري و خطاب الحكماء الخ... والرواة وإن اختلفت هويتهم وعباراتهم،كما يؤكّد على ذلك الثعلبي، يتفقون في المرمى والمعنى وخدمة سرد قصص الأنبياء. استقى الراوي مادته القصصية من مصادر شتى متأرجحة بين الثقة والتصديق من جهة و بين الإسفاف وعدم التصديق من جهة ثانية.
وهذه الجمل وأشباهها استعملها الثعلبي بكثرة لربط وحداته السردية وإحالتها إلى معارف بعضها لها مكانة محترمة في المخيال الديني والمعرفي الإسلامي مثل التفسير.، و انتعشت سرديات الراوي بهذه الإحالات التي تحمل في طياتها ذاكرة خطاب قصص الأنبياء وتسرّبه في مجموعة من الخطابات والكتابات الدينية السابقة. فهذا التناص يطعّم محتوى القصة و يعطيها غنى وشرحا هي في حاجة إليه. فداخل عملية"الشرح"، كما ذكرنا، قدّم الثعلبي مشروعه القصصي الذي استفاد من إضافات روائية ناتجة عن المفسر و المؤرّخ و القاص. ففعل "روى" ومشتقاته حاضر بكثافة في بطن السرد. وهو دعوة مفتوحة للمستمع أو القارئ للولوج إلى عالم الحكي الديني.
و تشهد العبارات السالفة على قِدم رواية قصص الأنبياء وشهرتها وتداولها بين
الرواة. فعبارة " يروى في الأخبار المشهورة والمأثورة" ترمز إلى أن الحكايات والقصص ليست صادرة عن مخيّلة الثعلبي بقدر ما هي ناتجة عن خزّان سردي مُشترَك بين الرواة ومشهور سماعا ومأثور كتابة. فقارئ أسطورة خلق الكون الثعلبية، مثلا، يصادف مجموعة من الوحدات السردية مُنظّمَة في تفسير وتاريخ الطبري ونصوص أخرى و مروية من طرف الثعلبي. والطبري حاضر في سرديات الثعلبي كما هو الحال لمفسرين آخرين ومحدثين ومؤرخين سابقين. فتعامل الثعلبي مع مادة القصص الديني هو تعامل راوٍ ينتمي للقرن الخامس الهجري في فضاء جغرافي (نيسابور/خراسان), راوٍ أعاد تنظيم الوحدات السردية الموزعة للقصص الديني داخل ما سمّاه بالمجلس. و يستنتج القارئ بسرعة أن راوي كتاب العرائس له معرفة وإلمام بمجموعة من العلوم الدينية.
4-4 التوراة و قصص الأنبياء
ينتمي راوينا لقرن عرف حضور الفكر التوراتي عن طريق الترجمات و بواسطة انتشار خطاب الإسرائليات و القصص في كتب التفسير والتاريخ. وقد ساهم بعض الرواة، أمثال وهب بن منبه وآخرون كما سنذكره لاحقاً، في نقل هذا الثرات من كتب أهل الكتاب. فالفكر التوراتي المتعلِّق بقصص الأنبياء، في شكل الإسرائيليات، كان حاضرا كتابة ورواية في بطون الكتب المدونة ابتداء من أواخر القرن الثاني الهجري. و هذا الأثر المكتوب اختزل الرواية الشفوية لقصص الأنبياء.
4-5 الآية و الحكاية
كيف تطورت الآية إلى قصة وما هي العناصر التي ساهمت في ذلك؟
تبتدئ غالبية مجالس الثعلبي بآية أو أكثر .وهي إحالات قرآنية تذكر صاحب القصة أو ترمز إليه. وقد استرعت هذه الآيات السردية انتباه مجموعة من المفسرين القدامى حيث أخرجوها من خاصية الوحي ووضعوها في خانة الحكاية الطويلة. وقد طرحت قديما هذه الآيات على المفسرين إشكالية تفسيرها وإعطائها معنى، وتطويرها من نواة سردية بسيطة إلى قصص طويلة مُشوِّقة. وقد ساهم تفسير القرآن المنتمي إلى القرون الأولى ا لهجرية في تطوير ها. فهذا النوع من التفسير السردي نجده حاضرا عند مفسرين كبار أمثال مقاتل بن سليمان والطبري أو الثعلبي، الذين تأثّروا إلى حدّ ما بخطاب القاص .فالمقتطفات التفسيرية التي وصلتنا، وإن خضعت لعملية الكتابة ومنطق التنظيم، عند الطبري مثلا، مازالت تحمل ميزات غنائها الحكائي وذلك من خلال نظام تراكم الأخبار طبقا لصيرورة الزمن والعصور. و هيمقتطفات تشهد عن طابع التنوع والتكرار الناجم عن حقب طويلة من ممارسة الرواية الشفاهية و تعدّد الرواة.
و يفرّق العلماء المسلمون وبعض مؤرخي التفسير المعاصرين تفرقة حاسمة بين ما يدعى بالتفسير بالمأثور وما أطلق عليه بالتفسير بالرأي أو التأويل. و هذا تمايز لم يكن في الواقع حاسما بمثل هذا الوضوح خصوصا في مرحلة البدايات. وقد سبق و أشرنا إلى الاهتمام الكبير الذي أولاه الراوي لمادة التفسير. فهو يعتبر من كبار المفسرين في القرون الوسطى، وغالبا ما يُصنّف تفسيره في الخانة الأولى أي خانة التفسير بالمأثور لعنايته الشاملة والبالغة بالمأثور والجانب القصصي فيه.
تحدّثنا سابقا عن طريقة القرآن في سرده وتعامله مع قصص الأنبياء. وركزنا حينها على كون هذه الطريقة تندرج في عالم الوحي والذكر وليس في عالم القصة والحكاية. فباستثناء بعض القصص (يوسف وموسى) فجل القصص مروي بمنهجية قرآنية لا تعطي مكانة للجزئيات السردية. والمقتطفات والجزئيات مندمجة ومنظمة وموزعة في بنية السور القرآنية. والأخبار والأوصاف ترتكز بطريقة جذّابة ومثيرة على العنصر المهم في القصة مما ينجم عنها وضوحا في الموضوع وفقرا في الحكي. في حين أن العناصر المروية مربوطة بسياق الحدث النبوي المحمدي وفي خدمة الدعوة الإسلامية. فداخل هذا المشروع يمكن فهم القصص القرآني واختزالاته. وإنشائيته تقتصر على بعض المراحل من القصة ونمط من أنماطها.
و يمكن الجزم بأنّ الآية القرآنية هي النواة والبنية الأساسية التي ينطلق منها ويتمحور حولها الحكي، فهي تمهّد للتفسير و تستدعي الشرح. وإليها يرجع الثعلبي قصصه وداخلها يضع مشروعه السردي. فحول القرآن لا التوراة تتمحور القصة الثعلبية. فالآية إما فاتحة للقصة و إما مدعمة أو مطعمة أو معطية الشرعية لفصل أو وحدة سردية.
ويستشهد الثعلبي بالآيات القرآنية وذلك لإثبات قصصه محاولا إضفاء الصفة الشرعية عليها، آيات حول خلق الكون وآدم وحواء وإدريس ونوح وإبراهيم وموسى الخ..
و يُصادف القارئ كمية كبيرة من التفسير القديم متواجدة في مجالس الثعلبي. عدد من الوحدات التفسيرية منسوبة لكل من ابن عباس ووهب وكعب ومقاتل والضحاك والسدّي ومجاهد والطبري الخ… فالعرائس تحتوي النص القرآني أو البنية القصصية القرآنية و تحفّها وتتبعها تفسيرا وتأويلا. وبهذا فهي تلازم السرد القرآني وتعيد كتابته وروايته بطريقة أخرى لعبت الإسرائيليات دورا هاما في تطويرها.
وقد تسرّبت الإسرائليات في الحديث الذي يمثل جزءا مهما داخل عملية تأويل الآية القرآنية. فعن طريقه تسرّبت الأسطورة وانتعشت، وما يسمى بالأحاديث الضعيفة أو الموضوعة ليس في الغالب سوى نوعا من الخطاب الأسطوري المرفوض. فهناك ، من الناحية الشكلية،أصوات عديدة تخترق سرد الثعلبي وتثبت حضورها بين مروياته ومحكياته. فنحن إزاء تبعية وتناص وكلاهما لا يعني فقدان الابتكار مادام الراوي يستعين بالسند المباشر أو غير المباشر لتثبيت الخبر مُلفّقا كان أو منقولاً.
