" قراءة في أضمومة ( اشتهاء)1 لمحمّد الهلالي "
منذ الإطلالة الأولى على الأضمومة الشّعرية يتجلّى صوت الشّاعر الهلالي ممتزجا مع انشغالاته الثقافية المتعدّدة تارة في المجال الحقوقي وتارة في مجال الفكر والفلسفة وتارة أخرى في مجال الترجمة. إنّه صوت شعري آخر يعلن عن تحوّلات القصيدة الجديدة في العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين ضمن مظلّة الحداثة التي تتسع دائما لتغطية
التّجارب الجديدة القادمة من عوالم الشّعراء الشّباب الذين يأبون إلاّ أن يواكبوا التحوّل عبر تشخيص الهاجس في حالته الفطرية الشفافة قبل أن تدخله المساحيق ومعاول الترميم والتوجيه.
المجموعة تقوم أساسا على حوارية الحسّ الشعري الذي يخاطب الوجدان الذاتي تارة والوجدان الجمعي طورا والوجدان الصّوفي طورا آخر.
ولعلّ ذلك ما يستثيره ملفوظ العنوان لأول وهلة. فلفظة الاشتهاء تعلن مدلولها مباشرة ، وتربطه بمحدّدات مكانية ثلاثة هي : القرب والبعد والتيه. واللوحة الشعرية التي ترافق النصّ على مستوى غلافه تدعم أوجه الفرضية النصية القائمة على أساس التوق والرغبة في الامتلاك لعوالم تجاور الذات أو تجافيها بأبعاد مختلفة التقدير. فهي تبرز الذات الإنسانية في إهاب من اللين واللدنة ، ثمّ في حال من الافتتان بالبحث والتنقيب عن الحقيقة الثاوية خلف الواقع الذي تشطبه مكنسات الزمن الفسيح، بينما تحلّق فوقه أطيار ورقية لاتبدو لها أبعاد ولا أطراف.
هكذا يتّجه ا لخطاب الشّعري في هذه المجموعة إلى تجزئة الذّات وتفكيكها إلى أجزاء موزّعة على زوايا مختلفة تنمّ عن علائق وثيقة تربطها بوجودها الخاصّ . ولعلّ في هذه الإشارة ما يدلّ على المنزع الوجودي المهيمن على الرؤيا الشعرية لهذا العمل. إذ يفرق الوجوديون بين الوجود في ذاته ، وهوالوجود الموضوعي المنفصل ، والوجود لذاته ، وجود الأشياء في صلتها بالذات المدركة التي تحدد أبعادها بمقتضى خصوصية الإحساس ونوعية الرّؤية..
1.زاوية الوجدان الرّومانسي: وهي تحيط بتيمة ( القرب) الذي يختفي حول لوحات تعبيرية تحفل بالإهاب الرّمزي الشّفاف،الذي قد يفيض على إشراقات الملمح الصّوفي بين الحين والآخر. حيث تبدو المرأة/ الأنثى التي يحيط بها هذا الإهاب، في سماتها وأوصافها الأنثوية، بعيدة عن كونها مجرّد أنثى طبيعية لأن لها أكثر من وجه وملمح. فهي تارة تعكس معنى النضوج: ( قصيدة فردوس العين)
فاقتطفت من جنتك عنقودا
وعدت للجحيم
لأبني بين العبيد صمودا
وتارة تحمل سمات الصبا من غنج ودلال:
كلّ صباح
تهدين شعرك للغصب
وفي كلّ قميص نوم
تتركين شيئا من الشغب (2)
وطورا تبرز الأنثى دليل أسى وعربون عذاب:
قرأت في العذراء كتابي
ونهاية فرحي
بغيابي
وبداية رقصي في عقابي
قرأت في النساء
جحيم الأبواب
ونارا على نار (3)
هذه الأنثى هي بالنسبة للشّاعر جماع هيئات وسمات، هي الحركة المحيطة بالوجدان والفكر معا هي الإحساس بالدفئ والتــرف ينتابه إحساس ملازم بالقرّ والقرف. والأنثى بهذه الصفات المتباعدة لا تعدو أن تكون هي الحياة بألوانها وخيوطها المفارقة التي تشكل متن النّسيج.
2 . زاوية الوجدان الثوري : وتتمحور حول تيمة ( البعد ) ، المساحة الفاصلة بين الذات والموضوع. والبعد يرادف النوى أو التنائي وفق مفهوم الشعرية الكلاسيكية . والبعد وفق هذا المنظور هو مصدر اللّوعة والاشتياق والتّوق إلى تجديد الوصال واللّقاء. فهل يتيسّر هذا المعنى بحسب سياق المجموعة ومنحاها التعبيري؟
حينما نتأمّل قصائد هذا المسار نجد العناوين التالية:
بغداد آخر مآوينا – الرفيق- المعارض- وحيدا-وصية متمرّد- يأس- صلاة أخيرة- هدايا الله للعرب- ثورة دائمة- شي غيفارا- أزمنة الحصار فما هو البعد الذي يلملم هذه التيمات؟ لعلّ القارئ يتمثل العلاقة الجامعة بينها على مستوى مرجعية مشتركة لا تجاوز الإطار الثوري بمجاليه المختلفة التي تراوح الإحساس بالقهر والظلم والهزيمة والأسر ، وكلّها علامات قادرة على تفجير شحنة انفعال زائدة على الانفعال العادي الذي قد يحفل به الوجدان في مواقف أخرى أكثر حميمية. فإلى أيّ حدّ ينجلي هذا التقدير؟
لننظر إلى الشاعر وهو يستدعي ذكرى شي غيفارا:
رماد تمرّد ينسحب من عاصفه
تصطف وجوه الرسائل
وتتعانق أحذية ومناجل
ويبارك الرفاق للرفيق موته
بالنشيد والشعروالقنابل
ذكريات القبل مبتلّه
وآخر عناق يعانق ظلّه
لا مجد ولا موت
ولا عاصفة تحلّ محلّه
حمل غيفارا البنادق
سكن غيفارا الخنادق
وتعفنت الدنيا بعده
وصارت كلّ الأكاذيب حقائق (4)
هذه تجليات رؤيويّة نابعة من عمق الوجدان الفردي المنغرس في صلب القضية الجماعية التي يلتفّ حولها الوجدان الجمعي. من هنا كان الصوت الجمعي هو القوّة الحافزة لوجدان الشاعر في هذا المقام الشعري الرّهيب الذي يستعرض المسار الملحمي لبطولة الإنسان في صراعه مع قوى القهر والجبروت.