فما يهمنا داخل تراكمات التفسير القديم للقرآن والتي وصلتنا ابتداء من القرون الأولى هو أنها تأثرت إلى حدّ ما بخطاب القاص والمُذكّر. وهي مرويات خضعت فيما بعد لعملية الكتابة والتنسيق والتنظيم في بطون التفاسير الكبرى مروية على شاكلة تفسير مقاتل بن سليمان أو تفسير الطبري وغيرهما.
ونستننج مما سلف بأنّ أسطرة قصص الأنبياء ارتوت كثيرا من منهل وخزّان الإسرائيليات المتراكمة في التفاسير وكتب الحديث والتاريخ و التي عرفت سابقا رواية شفوية. فلا غرابة أن يثير مصطلح الإسرائيليات كتابات عديدة وجدالا قديما وحديثا.فهذه الكمية الكثيرة والمتعدّدة من الأخبار روى بعضها الثعلبي على لسان صحابة ومفسرين كبار ورواة متخصصين في هذا النوع من الأخبار كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار وهب بن منبه، علاوة على رواة ينتمون للمنظومة الدينية الإسلامية كعبد الله بن عباس وأبي هريرة وعلي وعمر. فهذه العملية غير خارجة عن نتاج الفكر الديني الإسلامي وحدود الثقافة الإسلامية.و من تمّ فالسرديات التي تدعى إسرائيليات ليست إبداعا خارجا عن المنظومة الثقافية والدينية الإسلامية بقدر ما ساهمت فيها عناصر من الداخل وطوّرت بنيتها، إما يهوداً أسلموا و إما قصاصاً، كما تخبرنا كتب التاريخ الإسلامي.
عبد الباسط مرداس
باحث وجامعي مقيم بفرنسا
وقد اخترنا هذا المؤلف للتساؤل حول مستويات مُوجِّهة لبحثنا في عالم القصص الديني في القرون الوسطى والتي تمثّل العمود الفقري لدراستنا، وهي: أولا،الاهتمام بالكتابة في موضوع قصص الأنبياء و التطرّق لبعض متاهات وأسفار كتاب العرائس. ثانيا، مكانة ودور الثعلبي في تصنيف وتنظيم سرديات هذا الجنس الأدبي. ثالثا العناية بهندسة هذا الخطاب وكيفية تأسيسه للقصة الدينية. وأخيرا في مقال لاحق ، نتساؤل حول المكانة المُخصّصة للمتخيل والعجيب والغريب في تكوين القصة.
2البيوغرافيا المستحيلة
تنتمي العناصر البيوغرافية التي تركها لنا كتّاب التراجم بخصوص أبي إسحاق الثعلبي إلى النوع الأدبي المعروف بــ" كتب الطبقات ". وهي معلومات ضئيلة وفقيرة للغاية يمكن وصفها إجمالا بأنها تتطرّق عموما لبعض المناحي المعرفية والدينية لشخصيته.و ذلك بذكر عبارات و ملاحظات تتضارب فيها الآراء وتختلف فيها أقوال الرواة، ممّا يصعب على القارئ المعاصر الخروج برؤية واضحة.
فجلّ الأخبار يطبعها عامل التكرار والاختلاف. ويتساءل الباحث أحيانا : هل يمكننا أن نوافق تقي الدين بن تيمية (728هـ/ 1328م) الذي ينتقد بجرأة الثعلبي واصفًا إيّاه بـ"حاطب ليل"، ناقدا بذلك تفسيره المسمّى الكشف والبيان عن تفسير القرآن - الذي سنتطرّق له فيما بعد- والذي خلط فيه بين مادة تفسيرية لغوية ومجموعة من الأخبار والحكايات الأسطورية المستمدّة ممّا سمّيناه خزّان الإسرائيليات ؟ أو يمكن أن نقابل هذا النقد الجرّيئ بأقوال آخرين أمثال عبد الغافر الفارسي (529هـ/1134م)، في كتابه السياق، الذي يصف الثعلبي بالثقة، قاصداً أنّ روايته مُتأصّلة لا طعن فيها حسب معايير منهج نقد الحديث النبوي. أقوال متضاربة سنتطرّق لها في ما بعد. فالمهمّ أنّ كلّ ما يبقى للباحث هو محاولة التعامل واستفهام النزر القليل من المعلومات الإخبارية التي وصلتنا، واستنطاقها من أجل إعطاء القارئ فكرة عن هذا الراوي المغمور الذي ترك لنا كتابا حول قصص الأنبياء استطاع أن يخترق مجموعة من القرون للوصول إلينا حاملا مجموعة من الأخبار والحكايات و واضعا في نفس الوقت أسئلة كثيرة ومُحيّرة.
و يمكن أن نقول إنّ غالبية الوحدات والمقتطفات البيوغرافية التي وصلتنا حول أبي إسحاق الثعلبي ترجع إلى ياقوت باستثناء بعض العناصر القليلة المذكورة عند عبد الغافر الفارسي و آخر يدعى ابن ماكولا. فأقدم شهادة تتحدث عن الثعلبي حسب علمنا نجدها عند عبد الغافر الفارسي، كما سبق أن ذكرناه في كتابه المخصص لمدينة نيسابور ولمشاهير علمائها. ويجب كذلك الاهتمام بما أورده السبكي الذي يصنّف الثعلبي ضمن الشافعية، وإن كانت طبيعة هذا التصنيف الفقهي تستدعي نوعامن التحفّظ.
فأمام هذه الأخبار المتكرّرة اخترنا نبذة ياقوت المُتضمّنة لمعلومات قيّمة تاركين له المجال ليقدم لنا الثعلبي و قائمين في نفس الوقت ببعض الملاحظات المركّزة على بعض العناصر والأفكار.
2-1 الراوي هو
" أحمد بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق الثعلبي : المفسر، صاحب الكتاب المشهور بأيدي الناس المعروف بتفسير الثعلبي. مات فيما ذكره عبد الغني بن سعيد الحافظ المصري, ونقلته من حاشية "كتاب الإكمال" لابن ماكولا، في محرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة. وقال : أبو إسحاق الثعلبي المفسر الجليل خراساني, وذكر وفاته.
وذكره عبد الغافر في " السياق " فقال: أحمد بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق الثعلبي المقرئ المفسر الواعظ الأديب الثقة الحافظ صاحب التصانيف الجليلة, من التفسير الحاوي لأنواع الفرائد من المعاني والإشارات وكلمات أرباب الحقائق, ووجوه الإعراب والقراءات. ثم كتاب العرائس والقصص وغير ذلك مما لا يحتاج إلى ذكره لشهرته. وهو صحيح النقل موثوق به. حدّث عن أبي طاهر ابن خزيمة وأبي بكر ابن مهران المقرئ وأبي بكر ابن هانئ وأبي بكر ابن الطرازي والمخلدي والخفاف وأبي محمد بن الرومي وطبقتهم، وهو كثير الحديث والشيوخ وذكر وفاته كما تقدم. قال : وسمع منه الواحدي التفسير وأخذه عنه وأثنى عليه, وحدث عنه بإسناد رفعه إلى عاصم قال : الرئاسة بالحديث رئاسة نذلة إن صحّ الشيخ حفظ وصدق فأصمى يقال : هذا شيخ كيس وإذا وهم قالوا شيخ كذّاب. وله كتاب ربيع المذكّرين ".
2-2 ملاحظات حول الوثيقة
تتمحور الملاحظة الأولى حول بنية نصّ ياقوت التي تحيل إلى نصوص أخرى مع ذكر أصحابها. فياقوت يذكر مجموعة من الشهادات والعبارات النقدية مع إحالتها أيضًا إلى رواتها، مروية حسب الكتابة الأدبية العربية الإسلامية القديمة التي يغلب عليها طابع الإسناد. فكل خبر منسوب لراوٍ معين، وكلّ قول مضاف لقائله ممّا يعطينا فكرة عن منهج ياقوت. فهذا الأخير صنّف وألّف، حسب منطوق هاتين الكلمتين، الشهادات التي قرأها في الكتب والأخبار التي سمعها مباشرة من الرواة.
و تعنى الملاحظة الثانية بطبيعة الشهادات وقيمتها. فيصعب من ناحية تحقيقها وتدقيقها، ومن ناحية أخرى لا نستطيع نفيها أو تهميشها. فياقوت، عكس بعض المترجمين الآخرين، لا يخفي الرواة بل بالعكس من ذلك فهو يظهرهم ويكشف القناع عنهم محمّلا إيّاهم أقوالهم ورواياتهم ومُضيفا إليها أخبارا أخرى أحيانا مُغايرة ومُتضاربة، داعيا القارئ المتدبّر إلى الفحص والتمحيص والمقارنة .
يتحدث نص ياقوت بصفة عامة على عناصر بيوغرافية تتعلّق بالمواضيع التالية:
الاسم واللقب وسنة الوفاة وبعض الوظائف العلمية والدينية التي مارسها الثعلبي و الأوصاف التي وصف بها وعناوين بعض كتبه ومؤلفاته، إضافة إلى أسماء بعض شيوخه ونقده ببعض المصطلحات النقدية الهامّة.
2-3 اللقب والسنة والوفاة
أحمد بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق الثعلبي، هذا هو الاسم الكامل والحامل، بطبيعة الحال، اسم الأب والجد وجد الجد.أما فيما يتعلق باللقب " الثعلبي " فيتحدث ياقوت فقط عنها تحت صيغة" الثعلبي"، في حين يضيف ابن الأثير داخل ترجمته شكلا آخر لهذا اللقب تحت صيغة "الثعالبي"،و تبقىهذه الصيغة نادرة ويطلقها المترجمون عادة على أبي منصور الثعالبي (429/1037) عالم وأديب من علماء نيسابور عاصر كاتبنا و ولد كذلك في مدينة نيسابور .
و يرجع ابن الأثير لقب الثعالبي إلى قبيلة عربية تدعى ثعلبة. لكن التفسيرات والتعليلات التي أعطاها هذا المترجم لا نجد لها ذكرا لا عند ابن ماكولا ولا عند الفارسي ولم يُعرها ياقوت أيّ اهتمام. فنحن نعرف أن مسألة الكتابة النَسبية قد عرفت نوعا من المزايدة ويصعب التمحيص والفحص فيها، و لكن لا نجد مع ذلك جوابا للدافع الذي دفع ابن الأثير إلى إعطاء الراوي الثعلبي أصلا عربيا ؟
ونقول اتباعا لياقوت أن راوينا ولد في نيسابور التي تعتبر من بين أكبر وأهمّ مدن خراسان على غرار مدن إيرانية أخرى قديمة كبلخ والحيرة ومرو . وإذا أخذنا بعين الاعتبار سنة 427/1035 فيكون الثعلبي قد أمضى مدّة طويلة تحت حكم دولة الغزنويين. هذه الدولة التي يمكن اعتبارها في الواقع أول انتصار للعنصر التركي في صراعه مع العنصر الإيراني تنسب إلى سبكتين أحد مماليك القائد التركي البنكين. وخلف سبكتين في حكم الإمارة الغزنوية ولده محمود 387/421 الذي امتاز عهده بنشاط حركة الجهاد في الهند. فلا يمكّننا هذا السياق التاريخي من جميع الأحداث والعناصر المرتبطة براوينا. فهناك أسئلة عديدة لا نملك الإجابة عليها. فكيف كانت علاقة كاتبنا بالسلطة الغزنوية ؟ وكيف عاش الأحداث التاريخية الهامة التي ذكرناها بعجالة ؟ هل كان فعلا داخل الفضاء السياسي الغزنوي أم خارجه ؟ أسئلة كثيرة تراود فكرنا ولا نجد لها جوابا أو معطيات لترجيحها. وكلّ ما يمكننا قوله هو إن عصر الثعلبي يصادف عهد هذه الدولة وحكمها وتقلّباتها السياسية .
2-4 راِوٍ يتأرجح بين الجرح والتعديل
استعمل ياقوت في تعريفه للثعلبي مجموعة من العبارات الوصفية والمصطلحات النقدية التي ترمز إلى المرتبة العلمية والدينية و الوظائف الثقافية التي شغلها راوينا . و هي كلمات هامّة للغاية سنتطرّق لها في هذا المبحث.
يقدّم ياقوت الثعلبي كمثال للعالم العربي الإسلامي الوسيط: له معرفة جيدة باللغة العربية وبالعلوم الدينية كالقراءات القرآنية والتفسير والوعظ والأدب. ومعروف كـ " مفسّر وصاحب الكتاب المشهور بأيدي الناس المعروف بتفسير الثعلبي ". ولقد غطى بالتفسير راوينا اهتمام الوظائف والاهتمامات المعرفية الأخرى التي مارسها.
و لهذا يصف ياقوت الثعلبي " بالأديب " رامزا بذلك إلى معرفته العامة التي تأخذ من كلّ شيء بطرف على غرار التكوين الثقافي للعلماء المسلمين القدامى في العصر الوسيط. و لكن هذا لا يجعل كاتبنا يرقى إلى مكانة ومنزلة بعض الأدباء القدامى الذائعي الصيت كالجاحظ وابن قتيبة وغيرهما. وُصف الثعلبي كذلك بالواعظ. وهنا يمكننا التساؤل هل هي وظيفة قام بها داخل إطار معين، كالمسجد مثلاً؟ وما هي الدلالات التي كان يحملها فعل الوعظ في هذه الفترة الزمنية ( القرن الخامس الهجري)و في هذا الفضاء الجغرافي بالذات (إيران/خراسان) ؟ ثم ما هي العلاقة بين الوعظ والقصص ؟ وهل يمكن اعتبار راوينا قاصا من بين قصاص نيسابور، أم لا ؟
علاوة على الملاحظات و الأسئلة السالفة والتي يصعب الإجابة عنها، استعمل ياقوت بعض المصطلحات التي خصّ بها الثعلبي والتي تندرج في سياق علم الحديث، خصوصا باب " الجرح والتعديل " ( نقد الرواة). و نستخرج من تعبير ياقوت أن الثعلبي راوٍ لا إجماع على صرف روايته،و لكن في نفس الوقت نجده يستعمل حياله كلمتي "حافظ وثقة". وهما مصطلحان هامّان يعطيانه مكانة مرموقة في سلّم النقد الحديثي. وانطلاقا من هذا النقد يظهر الثعلبي في البداية كراو محترم، و لكن كلما تقدّمنا في قراءة ترجمة ياقوت يظهر في صفة سلبية، خصوصا حين يوصف من طرف بعض النقاد "بالكذاب". وهي صفة خطيرة تخرج صاحبها من دائرة الرواة الثقاة المحترمين وتُطعن فيهم. فكيف نفسر هذا النقد المزدوج، الإيجابي طورا والسلبي طورا آخر؟
فهذا الاختلاف أو شبه الاختلاف ناتج لا محالة عن نقاد اعتبروا الجرح أساسا فهمّشوا التعديل وآخرون أخذوا بعين الاعتبار فقط الجرح . ومن هذه الزاوية حاول ياقوت تفسير الجرح عن طريق مسألة الشك في المرويات أو الوهم الذي يفترض أن ذاكرة الثعلبي أُصيبت به. واستنادا إلى لسان العرب، يقول ابن منظور، فيما يتعلق بالوهم : "أوهم الرجل في كتابه وكلامه إذا أسقط". فالوهم يدخل صاحبه في عملية إسقاط الكلام وعدم الرواية الكاملة. و هذا الوهم يضرب الذاكرة الحافظة التي كانت تعتبر في القرون الوسطى من بين الوسائل الهامة لتوصيل وتبليغ المعرفة. ا لشئ الذي يؤكّد قول ياقوت في سياق نقده للثعلبي : "وإذا وهم قالوا شيخ كذّاب".