وفي قصيدة ( أزمنة الحصار) يضاعف هذا الوجدان من درجات الرّقة والرهافة ويصوغ ألوانا إضافية من الحزن والشجى الممزوج بالغيظ والضّجر:
دخل قرار الحرب بيتنا
وقبل أن نشرب الشاي
دمّروا الحدود فوقنا
خرج المحبّون منا ليعلنوا حبهم للريح قبل القصف... (5)
فعبر هذا المسار تختلط الرؤية بالكابوس أو الهاجس الليلي الذي يعوّ ض لغة الحلم . لأنّ الحلم موسوم بسمات اللاّوعي وانسياق الرّؤى عبر السّديم اللاّمتناهي . أما الهاجس فهو علامة وعي تعكسها الصّور الصّادمة الموشومة في الذاكرة عبرا لأماكن والأزمنة والحوادث التي يصنعها التاريخ :
الهاجس ليس حلم سبات بل حلم يقظة وانتباه وترقّب لحصول ردّ فعل معاكس يرد الاعتبار ويطوي بالفاجعة:
لا تغضب
فالآتي هو الأصعب
ولا تذهب
بعيدا
بل دع عدوك يذهب (6)
الهاجس الشعري الذي يوجه عملية الخلق الفني هو إذن، عملية شبيهة بحلم اليقظة التي يتم من خلالها التعامل مع الصفات لا الموضوعات ، حيث تبدو الذات في البداية كهاجس ثم تتلمّس ملامحها عبر الأشياء، عبر الرمز الذي يوحّد الهاجس بالشيئ. فالصّفة تكتسب ذاتيتها من نقيضها
(و الشّاعر الذي لا يستطيع أن يثبت في عمله الفني الصّوت الثاني أوالصّوت النقيض تموت تجربته على السطح، وتبقى بدون أبعاد) (7 )
3.زاوية الوجدان الصوقي: تتمحور حول تيمة ( التيه) بمعنى الشرود والتجوال . حيث يتحول الوجدان أخيرا صوب الملكوت الأعلى ، لاقتناص الصّفاء وإزالة أكدار النفس. هذا هو القصد الواعي المبتغى من تشكيل هذا المشهد الشّعري من الدّيوان الذي عنونه الشّاعر ب( تيه ) وهو في نفس الوقت عنوان لأطول نصّ يتضمّنه هذا الفصل. وتكاد كلّ العنونات الفرعية الأخرى تصبّ في عمق هذا القرار: تيه-انكسار-نسب اللذة-ضجر في زاوية القلب- أحذية المستشفى- استراحة التعب.
تبدأ لحظة التيه بومضة وعي ممسكة بتلابيب التّعب :
تعب السرير
تعب الخوف
تعب الشـّـــاعــــر
وفوق فكرة من حرير
قرب اللاّمبالاة
نام التعب
ستارة مثقوبة
تطلّ على سرير
استقر في فراغ
أنهكه التعب
وعنق قصيدة
يمتد من قبلة شاعر
على جدار تعب
ويد مسافر
تتلاعب باستراحة التعب (8)
ثم تستقر التجربة في عوالم الوجد الصّوفي الشّفاف الذي يستضمر تجارب
شيوخ الصّوفية ويتضمنهما بوعي والإشارة الصريحة :
الوقت حان
والأمر بان
والحدس خان
( فإذا تعبّدك الهوى
فاخضع له
واسجدلإلفك
كائنا ما كانا) (9)
...........
نحن سرّن أقمنا زمنا
في جرح الزمان
فأنا من أهوى
ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا (10)
هكذا يرتفع التناقض. فأنا الشاعر ليست فكرة منتهية. كما أنها ليست عاطفة منتهية. بل تعكس تصادما مستمرا بين العقلي والعاطفي بين ذاتها السفلى وذاتها العليا. وهذه الازدواجية تستلزم المشاركة ليرتفع التناقض إلى مرحلة الانفجار الفني.
الشّاعر يبحث عن صراع الألوان ، أما اللون الواحد في حد ذاته فلا قيمة له.) ولا يستطيع أن يرى النـّوع إلاّ عبر نقيضه ، لأنّ هذا النقيض هو الذي يخرجه من حالة الكمون الثابت إلى حال الحركة والتطور.( 11)
هوامش:
1 محمد الهلالي. اشتهاء... مطبعة دار النشر المغربية 2007
2 اشتهاء ص 8
3 اشتهاء ص16
4 اشتهاء ص48
5 اشتهاء ص49
6 اشتهاء ص44
7 منير العكش.أسئلة الشعر.المؤسسة العربية للدراسات والنشر ص 170
8 اشتهاء ص75
9 ابن عربي. لوازم الحب الإلهي
10 الحلاج . ديوان أبي مغيث الحلاج
11 منير العكش . المصدر السابق ص 169
عبد السلام ناس عبد الكريم - كاتب من المغرب