2-5 شيوخ وكتب وتساؤلات
ذكر ياقوت أسماء بعض شيوخ الثعلبي، ونجد صعوبة كبيرة في الكلام عنهم انطلاقا من المعلومات الناذرة التي أوردها المترجم عن هؤلاء الشيوخ أو تذكرها بعض كتب الطبقات. ولا نملك أجوبة عن الأسئلة التالية: كيف كانت علاقة الثعلبي بهؤلاء العلماء ؟ وهل ذكرهم ياقوت على سبيل المثال أم الحصر؟ فخلال قراءتنا لكتاب عرائس المجالس صادفنا أسماء أخرى سكت عنها ياقوت. والشيوخ الذين ذكرهم ينتمون كلهم إلى مدينة نيسابور أو لهم أصول خراسانية، مما يجعلنا نفكر في مركز ثقافي وديني ازدهر في هذه المنطقة الشرقية ( إيران) حيث تلقى الراوي تعليمه.
لا نجد داخل ترجمة ياقوت معلومات دقيقة ومفصّلة حول كتب الثعلبي، اللهم إلاّ ملاحظات لا تتجاوز بعض السطور حول تفسيره الذي سنتحدث عنه لاحقا. ويؤكد ياقوت أن راوينا كتب كتابا حول قصص الأنبياء يسمى عرائس المجالس وكتابا آخر يدعى ربيع المذكرين. فباستثناء هذه المؤلفات الثلاثة التفسير والعرائس وربيع المُذكرين لا يحدثنا ياقوت عن الكتب الأخرى.
واستنادا إلى نفس نص الترجمة يخبرنا ياقوت بطريقة غير واضحة أن الثعلبي يملك عددا من الكتب "وغير ذلك مما لا يحتاج إلى ذكره لشهرته". فهذه العبارة توهمنا أن الثعلبي كتب كتبا أخرى كانت مشهورة في عصره وفي عصر ياقوت، إذا اعتبرنا هذا التأويل صائبا. ويبقى في نظرنا تفسير الكشف والبيان مع كتاب عرائس المجالس من بين الكتب المعروفة حاليا لأبي إسحاق الثعلبي وإن كان المؤلف الثاني (العرائس) ذو شهرة كبيرة لأسباب سنتحدث عن بعضها في الفصل اللاحق.
2-6 تفسير وقصص
يدعى تفسير الثعلبي " الكشف والبيان عن تفسير القرآن " (الكشف) وهو تفسير تتبّع آيات القرآن حسب ترتيب المصحف بالشرح والتأويل. و يتحدّث ياقوت في نصه عن بعض مظاهره ومواضيعه واصفا هذا التفسير بـ "الحاوي أنواع الفوائد من المعاني والإشارات وكلمات أرباب الحقائق ووجوه الإعراب والقراءات ".
فإذا كانت شهرة هذا التفسير في الماضي مأثورة فقد تقلّصت حاليا حيث إنه مازال مغمورا ولا يعرفه إلا بعض المتخصصين، وغالبا لا يذكر في بطون كتب تاريخ
التفسير. و قد أثار قديما ملاحظات نقدية لاذعة من طرف كلّ من ابن الجوزي (597/1200) وأحمد بن المختار الرازي (631/1233) وابن تيمية. ويرجع هذا النقد إلى ذكر هذا المفسّر لأحاديث ضعيفة ناجمة عن اهتمامه بالأخبار والحكايات الغريبة والعجيبة، و عدم احترامه الدقيق للإسناد ورواياته المتعددة للإسرائيليات.
وتعطينا الصفحات التي خصّصها حسين الذهبي لهذا التفسير فكرة عن المنهج الذي اتبعه الثعلبي في تفسيره. ففيما يتعلق بالأسانيد فقد اكتفى المفسر بذكرها في مقدمة التفسير كما تطرق للمسائل النحوية واللغوية وللأحكام الفقهية والقراءات القرآنية. يقول الثعلبي: "خرّجت فيه (أي التفسير) الكلام على أربعة عشر نحوا : البسائط والمقدمات والعدد والتنزلات، والقصص والنزولات والوجوه والقراءات والعلل والاحتجاجات والعربية واللغات والإعراب والموازنات والتفسير والتأويلات والمعاني والجهات ، والغوامض والمشكلات والأحكام والفقهيات والحكم والإشارات والفضائل والكرامات والأخبار والمتعلقات أدرجتها في أثناء الكتاب بخلاف الأبواب."
و يظهر ولع الثعلبي بالقصص والأخبار العجيبة داخل كتابه العرائس.وهي قصص يرويها، كما يقول السيوطي، ويكثر روايتها عن السدي الصغير وعن الكلبي و أبي صالح و ابن عباس. و يخصّص لذكرها مكانة كبيرة للأحاديث الضعيفة التي يمكن اعتبارها ملجأ المتخيل والعجائبي، مما يعطينا فكرة عن تعامل الراوي مع الحديث النبوي. فهذه الأخبار والحكايات الأسطورية جذبت له النقد اللاذع من طرف ابن تيمية الذي وصفه كالتالي :" والثعلبي هو في نفسه كان فيه خير ودين وكان حاطب ليل، ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع" .
و يشيد المستشرق I.Goldfield، في نشره لمقدمة تفسير الثعلبي، بتعامل هذا الأخير مع مجموعة من التفاسير السابقة التي ترجع إلى كل من مقاتل بن سليمان ووهب بن منبه ومجاهد والكلبي والطبري و آخرون. و تُظِهر لنا هذه الإحالات التفسيرية معرفة الراوي بالأخبار والأساطير السالفة التي تناقلها بعض المفسرين القدامى والتي ترجع بدون شك إلى خزان شفوي و قصصي مشترك.
و الذي يهمنا داخل هذه المنهجية التفسيرية التي توخّاها الثعلبي في تفسيره الكشف هو اهتمامه بالقصص والتوسّع فيها بذكر الإسرائيليات بدون نقدها روائيا. و هذا ما يؤكّد عليه الذهبي بقوله :" وقد قرأت فيه قصصا إسرائيلية نهاية في الغرابة ".
2-7 في انتظار معلومات أخرى
إنّ الشهادات التي تتعلق بالثعلبي يمتزج داخلها المستوى الديني والأدبي والتاريخي،وهي منظّمة داخل منطق كتب الطبقات والتراجم. وهذه الكتابة لم يعرف سياقها البراءة والنزاهة والموضوعية حسب مفاهيمنا النقدية الحديثة. فهي وليدة النزاعات والسجالات المذهبية والفقهية والفرقية التي عرفتها الثقافة العربية الإسلامية في القرون الأولى. فأحيانا تصبح الترجمة المتعلّقة بعالم من العلماء مكانا للتذكير بأمجاده والتنوير بعلمه وإعطائه مكان الصدارة العلمية والدينية وجعله بحرًا في فن من الفنون. وأحيانا نجد نفس الكاتب يتحدث عنه مترجم آخر انطلاقا من معايير أخلاقية أخرى تدفعه إلى استعمال كلمات نقدية لاذعة. فالجانب التاريخي يمتزج أحيانا مع الجانب الأسطوري ممّا يجعل التعريف بكاتب معيّن في القرون الوسطى بشكل موضوعي وتاريخي صعباً جدًا.
و في الصفحات السابقة التي خصصّناها لراوينا تعاملنا مع ترجمة ياقوت طارحين أسئلة عديدة وتاركين دائما الأجوبة معلّقة. فالدراسة المعمّقة لكلّ من كتاب العرائس وتفسير الكشف هي الوحيدة التي يمكنها أن تعطينا فكرة واضحة عن هذا الراوي. و أما الأسطر القليلة التي احتفظ لنا بها ياقوت فهي عبارة عن شهادة من بين شهادات لم تسلم من نقد ينتمي إلى جرح وتعديل الرواة في حين فإن مؤرّخ الأفكار والفكر له مقاييس ومعايير أخرى !
3-1 العرائس والمكتبة الصفراء
منذ كتابته في القرن الخامس الهجري إلى الفترة الحالية مرّ كتاب عرائس المجالس بمجموعة من المراحل الروائية أثّرت لا محالة في متنه و روايته. وهي ظاهرة طبعت مجموعة من الكتب العربية المنتمية إلى الثقافة العربية الإسلامية الوسيطة. و علاوة على هذا فالخطاب القصصي الذي ينتمي إليه كتاب الثعلبي زاد من عمق المشاكل التي ما زال يتخبّط فيها. وهذا ما دفع الباحثين في وضعه في خانة ما يسمى بالأدب الشعبي. و نحن نعلم جيّدا المكانة الهامشية التي توليها الثقافة العربية القديمة لنوع هذا الخطاب، محاولين تقديم بعض الملاحظات حول المكانة التي وضع فيها خطاب قصص الأنبياء، و دور ما يدعى بالمكتبة الصفراء أو كتب مكتبات الرصيف في تعميم وتعميق هذا الهامش؟
يلاحظ المتجوّل في بعض المدن والعواصم العربية أنّ أرصفة المساجد وأماكن عمومية أخرى تحوّلت إلى مكان لبيع الكتب، خصوصا منها تلك التي تعنى بالكتب الصفراء والتي تعرف أحيانًا رواجًا لابأس به. وقد سمّيت بالكتب الصفراء رمزًا للورق المستعمل للطبع. و هذه الكتب التي سنذكر بعضها مررنا بها ونحن صغار في بعض المدن المغربية. كتب يتعلّق بعضها بالقصص والحكايات كحكايات الصالحين والأشعار الصوفية وحكايات ألف ليلة وليلة والإسراء والمعراج، و البعض الآ خر بمواضيع تتّخذ صبغة شبه طبية أو ذات وظيفة طبية مثل كتاب الرحمة في الطب والحكمة المنسوب للسيوطي أو كتب أخرى مثل الروض العاطر في نزهة الخاطر للنفزاوي. فجل هذه الكتابات والسرديات التي تنتمي إلىالمكتبة الشعبية يتقاسمها متخيّل ديني أو جنسي أو روائي. و تتجاور جميع هذه السرديات داخل فضاء هذه المكتبة. و يجد القارئ الذي يبحث عن هذا النوع من العجيب والغريب مبتغاه داخلها.
وإجابة على التساؤل حول المكانة الهامشية التي وضع فيها كتاب العرائس وخطاب قصص الأنبياء بصفة عامة سنطرق إلى بعض العناصر المكوّنة لخطاب الثعلبي أو ما اصطلحنا على تسميته هندسة الخطاب القصصي ، و الحاضرة في البداية فيالعبارة الشيّقة التي اختارها الثعلبي كعنوان لمُؤلّفه.
3-2 جاذبية العنوان
يلاحظ القارئ المنكبّ على كتب الثقافة العربيّة الإسلاميّة الكلاسيكيّة الاهتمام الذي يوليه العلماء والأدباء القدامى لاختيار عناوين كتبهم. فهناك كميّة هائلة من العناوين المسجوعة والمنمّقة والتي استدعت من مؤلفيها جهدا في الاختيار واعين بمكانة العنوان وجاذبيته. و هذا التصنيف للعنوان ظلّ مستعملا قرونا عديدة. وما زال له مدافعون. و تلعب اللغة في هذه الاستعمالات بروافدها من استعارة وتشبيه ومجاز وبديع دورا أساسيا.
ومن الناحية الشكليّة يقوم العنوان بوظيفة إشهارية للمؤلّف. فهو الباب الأول الذي يلج منه القارئ إلى عالم الكتاب. و يتحدّث إلى القارئ ويطبع استطلاعه ويدفعه إلى قراءة الكتاب. و قد اختار الثعلبي لمؤلفه عنوانا أراد أن يجذب به مخيّلة القارئ. و لا نملك تعليلا لاختيار الراوي لهذه العبارة. فأحيانا يُفصح الكتّاب العرب القدامى عن سبب اختيار عناوين كتبهم وأحيانا لا يفصحون.و عنوان الثعلبي مركّب من شقّين، شقّ يُشير إلى الموضوع "قصص الأنبياء"، وشقّ يسمي موضوع السرديات بطريقة استعارية "عرائس المجالس". فهناك جانبان، واحد جمالي والآخر موضوعي. فلنحاول استفساراً مُعجميًا للجانب الجمالي للعنوان وربطه ببنية الكتاب السردية.
3-3 عرائس المجالس
وننطلق من المعجم وبالضبط من جذر "ع-ر- س"، مقتصرين على النبذة التي خصّصها لها ابن منظور. فكلمة "العرس" بالتحريك تعني الدهش. و العبارة "عرّس الرجل عرسا فهو عرس فتعني بطر. وأعرس فلان أي اتّخذ عرسا. والعروس نعت يستوي فيه الرجل والمرأة. والمعرّس الذي يسير نهاره ويعرّس أي ينزل أول الليل.
فهذه جملة بعض المعاني التي يذكرها ابن منظور. و نتساءل بعد قراءتنا لها عن المعنى الذي يرمز إليه الثعلبي باستعماله كلمة "عرائس". فهل هي جمع "عروس"؟ فهناك كما نعلم تعدّد في المعاني حسب السياقات والاستعمالات والتأويلات. وانطلاقاً ممّا سلف هناك فكرتان أو معنيان يمكننا بهما وصف "المجالس" التي تحكي قصص الثعلبي. فمن جهة هناك فكرة الدهش والمحاور المعنوية التي تحفّها، ومن جهة أخرى فكرة الزواج والمتعة والجمالية التي ترمز إليها. فقصص الأنبياء، كما تروى داخل كتاب العرائس لها جمالها ومتعتها السردية. فإذا كان هذا التأويل صائبا يمكن القول إنّ الثعلبي يريد إخراج طريقته في سرد قصص الأنبياء ووضعها، بطريقة استعارية، في الاختلاف بالنسبة للروايات الأخرى لنفس القصص. وهذه العملية استعملها الكتّاب العرب القدامى من أجل إعطاء كتبهم نوعا من الإشهار و التميّز.
فإذا كانت المجالس وصفت بهذه الطريقة، فما هو تنظيمها وماهي برامجها السردية؟ سنجيب لاحقاً على هذا السؤال. ولنتطرق الآن للشق الثاني من العنوان.
3-4 قصص الأنبياء
لقد استعملت هذه العبارة قديما وحديثا كعنوان لمجموعة من الكتب المتعلّقة بقصص الأنبياء. وبذلك أصبحت تدلّ على هذا النوع من المرويات والكتابة فيه. واستُعمِل جدر ق/ص/ص بكثرة في النص القرآني وصفا وتعريفا لهذه القصص الدينية التي تدور حول الأنبياء الغابرين والذين يوضعون زمنيا قبل نبوّة محمد. وتستوقفنا في القرآن عباراتي "القصص الحق" و "أحسن القصص"و التيترمز إلى نوع قصصي متعلّق بعالم الإيمان والمقدّس. فقصص الأنبياء مروية، قرآنيا، داخل خطاب الوحي . وبهذا السياق تقحم في أنطلوجيا الخطاب الديني. فهي ليست قصصا عابرة وإنّما اعتبارية. ولهذا فلا جدوى في مناقشة حقيقتها التي تنتمي لعالم المقدّس الذي يعطيها شرعيتها ومشروعيتها. ومن هذه الزاوية يدعونا الثعلبي للولوج في حقل السرد الديني والاستماع إليه.و عبارة » القصص الحق « هي مقابل « أساطير الأولين « ، عبارة قرآنية أخرى استعملت مرارًا في القرآن على لسان مُكذّبي الوحي والخطاب القصصي القرآني من بين المكيّين المعاصرين لنبيّ الإسلام. و قد سجّل لنا القرآن بعض السجالات التي دارت بين محمد وبعض مُعارضي دعوته، والأوصاف التي وصفوه بها كساحر ومجنون وكاهن. فالمعارضة القريشية استعملت هذه العبارة، حسب القرآن، لوضع القصص الديني وخطاب الوحي في خانة البشر، في حين يُؤكّد القرآن على إلهية هذا الخطاب وأصله غير الإنساني.
وداخل سلسلة الكلمات القرآنية هناك مفردة "نبأ " التي نجد جدرها في كلمة "أنبياء"، و الحاضرة كذلك في العبارة القرآنية " النبأ العظيم". فجدر "ن- ب- ء" مكرّر 51 مرّة في القرآن في حين أنّ كلمة "نبيّ " استعملت 53 مرّة في القرآن.
فبناء على ما سبق يمكن القول إنّ عنوان كتاب العرائس مُكوّن من شقّين. شقّ جمالي ترمز له عبارة" عرائس المجالس" وشقّ موضوعي يستشفّ معناه من كلمات قرآنية لها دلالاتها العميقة و التي تختزلها عبارة " قصص الأنبياء".
4-1 الثعلبي و استقلالية سرد قصص الأنبياء
يستدعي كتاب العرائس مجموعة من الملاحظات والافتراضات المتعلّقة بتاريخ وسياق كتابته. فنحن نجهل زمن كتابته. و لا نجد أيّ تفسير لا في مقدمة الكتاب ولا خارجها. ولهذا فنحن مُلزمين بترك هذا الاتجاه في البحث، ونتساءل هل الثعلبي، إبّان كتابته للعرائس، كان يفكّر في مُؤلّف مستقل ومخصص لقصص الأنبياء مُوجّه للقصاص؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى ماهي المكانة التي يوضع فيها العرائس بالنسبة لتفسير الكشف؟
يعتبر الراوي من بين كبار المفسرين بشهادة ياقوت وآخرين. ومعظم الترجمات المُخصّصة للثعلبي تذكر التفسير أوّلاً وبعده كتاب العرائس. وتدفعنا هذه الملاحظة إلى الا فتراض أنّ الراوي كتب التفسير أولاً وبعد ذلك العرائس. فنفس القصص موجودة في التفسير لكن حسب تنظيم ومقدار يتتبّع النصّ القرآني وعملية التفسير والطريقة الذي تسمح بها. فالمفسّر يتتبّع آيات القرآن حسب ترتيب المصحف. فبعد التفسير المُفرّق خصّص الثعلبي لهذه القصص مُؤلّفا له منهجية وطريقة في السرد تخضع لخانة المجلس وإطارها السردي كما سنتطرق لذلك فيما بعد.
فإذا حاورنا مقدمة العرائس، التي هي عبارة عن خطبة قصيرة تتمحور بصورة عامة حول الحِكم التي تحويها وترمي لها قصص الأنبياء، نقرأ العبارة التالية: " قال الأستاذ أبو إسحاق بن محمد بن إبراهيم الثعلبي رحمه الله تعالى: هذا كتاب يشتمل على قصص الأنبياء المذكورة في القرآن بالشرح والله المستعان وعليه التكلان".
فالجمل السالفة تُؤكد عملية كتابة مؤلّف متعلّق بالقصص الديني المذكورة في القرآن. وتستدعي نظرنا كلمة "شرح" الواردة. فالراوي لم يستعمل كلمة "تفسير" المتعلقة بتفسير القرآن، وإن استعمل في سرده مجموعة كبيرة من السرديات التي تنتمي للتفسير،علاوة على حضور مجموعة من الأسماء التي لعبت دورا هاما في تاريخ التفسير.و لم يذكر الراوي كذلك كلمة "حكاية" أو "رواية". ونستنتج من هذه الملاحظات أن الراوي أدرج مؤلفه داخل خانة و بنية الشرح. فكلّ ما يقوم به في العرائس يعتبره شرحا للقصص المذكورة في القرآن. و يلاحظ القارئ للعرائس أنّ الثعلبي لم يقتصر في سرده على النصّ القرآني وإنّما تجاوزه. فهو يعتبر نفسه شارحا وليس قاصا كما ذكرناه في تعريف سابق. فوراء هذه الاستعمالات والمصطلحات حمولات معرفية هامة سنتطرق لبعض ملامحها في متن هذا البحث.
يمكن اعتبار الثعلبي متتبّعا ومتقصّيا بالمعنى المعجمي والسطحي لفعل" قصّ /يقصّ " للأخبار وباحثا عن الوحدات السردية التي تمكّنه من تقديم حكاية مثيرة وشاملة للرسول أو الشخصية التي توخّى قصّها. وهذا التقصّي قام به داخل كتب التفسير والتاريخ والحكي الديني بصفة عامة، وداخل صٍيغ السرد الأخرى التي مازالت تحت قيد الرواية الشفوية.و هكذا التصق اسم الثعلبي باسم الكسائي ، راوٍ آخر لقصص الأنبياء، الذي أعطى كذلك استقلالية لهذا النوع القصصي من الناحية الكتابية.
وتتحدّث كتب الطبقات والتراجم عن كتب قبل "العرائس" خُصّصت لقصص الأنبياء، ولكن هذه الكتب التي ضاعت أو النزر القليل الذي بقي منها لا تُخوّل لنا الجزم التام بفعاليتها وحضورها مثل الحضور التاريخي الذي تركه كتاب الثعلبي. فمن هذه الزاوية يمكن مقارنة كتاب العرائس بتفسير الطبري. فقد كانت هناك تفاسير قبل الطبري ولكن كتابه في هذا الميدان كان له أثر كبير على الأجيال اللاحقة. فكتاب العرائس حسب منظورنا من أبرز الكتب التي استطاعت جمع وتنسيق وتقصّي قصص الأنبياء وشرحها انطلاقا من زاوية الخبر ووضعها داخل دفتي كتاب مستقلّ. و بذلك تميّز عن جميع الكتب التي وصلتنا في الموضوع. و قد استغل الراوي بدون شك الكتابات والروايات التي تمتّ بالقصص، سواء كانت قابعة في بطون التفاسير وكتب التواريخ والسير والحديث الخ. وهي حصيلة سردية مُوزعّة، كما ذكر، في خطابات عديدة. واهتمام الثعلبي بالتفسير والوعظ سهّلا عليه هذا .الجمع
فمع الثعلبي وقف هذا النوع من السرديات على قدميه وأصبح كتابة قائمة بذاتها لها مؤلّفوها بشكل مُنتظم و إلى عصرنا الحالي، وأضحت تُدعى بـ "قصص الأنبياء". فزمنياً ينتمي كتاب العرائس للقرن الخامس الهجري الذي انتعش فيه التدوين. ويضم مادة سردية منسقة ومنظمة وممنهجة وقائمة على طريقة في التعامل مع القصص وذلك قبل أن تدخل هذه الكتابة القصصية في عملية النقد والجرح مع رواة وعلماء مثل ابن كثير الذي توخّى إقصاء العجيب وكلّ ما يتّصل بـ "الإسرائيليات ".
فمن هذه الزاوية يمكن اعتبار العرائس شهادة على الطريقة التي رُويت بها القصص في فترة معينة من تاريخها وتعامل المسلمين معها ومع خزّان الإسرائيليات الذي ضخّ كتبهم وخطابهم بعناصر دينية لابسة معطف الأسطورة والعجائبية.
يصعب علينا الكلام عن تلقّي كتاب العرائس و عن قرّائه. وذلك لأسباب تاريخية حيث تعوزنا شهادات دقيقة و عميقة. و كلّ ما نملكه هو بعض الشهادات التي يذكرها كُتاب التراجم والطبقات والتي تنوه بالكتاب وشهرته، كشهادة ياقوت السالفة التي تُؤكّد على "تداول الكتاب بين أيدي الناس". فشهرة كتاب الثعلبي ترجع أولا لاهتمامه بمادّة التفسير،وهو علم له مكانة هامة داخل المخيال الديني والعلمي الإسلامي.و ثانيا تحرّي الراوي الشمولية في حكيه و كذلك الجانب الهام من الأخبار العجائبية المكوّنة لقصصه. فإذا كان وهب من المطورّين الشفويين الأوائل لقصص الأنبياء والإسرائيليات فالثعلبي يمكن اعتباره وباستحقاق من مُنظّمي كتابة قصص الأنبياء في مرحلة تدوينية متأخّرة. وبذلك يعتبر العرائس محطّة هامة لكلّ مُهتم بتاريخ تدوين هذا الخطاب السردي في الأدب العربي القديم.
4-2 بنية المجلس ومؤالفة السرد
يُدرج الثعلبي جميع قصصه داخل 32مجلسا. و كلّ مجلس مُخصّص في الغالب لقصّة نبيّ من الأنبياء وأحيانا أكثر. فباستثناء المجالس الثلاثة الأولى التي تروي قصّة خلق الكون فالمجالس 29 الباقية مُتعلّقة كلّها بقصص الأنبياء. و يخضع المجلس لعملية تألفيّة وتصنيفيّة ناتجة عن مفهوم الكتابة لدى العلماء المسلمين القدامى. فهناك جمع وضبط ووضع و وصل بين مجموعة من الوحدات السردية المرويّة عن عديد من الرواة ينظمها الخيط السردي للمجلس.وهذه العناصر المروية تنسجم بواسطة أُلفة سردية أخرجها المؤَلف. ألفة موضوعاتية ونسق مُنظم ومُرتّب يخرجها المؤلف إخراجا جديدا على شكل مونطاج. فالقصة تصبح عبارة عن جمع قصصي مُتعدّد المشارب ولكنه يصبّ في مصبّ واحد وهو إثراء القصة وإغناؤها بأصناف من الأخبار.
لقد اختار الثعلبي كلمة "مجلس" كإطار لذكر القصص التي يحتوي عليها كتابه. ونجد هذه الكلمة في مجموعة من عناوين الكتب العربية القديمة المختلفة الفنون، كمجالس ثعلب اللغوي المشهور مثلا . فكلّ مجلس من مجالس الثعلبي يحمل عنوانا ومجموعة من الأبواب وأحيانا فصولا إضافية.و تخضع المادة المحكية في الغالب إلى مُقرّر سردي ينطلق من البدايات الأولى لكلّ نبي: مولده ونسبه وأوصافه وأحداث حياته فوفاته. و أطول مجلس هو الذي يحكي قصّة موسى ويتكوّن من 26 بابا، في حين يُعتبر مجلس ذي الكفل أصغر مجلس و لا يتجاوز سرده صفحة واحدة.
و هكذا فالمجلس هو عبارة عن مجموعة من الوحدات السردية التي تترجم أحداث نبيّ من الأنبياء بذكر تفاصيل وجزئيات روائية غائبة في النصّ القرآني. ومن هذا المنظور فقصص الأنبياء نُظّمت داخل مجالس على شاكلة حكايات ألف ليلة وليلة مُقسّمة على ليالي وسرديات الهمذاني والحريري في المقامات. فبوضع قصصه في خانة المجلس أعطى الثعلبي بنية تدوينية لوحدات قصصه حيث التصقت هذه الأخيرة بهذه الكلمة واحتوت ماض حكائي ديني بجميع رموزه.
المقرر السردي
المجلس |
عدد الأبواب |
شخصيات و قصص |
رقم 1 |
7 |
خلق الأرض |
2 |
7 |
خلق السماء |
3 |
0 |
خلق الشمس والقمر |
4 |
11 |
آدم/حواء/إبليس/قابيل/هابيل |
5 |
0 |
إدريس/هاروت/ماروت |
6 |
1 |
نوح |
7 |
0 |
هود |
8 |
0 |
صالح |
9 |
10 |
إبراهيم/النمرود |
10 |
0 |
إسماعيل/إسحاق |
11 |
0 |
لوط |
12 |
2 |
يوسف |
13 |
0 |
موسى بن ميشا |
14 |
0 |
عاد/شداد/إرم ذات العماد |
15 |
0 |
أصحاب الرس |
16 |
0 |
أيوب |
17 |
0 |
ذو الكفل |
18 |
0 |
شعيب |
19 |
26 |
موسى/هارون/ فرعون/ الخضر/ بلعام/ |
20 |
3 |
يوشع/كالب/حزقيل/إلياس/اليسع |
21 |
0 |
ذو الكفل تابع |
22 |
3 |
عيلي/شمويل/طالوت/جالوت |
23 |
9 |
داوود/ أصحاب السبت |
24 |
5 |
سليمان/بلقيس |
25 |
2 |
بختنصر/شعياء/إرمياء/دانيال/عزير |
26 |
0 |
عزير (تابع) |
27 |
1 |
لقمان |
28 |
0 |
بلوقيا |
29 |
4 |
ذو القرنين |
30 |
4 |
زكرياء/يحيى/مريم |
31 |
9 |
عيسى/هردوس/ الرسل الثلاثة/يونس/أصحاب الكهف |
32 |
3 |
جرجيس/شمسون/أصحاب الأخدود/أصحاب الفيل. |
لم يعلّل الراوي تقسيمه السردي والتراتبية القصصية التي تبنّاها. فإذا كانت المجالس الثلاثة الأولى تتمحور حول موضوع الخلق فالمجالس الأخرى تبتدئ بآدم وتنتهي بقصة أصحاب الفيل. ولا نجد في العرائس تفسيرا للقائمة الطويلة للشخصيات السردية التي حكاها الثعلبي. وليست جميعها مذكورة في القرآن، كموسى بن ميشا وجرجيس وآخرون. فالبرمجة تخضع إلى حد ما لتتبع قرآني وتوراتي. وأحيانا تتبع سرد القرآن فيما يتعلق بالأنبياء غير المذكورين في التوراة والإنجيل. ويختلف ترتيب قصص الأنبياء عند كلّ من الطبري والكسائي. و يبدو أنّ المكانة التي أعطاها القرآن لهؤلاء الأنبياء هي التي حدّدت، نسبيا، مكانتها ومراتبها. لكنّ هذا لا يمنع استقلالية بعض الرواة، مثل الثعلبي، ببعض القصص كقصة بولوقيا (مجلس 28) المذكورة كذلك في سرديات ألف ليلة وليلة.
4-3 المجلس وتركيبة التناص
يصادف قارئ مجالس الثعلبي عبارات عديدة تُحيل إلى قراءاته المتعددة والمصادر التي زوّدته بالمادة القصصية، مذكورة على الشكل التالي:
- قال أهل التفسير،
-قال أهل التاريخ،
- قال أهل السير،
- قال العلماء بأخبار الأنبياء،
- قال العلماء بقصص الأنبياء و سير الماضين،
- قال أهل الأخبار،
- قال الحكماء،
-قال الرواة أو أكثر الرواة أو عامّة الرواة،
- قال الرواة بألفاظ مُختلفة ومعانٍ متّفقة..الخ
وتربط هذه الجمل المتكرّرة بين الوحدات السردية التي أدرجها الراوي في مجالسه. و هذا يدفعنا إلى التأكيد بأنّ مشروع الثعلبي السردي اعتمد على نصوص كتابية وإن كنّا لا نستبعد حضور شكل شفوي قصصي مازال حيّا في عصره. فالجمل الروائية توحي بشيوع الأخبار المتعلّقة بقصص الأنبياء عن طريق رواة نجهل أحيانا هويّاتهم و يصفهم الراوي بـ " أكثر الرواة" أو "عامة الرواة" أو "أهل الأخبار"، و يصبح السرد هو الأساسي في حين يختفي الرواة تحت أقنعة لا ندري هل تعمّدها الثعلبي أم أنها استعمال متعارف عليه فالعبارات تؤلّف بين المحدث والمؤرخ والمفسر والراوي المجهول والإنجيل والتوراة والقرآن والإخباري و خطاب الحكماء الخ... والرواة وإن اختلفت هويتهم وعباراتهم،كما يؤكّد على ذلك الثعلبي، يتفقون في المرمى والمعنى وخدمة سرد قصص الأنبياء. استقى الراوي مادته القصصية من مصادر شتى متأرجحة بين الثقة والتصديق من جهة و بين الإسفاف وعدم التصديق من جهة ثانية.
وهذه الجمل وأشباهها استعملها الثعلبي بكثرة لربط وحداته السردية وإحالتها إلى معارف بعضها لها مكانة محترمة في المخيال الديني والمعرفي الإسلامي مثل التفسير.، و انتعشت سرديات الراوي بهذه الإحالات التي تحمل في طياتها ذاكرة خطاب قصص الأنبياء وتسرّبه في مجموعة من الخطابات والكتابات الدينية السابقة. فهذا التناص يطعّم محتوى القصة و يعطيها غنى وشرحا هي في حاجة إليه. فداخل عملية"الشرح"، كما ذكرنا، قدّم الثعلبي مشروعه القصصي الذي استفاد من إضافات روائية ناتجة عن المفسر و المؤرّخ و القاص. ففعل "روى" ومشتقاته حاضر بكثافة في بطن السرد. وهو دعوة مفتوحة للمستمع أو القارئ للولوج إلى عالم الحكي الديني.
و تشهد العبارات السالفة على قِدم رواية قصص الأنبياء وشهرتها وتداولها بين
الرواة. فعبارة " يروى في الأخبار المشهورة والمأثورة" ترمز إلى أن الحكايات والقصص ليست صادرة عن مخيّلة الثعلبي بقدر ما هي ناتجة عن خزّان سردي مُشترَك بين الرواة ومشهور سماعا ومأثور كتابة. فقارئ أسطورة خلق الكون الثعلبية، مثلا، يصادف مجموعة من الوحدات السردية مُنظّمَة في تفسير وتاريخ الطبري ونصوص أخرى و مروية من طرف الثعلبي. والطبري حاضر في سرديات الثعلبي كما هو الحال لمفسرين آخرين ومحدثين ومؤرخين سابقين. فتعامل الثعلبي مع مادة القصص الديني هو تعامل راوٍ ينتمي للقرن الخامس الهجري في فضاء جغرافي (نيسابور/خراسان), راوٍ أعاد تنظيم الوحدات السردية الموزعة للقصص الديني داخل ما سمّاه بالمجلس. و يستنتج القارئ بسرعة أن راوي كتاب العرائس له معرفة وإلمام بمجموعة من العلوم الدينية.
4-4 التوراة و قصص الأنبياء
ينتمي راوينا لقرن عرف حضور الفكر التوراتي عن طريق الترجمات و بواسطة انتشار خطاب الإسرائليات و القصص في كتب التفسير والتاريخ. وقد ساهم بعض الرواة، أمثال وهب بن منبه وآخرون كما سنذكره لاحقاً، في نقل هذا الثرات من كتب أهل الكتاب. فالفكر التوراتي المتعلِّق بقصص الأنبياء، في شكل الإسرائيليات، كان حاضرا كتابة ورواية في بطون الكتب المدونة ابتداء من أواخر القرن الثاني الهجري. و هذا الأثر المكتوب اختزل الرواية الشفوية لقصص الأنبياء.
4-5 الآية و الحكاية
كيف تطورت الآية إلى قصة وما هي العناصر التي ساهمت في ذلك؟
تبتدئ غالبية مجالس الثعلبي بآية أو أكثر .وهي إحالات قرآنية تذكر صاحب القصة أو ترمز إليه. وقد استرعت هذه الآيات السردية انتباه مجموعة من المفسرين القدامى حيث أخرجوها من خاصية الوحي ووضعوها في خانة الحكاية الطويلة. وقد طرحت قديما هذه الآيات على المفسرين إشكالية تفسيرها وإعطائها معنى، وتطويرها من نواة سردية بسيطة إلى قصص طويلة مُشوِّقة. وقد ساهم تفسير القرآن المنتمي إلى القرون الأولى ا لهجرية في تطوير ها. فهذا النوع من التفسير السردي نجده حاضرا عند مفسرين كبار أمثال مقاتل بن سليمان والطبري أو الثعلبي، الذين تأثّروا إلى حدّ ما بخطاب القاص .فالمقتطفات التفسيرية التي وصلتنا، وإن خضعت لعملية الكتابة ومنطق التنظيم، عند الطبري مثلا، مازالت تحمل ميزات غنائها الحكائي وذلك من خلال نظام تراكم الأخبار طبقا لصيرورة الزمن والعصور. و هيمقتطفات تشهد عن طابع التنوع والتكرار الناجم عن حقب طويلة من ممارسة الرواية الشفاهية و تعدّد الرواة.
و يفرّق العلماء المسلمون وبعض مؤرخي التفسير المعاصرين تفرقة حاسمة بين ما يدعى بالتفسير بالمأثور وما أطلق عليه بالتفسير بالرأي أو التأويل. و هذا تمايز لم يكن في الواقع حاسما بمثل هذا الوضوح خصوصا في مرحلة البدايات. وقد سبق و أشرنا إلى الاهتمام الكبير الذي أولاه الراوي لمادة التفسير. فهو يعتبر من كبار المفسرين في القرون الوسطى، وغالبا ما يُصنّف تفسيره في الخانة الأولى أي خانة التفسير بالمأثور لعنايته الشاملة والبالغة بالمأثور والجانب القصصي فيه.
تحدّثنا سابقا عن طريقة القرآن في سرده وتعامله مع قصص الأنبياء. وركزنا حينها على كون هذه الطريقة تندرج في عالم الوحي والذكر وليس في عالم القصة والحكاية. فباستثناء بعض القصص (يوسف وموسى) فجل القصص مروي بمنهجية قرآنية لا تعطي مكانة للجزئيات السردية. والمقتطفات والجزئيات مندمجة ومنظمة وموزعة في بنية السور القرآنية. والأخبار والأوصاف ترتكز بطريقة جذّابة ومثيرة على العنصر المهم في القصة مما ينجم عنها وضوحا في الموضوع وفقرا في الحكي. في حين أن العناصر المروية مربوطة بسياق الحدث النبوي المحمدي وفي خدمة الدعوة الإسلامية. فداخل هذا المشروع يمكن فهم القصص القرآني واختزالاته. وإنشائيته تقتصر على بعض المراحل من القصة ونمط من أنماطها.
و يمكن الجزم بأنّ الآية القرآنية هي النواة والبنية الأساسية التي ينطلق منها ويتمحور حولها الحكي، فهي تمهّد للتفسير و تستدعي الشرح. وإليها يرجع الثعلبي قصصه وداخلها يضع مشروعه السردي. فحول القرآن لا التوراة تتمحور القصة الثعلبية. فالآية إما فاتحة للقصة و إما مدعمة أو مطعمة أو معطية الشرعية لفصل أو وحدة سردية.
ويستشهد الثعلبي بالآيات القرآنية وذلك لإثبات قصصه محاولا إضفاء الصفة الشرعية عليها، آيات حول خلق الكون وآدم وحواء وإدريس ونوح وإبراهيم وموسى الخ..
و يُصادف القارئ كمية كبيرة من التفسير القديم متواجدة في مجالس الثعلبي. عدد من الوحدات التفسيرية منسوبة لكل من ابن عباس ووهب وكعب ومقاتل والضحاك والسدّي ومجاهد والطبري الخ… فالعرائس تحتوي النص القرآني أو البنية القصصية القرآنية و تحفّها وتتبعها تفسيرا وتأويلا. وبهذا فهي تلازم السرد القرآني وتعيد كتابته وروايته بطريقة أخرى لعبت الإسرائيليات دورا هاما في تطويرها.
وقد تسرّبت الإسرائليات في الحديث الذي يمثل جزءا مهما داخل عملية تأويل الآية القرآنية. فعن طريقه تسرّبت الأسطورة وانتعشت، وما يسمى بالأحاديث الضعيفة أو الموضوعة ليس في الغالب سوى نوعا من الخطاب الأسطوري المرفوض. فهناك ، من الناحية الشكلية،أصوات عديدة تخترق سرد الثعلبي وتثبت حضورها بين مروياته ومحكياته. فنحن إزاء تبعية وتناص وكلاهما لا يعني فقدان الابتكار مادام الراوي يستعين بالسند المباشر أو غير المباشر لتثبيت الخبر مُلفّقا كان أو منقولاً.
فما يهمنا داخل تراكمات التفسير القديم للقرآن والتي وصلتنا ابتداء من القرون الأولى هو أنها تأثرت إلى حدّ ما بخطاب القاص والمُذكّر. وهي مرويات خضعت فيما بعد لعملية الكتابة والتنسيق والتنظيم في بطون التفاسير الكبرى مروية على شاكلة تفسير مقاتل بن سليمان أو تفسير الطبري وغيرهما.
ونستننج مما سلف بأنّ أسطرة قصص الأنبياء ارتوت كثيرا من منهل وخزّان الإسرائيليات المتراكمة في التفاسير وكتب الحديث والتاريخ و التي عرفت سابقا رواية شفوية. فلا غرابة أن يثير مصطلح الإسرائيليات كتابات عديدة وجدالا قديما وحديثا.فهذه الكمية الكثيرة والمتعدّدة من الأخبار روى بعضها الثعلبي على لسان صحابة ومفسرين كبار ورواة متخصصين في هذا النوع من الأخبار كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار وهب بن منبه، علاوة على رواة ينتمون للمنظومة الدينية الإسلامية كعبد الله بن عباس وأبي هريرة وعلي وعمر. فهذه العملية غير خارجة عن نتاج الفكر الديني الإسلامي وحدود الثقافة الإسلامية.و من تمّ فالسرديات التي تدعى إسرائيليات ليست إبداعا خارجا عن المنظومة الثقافية والدينية الإسلامية بقدر ما ساهمت فيها عناصر من الداخل وطوّرت بنيتها، إما يهوداً أسلموا و إما قصاصاً، كما تخبرنا كتب التاريخ الإسلامي.
عبد الباسط مرداس
باحث وجامعي مقيم بفرنسا